أشرف الشربيني
كان الأستاذ سيد قطب أديباً إستثنائياً ومثقفاً فوق العادة، إمتلك ناصية البيان وأصالة التصور وشجاعة الموقف، فصنع بهم دليلاً للمتعطشين للحرية، الباحثين عن العدالة.
هاجم الإستبداد والإستعمار جميعاً، فهدم في النفوس كلَّ بنيان شيَّدوه، ثم رسم طريقاً للخلاص منهما، لُبُّه وأساسُه الإسلام، فآمنت به الجماهير، وصار مصدر إلهام للثائرين.
فاتفقت على حربه كل سوءات البشر، من فاسد مستبد أو مستعمر خبيث أو حسود مخالف، فغالبهم وغالبوه.. حتى قتلوه.
لكن أفكاره لم تمت، إذ لا تزال تنتصر عليهم، في كل ميدان نازلوه فيه.
سيد قطب.. الأديب الثائر
فارق سيدٌ أستاذَه العقاد، بعد طول صحبة، بسبب افتقاده (روحانية) الاسلام، وفارق الأحزاب حين إكتشف أنه (لا يصلح لهذا الجيل عقلية أنصاف الحلول، فكلهم نشأوا وفي قرارة نفوسهم أن انجلترا دولة لا تُقهر)، ثم استقلَّ بنفسه عن الجميع، معلناً أن (هذا القلم ليس لحزب من الأحزاب، فقد بات صاحبه لا يرى في الأحزاب إلا أقزاماً، بعد أن خلا الميدان من كل جبار، فهو بهذا يتوجه إلى مصر الخالدة وهي أخلد وأسمى)، إلى أن التقى بكتاب الله الخالد (القرآن)، فبهره نَصُه ونَظمُه، منهاجه ونظامه، فأسلمه ذلك لجماعة الإخوان المسلمين، جندياً عاملا.
فصنع سيدٌ من نفسه حالةَ تفرُّدٍ، عزَّ نظيرُها فيمن سبقوه أو لحقوه، من أساتذة أو قرناء.
لكنه إفتقد (رفاق الطريق)، الذين أهدى إليهم طبعته الأولى من كتابه (العدالة الاجتماعية فى الإسلام)، فقال: (إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين، يَرِدون هذا الدين جديدا كما بدأ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون).
سيد قطب رائد الثورة وراعيها
وظل سيد طوال حياته، ينثر أفكار الحرية والعدالة، بذوراً في قلوب قرائه:
- فحذر من إتبِّاع الغرب:
فقال: (في مصرَ اليومَ دعوة حارة ومخطرة معًا، إلى تقليد الغرب، والجري وراء الغرب، وإن كان الغرب نفسه لا يعرف اليومَ وِجهتَه، وهو شارد كالضالِّ في متاهات الحياة)
- وأعلن أن للشعب حقوقاً:
فقال: (ليس الشعب متسولاً، فردُّوا له حقوقه وهو غني عن برِّكم)
- وهاجم الاستعمار كله:
فقال: إن (الانقسام بين الكتلة الشيوعية في الشرق والكتلة الرأسمالية في الغرب، هو انقسام ظاهرى وليس حقيقى، وأنه انقسام على المصالح لا على المبادئ.. وأن الصراع الحقيقى هو بين تلك الكتلتين وبين الإسلام، فاحذروا العدوين معا، القائم والقادم)
- ووصف أنصار الغرب:
بأنهم (أقلام خائنة وألسنة خادعة ومن هذه الأقلام قادة الفكر.. إلى هؤلاء العبيد أوجه سؤالي: متى كانت فرنسا صديقتنا؟ متى وقفت في صفنا مرة واحدة في التاريخ كله؟)
- وحذر من أمريكا:
فقال: (الذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا معنا ضد الاستعمار الأوروبي هم قوم إما مغفلون، أو مخادعون، يشكلون طابورًا خامسًا للاستعمار المنتظر لبلاد الشرق الإسلامي. إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحيانًا مع مصالح الاستعمار الأوروبي، ولكن هذا ليس معناه أن يكونوا- أي الأمريكان- في صف استقلالنا وحريتنا، إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام الأوروبيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا)
- وأخيراً تحدث عن الاسلام:
فقال: (والإسلام الذي يريده الأمريكان وحلفاؤهم في الشرق الأوسط ليس هو الإسلام الذي يقاوم الاستعمار، وليس هو الإسلام الذي يقاوم الطغيان، ولكنه فقط الإسلام الذي يقاوم الشيوعية! إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم، لأن الإسلام حين يحكم، سيُنشِئ الشعوب نشأة أخرى، وسيعلـِّم الشعوب أن إعداد القوة فريضة، وأن طرد المستعمــر فريضــة، وأن الشيوعيــة كالاستعمــار وباء، فكلاهما عدو، وكلاهما اعتداء)
وهكذا صار سيد بأفكاره تلك (رائد الثورة ومعلمها وراعيها) كما وصفه بحق، اللواء محمد نجيب، فدُرِّست كتاباتُه ضمن مناهج التعليم، منذ عام 1952م الى عام 1965م.
قتلوه.. لكنهم عجزوا عن هزيمته
لكن عندما رأى سيد نُذُر الإستبداد آتية، حينما بدأ عبد الناصر بتصفية خصومه، واصطدم بأكبر تيار مدني بالبلاد (الاخوان المسلمون)، أعلن سيدٌ إنحيازه بوضوح، فطالب بعودة الجيش إلى ثكناته، فانقلب عليه الضباط! وجُمِعت مؤلَّفاته من المدارس، وتشكَّلت لجان لتنقية مناهج التعليم من كتاباته، وصودرت كتبه ومؤلفاته، وأخيراً إعتقلوه وأشقائه، ومات ابن شقيقته من التعذيب في السجن الحربي..
وعندما عجزوا عن تركيعه وإخضاعه، قتلوه في أغسطس عام 1966، ثم شوهوا أفكاره، حين قالوا بأن كتاباته تأثرت بفترة سجنه، فصارت مصدر إلهام للتطرف والإرهاب!
وتصوَّروا أنهم بهذا سيمحون عقوداً، كان لسيد فيها دور مشهود، في المشهد الثقافيِّ والأدبيِّ والاجتماعيِّ والسياسيِّ المصريِّ والعربيِّ.. لكن خاب ظنهم، فلازالت المكتبات العربية والاسلامية تذخر، بالجديد من مؤلفات تتحدث عن سيد قطب وآثاره، في قضايا الحرية والعدالة والإسلام، وفي مكتبة الكونجرس توجد حوالي 152 رسالة ماجستير ودكتوراه أُجريت عنه فى الجامعات الامريكية حتى يوليو 2010، ولا زالت المؤتمرات التي تبحث في تراث الرجل وأفكاره، تُعقد كل عام في ذكرى استشهاده، مُعلنةً أن سيد لم يمت، وأن أفكاره لا زالت تلقى رواجاً وأنصاراً إلى اليوم.