تفاقمت الأزمة الاقتصادية في مصر خلال عامي 2022، 2023، حيث شهدت البلاد موجات غلاء غير مسبوقة، وارتفاعًا في أسعار السلع والخدمات التي تتغير صعودًا كل بضع ساعات، لا سيما أنّ الأجور والرواتب لم تزد بالشكل الذي يتناسب مع زيادة التضخم المستمرة في البلاد.

ووصل معدل التضخم الأساسي في يونيو السابق إلى 41% على أساس سنوي، وانخفضت قيمة العملة المصرية بنحو الثلث منذ أواخر أكتوبر، وقدر بعض الاقتصاديين أنّ المعدل غير الرسمي، الذي يشمل الاقتصاد غير الرسمي الضخم في مصر، يصل إلى 101%، وفقًا لموقع "دويتشه فيله" الألماني.

 

أزمة إنفاق النقد الأجنبي في مصر

وكشف نقيب الصحفيين الأسبق الخبير الاقتصادي، ممدوح الولي، عن أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية وفشل إدارة عملية الاقتراض خلال السنوات الماضية، وذلك بسبب عدم وجود أولويات مدروسة في إنفاق النقد الأجنبي الذي يتم اقتراضه، مما يضاعف المخاطر التي يتكبدها الوطن والمواطن جراء هذه السياسة ذات التكلفة المرتفعة.

وقال الولي، في حوار مع شبكة "رصد"، إن الخطر يتمثل في عدم وجود أولويات مدروسة في إنفاق النقد الأجنبي الذي يتم اقتراضه، مثلما تم الإنفاق على تفريعة قناة السويس التي لم تكن الملاحة الدولية بحاجة إليها، وبناء عاصمة جديدة بينما البلد تعاني من عجز مزمن بالموازنة، وغير ذلك من المشروعات غير ذات الأولوية، مثل: وجود مطار جديد، وقطار كهربائي، ومنوريل، بخلاف خطوط الأتوبيسات تتصل كلها بالعاصمة الإدارية قبل أن يسنكها أحد.

وتابع الولي: "كذلك إنفاق القروض على مشروعات لا تدر عوائد دولارية تسهم فى سداد أقساط القروض، كذلك ازدحام جدول سداد القروض، فالمبالغ المطلوب سدادها للعام القادم مثلا بالغة 28 مليار دولار بخلاف فوائد القروض قصيرة الأجل، رغم تأجيل دول الخليج سداد مستحقاتها إلى عام 2026، هي مبالغ تفوق قدرة الاقتصاد على توليد تلك المبالغ، خاصة أن هناك أمورًا أخرى يتحتم استيرادها، مثل: القمح، والذرة، والمشتقات البترولية من بنزين وسولار وبوتجاز، وغير ذلك من المواد الخام ومستلزمات الإنتاج للصناعة.

لكن الولي يعود ويؤكد على ضرورة الأخذ بالاعتبار أن المبالغ المطلوب سدادها خلال السنوات المقبلة ستزيد عن الأرقام المذكورة عندما يحين وقت السداد في ظل استمرار الاقتراض، وعدم وضع حد أقصى للاقتراض السنوي حتى الآن، والسقوط بمصيدة القروض؛ بحيث نقترض لسداد الأقساط التي يحل أجل سدادها، فعندما حل أجل سداد أحد إصدارات سندات خارجية مصرية بشهر فبراير الماضي كانت الفائدة عليها أقل من 6% عند إصدارها، تم إصدار صكوك سيادية بفائدة حوالي 11% لسدادها.

 

100 مليار دولار في 5 سنوات

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن هناك دولًا أخرى زادت ديونها الخارجية مثل باكستان والأرجنتين وغانا وتونس والأردن، مما جعل بعضها غير قادر على السداد مثل سيريلانكا وغانا، ولهذا لجأت لصندوق النقد الدولي لطلب قروض، ومن هنا فعليها تنفيذ روشتة الصندوق المؤلمة شعبيًا، التي تتضمن عادة زيادة الضرائب وتقليص الدعم وتحرير سعر الصرف، بغض النظر عن الآثار السلبية لذلك، وخاصة ارتفاع التضخم وتقليص العمالة بالحكومة وبيع الشركات العامة.

ويتابع الولي أنه بالنظر إلى مستحقات الدين الخارجي متوسط وطويل الأجل فإنها تبلغ بالعام القادم 28 مليار دولار، وفى عام 2025 نحو 18.3 مليار دولار وبالعام التالي نفس القيمة، وبعام 2027 نحو 12.7 مليار دولار، أي أنه مطلوب خلال السنوات الخمس من العام الحالي حتى 2027 نحو 100 مليار دولار للسداد، إلى جانب فوائد الدين الخارجي قصير الأجل في حالة عدم سداده.

ويؤكد الولي أنه مع تدبير الحكومة تلك المبالغ لسداد الأقساط والفوائد، فقد قامت بتقليص الواردات وضيقت على استخدام المصريين كروت الائتمان بالخارج، وهو ما أثر على الصناعة التي تعتمد على استيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، والنتيجة انخفاض الصادرات خلال الثلث الأول من العام الحالي بنسبة 27% بالمقارنة لنفس الفترة من العام الماضي، وتأثر العمالة بتلك المصانع، وكلما قل المعروض من السلع المستوردة؛ زادت أسعارها بالأسواق مما يزيد من معاناة الجمهور.

 

قدرة مصر على سداد ديونها

وعن قدرة مصر على سداد ديونها، قال نقيب الصحفيين الأسبق، إن القضية تتعلق بأن القروض تم إنفاق معظمها في أمور لا تمثل أولوية للناس، كما أنها لا تدر عوائد دولارية تسهم في سداد أقساط الديون، كما أن الموارد التقليدية للنقد الأجنبي تواجه بعض المعوقات، إذ أدى تأخر الإفراج عن البضائع بالموانئ من مواد خام ومستلزمات إنتاج إلى انخفاض الصادرات، كما أدى وجود سعر موازٍ للدولار إلى تراجع تحويلات المصريين بالخارج عن طريق البنوك الرسمية، وأدى الفارق بين سعر الصرف الرسمي والموازي، إلى عدم إدخال شركات السياحة المصرية جانبًا من إيراداتها السياحية عبر البنوك المصرية، ونفس الأمر يحدث من قبل الشركات المُصدرة.

وعلى الجانب الآخر، يؤكد الولي زيادة المدفوعات إلى الخارج، فبعد خروج الأجانب من البورصة المصرية، وبيع كثير من الأجانب جانبًا من مشترياتهم من أدوات الدين الحكومي المصري، وهو ما يسمى بالأموال الساخنة التي خرجت خلال الربع الأخير من العام الماضي والربع الأول من العام الحالي، التي تخطت 20 مليار دولار، ويضاف إلى كل ذلك زيادة الاستثمار الأجنبي الخارج من مصر، خلال العام الماضي إلى 13.66 مليار دولار وهو رقم غير مسبوق تاريخيًا، إلى جانب تعثر خطة الحكومة لبيع حصص من الشركات التابعة لها، التي كان يتوقع أن تسهم حصيلتها في علاج نقص الدولار، وصعوبة قيام مصر حاليًا بطرح سندات بالأسواق الدولية، بسبب ارتفاع أسعار الفائدة من ناحية وتراجع أسعار معظم الإصدارات السابقة لحوالي نصف قيمتها عند الطرح، ولجوء مصر إلى ضامن إضافي كي تطرح سندات بالأسواق الصينية بنصف مليار دولار، إذ لجأت إلى كل من البنك الإفريقي للتنمية والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية لضمان تلك السندات، وهو ما يشير إلى تراجع الثقة في الاقتصاد المصري، خاصة بعد تراجع تصنيفه عند وكالات التصنيف الرئيسة الثلاث موديز وفيتش وإستاندر آند بور، وفى ضوء كل تلك العوامل يزداد شك المؤسسات الدولية في قدرة الحكومة على سداد أقساط وفوائد الديون.

 

دول الخليج ودعم مصر

أكد ممدوح الولي أن دول الخليج لم تتخل عن النظام المصري؛ لأن تكلفة سقوطه بالنسبة إليهم أكبر من تكلفة دعمه، ولا ننسى أن مصر حصلت على ودائع خليجية، بقيمة 13 مليار دولار بالربع الأول من العام الماضي، بواقع 5 مليارات دولار من كلا من السعودية والإمارات، و3 مليارات دولار من قطر، ثم أتبعتها قطر بمليار دولار إضافية في نوفمبر الماضي، فهم مستمرون في دعمه ولكن بشكل أبطأ، إذ كان في السابق كلما واجه النظام نقصًا في العملات قاموا على الفور بمعاونته، بينما هم حاليًا يتعاملون بمنطق المستثمر أو التاجر، فهم يريدون حصصًا من الشركات المصرية الناجحة التي يحددونها، ويساومون في سعر الشراء.

وأضاف أن دول الخليج تنتظر خفضًا جديدًا متوقعًا بالجنيه المصري أمام الدولار، حتى يشتروا تلك الحصص بتكلفة أقل، لكنهم لم يتخلوا عن النظام المصري بدليل استمرار بعض المشتريات من قبل شركات خاصة خليجية، سواء إماراتية أو سعودية أو قطرية لحصص من شركات خاصة مصرية، لكن الحكومة المصرية تعول على مشتريات الصناديق السيادية الخليجية الأكبر في قيمة الشراء، بما يحقق لها موارد تساعدها على تخفيف أزمة نقص الدولار، وحتى تكون رصيدًا من الاحتياطيات من النقد الأجنبي، يساعدها على اتخاذ قرار الخفض الجديد المرتقب للجنيه المصري أمام الدولار.

ويستدرك الولي قائلًا: "لكن كل طرف ينتظر المبادرة من الطرف الآخر، والأزمة المصرية ليست حديثة بل هي سابقة للحرب الروسية الأوكرانية، بدليل أن المصارف التجارية المصرية تعاني من عجز دولاري منذ يوليو 2021 وحتى الآن، وانضم إليها البنك المركزي في ذلك العجز الدولاري منذ مارس من العام الماضي وحتى الآن.

 

إزالة الشكوك حول قدرة مصر على تسديد ديونها

وأشار الولي إلى أن مصر يمكنها أن تزيل الشكوك حول قدرتها على سداد ديونها، ولكن ذلك يقتضي منها أن تعود الأمور الاقتصادية إلى طبيعتها، من حيث سيادة دور القطاع الخاص بالنشاط الاقتصادي، والإغداق بالحوافز للمنتجين بالمناطق الصناعية، ومواجهة البيروقراطية في إصدار رخص التشغيل ومنح الأراضي الصناعية والخدمية، وتراجع دور الجيش بالاقتصاد، ووجود سعر صرف واحد بالأسواق، واستجابة البنوك لطلب المستوردين للدولار، والاستجابة للطلبات العادية من أجل السفر والعلاج وتعليم الأبناء بالخارج.

أي ببساطة التنفيذ العملي للوحة أسعار الصرف الموجودة بفروع البنوك، أي الشراء والبيع بالسعر المعلن، وليس كما يحدث منذ عدة سنوات بتنفيذ سعر الشراء فقط دون تنفيذ  البيع للجمهور  بالسعر المعلن.

ويطرح الولي تجربة تحرير سعر الصرف عام 1991 التي استمر نجاحها حتى الأزمة الآسيوية عام 1997، حيث تم السماح وقتها ببيع وشراء الدولار من خلال فروع البنوك وشركات الصرافة دون السؤال عن مصدر العملة، وعدم تجريم التعامل في الدولار بتلك العقوبات القاسية الحالية، فعندما يجد الأفراد أن البنك يبيع لهم الدولار في أي وقت، فقد زادت ثقتهم في إمكانية الحصول عليه عندما يرغبون، فباعوا ما توفر لهم من فوائض دولارية للاستفادة من فارق سعر الفائدة الأعلى على الودائع بالجنيه وقتها.

ويؤكد الولي أنه لو حدث ذلك؛ لتدفقت تحويلات المصريين على البنوك كما حدث في أوائل التسعينيات، وستزيد الصادرات وسيكون المناخ أفضل بالنسبة للاستثمارات الأجنبية سواء المباشرة أو غير المباشرة – الحافظة – مما ينتج عنه فائض دولاري يُسهّل من سداد أقساط وفوائد الدين. وهو حل يحتاج الى إدارة جديدة وجرأة في اتخاذ القرار، ووقت حتى تتم استعادة الثقة داخل الأسواق سواء بالنسبة للقطاع الخاص أو الأفراد، وهو ما نرى أنه يحتاج إلى ما بين عامين إلى ثلاثة على الأقل حسب السيناريو المتفائل.