توقعت العديد من المؤسسات المالية العالمية أن يقدم البنك المركزي على تعويم جديد للجنيه، لكن دون أن يحدث ذلك فعليًا، رغم استمرار صعود سعر الدولار مقابل الجنيه في السوق الموازية.

فالدولار بحسب السعر الرسمي الذي حدده البنك المركزي هو 31 جنيهًا تقريبًا، وفي السوق الموازية يباع بحوالي 40 جنيهًا.

 

"تعويم مُدار"

ورغم أن القرض الذي حصلت عليه مصر نهاية 2022 من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار كان مصحوبًا بشروط من بينها خصخصة العديد من الشركات العامة والإبقاء على سعر صرف مرن للجنيه حتى يعكس قيمته الحقيقية، فإن الأستاذ المساعد في الجامعة الأمريكية، الباحث غير المقيم في مركز "كارنيجي" للشرق الأوسط، عمرو عادلي، أكد أن مصر لا تزال في إطار نظام "تعويم مُدار" لأن البنك المركزي هو من يتخذ قرار تعديل قيمة الجنيه، فضلًا عن وجود قيود بالطبع على الاحتياطات الأجنبية والاستيراد"، وفقًا لموقع "الحرة".

وأقر رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، بالفعل في 17 مايو الماضي، أن الجنيه مقوم بالفعل بأقل من قيمته، آملا في أن زيادة الاستثمارات ستحل أزمة العملة الصعبة وتعيد الجنيه لقيمته الحقيقية.

 

السياحة ومبيعات أصول الدولة

وفي السياق ذاته، توقع محللو بنك "سيتي غروب"، بقيادة لويس كوستا، أن تؤخر مصر عملية خفض قيمة الجنيه حتى سبتمبر على الأقل، وسط احتمالات بأن تسهم زيادة عائدات السياحة ومبيعات أصول الدولة في تخفيف الضغط على الاقتصاد.

وتوقع المحلل ذاته في وقت سابق من الشهر الماضي، أن البنك المركزي المصري سيؤجل قراره بشأن تخفيض الجنيه على الأقل حتى نهاية يونيو. وقال لويس كوستا آنذاك إن حدوث انخفاضًا حادًا آخر في الجنيه قبل نهاية السنة المالية المنتهية في 30 يونيو قد يعرقل هدف الحكومة المتمثل في تحقيق عجز في الميزانية بنسبة 6.5% وتثبيت ديون البلاد مقارنة بناتجها المحلي الإجمالي.

وفي تقرير حديث صدر الخميس الماضي، ونشرته وكالة بلومبرج، قال لويس كوستا، الرئيس العالمي للائتمانات السيادية في الأسواق الناشئة في البنك الأميركي، في مقابلة: "إن التوقعات الاقتصادية بالنسبة لمصر وصلت إلى ذروتها".

يأتي هذا التحول في المعنويات بعد علامات على أن الحكومة تكثف جهودها لبيع أو إدراج جزئي للشركات التي تسيطر عليها الدولة وانتعاش متوقع في قطاع السياحة إلى مستويات ما قبل الوباء.

وقال كوستا إنه بعد تخفيف أزمة العملة الأجنبية في البلاد وتهدئة مخاوف المستثمرين من إعادة هيكلة الديون، دفع بنك "سيتي جروب" إلى "تأسيس وجهة نظر أكثر إيجابية" بشأن الجنيه والسندات الدولارية على المدى القصير.

وأضاف كوستا: من المحتمل ألا يتم اتخاذ أي قرار لإضعاف الجنيه حتى سبتمبر القادم، بالتزامن مع موعد مراجعة صندوق النقد الدولي لمدى الالتزام ببرنامج إنقاذ تبلغ قيمته 3 مليارات دولار، أو بعد شهر من ذلك التاريخ خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في مدينة مراكش المغربية، وفقًا لـ"Investing".

وقال كوستا: "يمكن أن يكون موسم الصيف هذا عامل استقرار مهم على المدى القصير حتى نبدأ في الحصول على مراجعات جادة مرة أخرى في سبتمبر وأكتوبر".

وأضاف الخبير الاستراتيجي المقيم في لندن إنه في حين أن العملة ستظل على الأرجح "مستقرة بشكل معقول" في الشهرين المقبلين، يتوقع "سيتي غروب" أن تضعف إلى ما يصل إلى 36 مقابل الدولار بحلول نهاية ديسمبر و37 العام المقبل. مشيرًا إلى أنه في الوقت الحالي يتحرك الجنيه في "نطاق تقييم محايد".

 

تحديد قيمة الجنيه

يرى الخبير المصرفي، طارق إسماعيل، أن قيمة الجنيه العادلة تتحقق عندما يترك سعره حرًا بناء على العرض والطلب ولا يكون هناك ضغط لتخفيضه حتى يكون هناك جذب للاستثمارات أو من خلال ضغط شعبي لرفع قيمته لإظهاره بقيمة أكبر من قيمته الحقيقية".

لكن عادلي قال، في حديثه مع موقع "الحرة"، إن هناك مدارس اقتصادية عديدة لتحديد القيمة العادلة للعملة".

وأوضح أنه "على سبيل المثال، هناك تقييم بناء على حساب معدلات التضخم وسلة عملاء الشركاء التجاريين مع الدولة، والميزان التجاري بينهم، لكن من الناحية الفعلية هذا لا يعكس القيمة الحقيقية لأن هناك عوامل أخرى تؤثر على قيمة العملة أهمها المضاربة على العملة والتي تجعل من الصعب تقييم الجنيه". 

وأضاف: "لا يتوقف الأمر على العرض والطلب على العملة، وإنما المضاربة عليها والتوقعات المستقبلية لها، فضلًا عن سياسة الدولة، والتضخم، والاحتياطي النقدي الأجنبي والتوقعات المستقبلية له، وكمية الاستثمار".

وبحسب تقرير لشبكة "سي أن بي سي"، فإن عاملين أساسيين يؤثران في تحديد قيمة الجنيه بشكل كبير، وهما: الميزان التجاري للبلاد (الفرق بين صادرات البلد ووارداته من السلع)، والذي بلغ العجز به نحو 6.4 مليار دولار في الربع الثاني من العام المالي الحالي. بالإضافة إلى صافي الأصول الأجنبية (الفارق بين ما يملكه القطاع المصرفي من أصول بالعملات الأجنبية والالتزامات بالعملات الأجنبية تجاه غير المقيمين)، والتي بلغ العجز فيها نحو 280 مليار جنيه بنهاية فبراير 2023.

وشهد الجنيه ارتفاعًا نسبيًا أمام الدولار في السوق الموازية خلال الأيام الماضية، إذ انخفض سعر الصرف من حدود 42 إلى حدود 38 جنيها للدولار الواحد.

ويوضح عادلي أن "ارتفاع وانخفاض قيمة الدولار أمام الجنيه، له علاقة بعدم اليقين لأننا نعيش فترة فيها قيود كبيرة على الاستيراد وبالتالي هناك مشكلة في العرض والطلب، كما أن السعر غير الرسمي متقلب جدًا بطبيعة الحال"، مؤكدًا في الوقت ذاته أن "الأسعار المحددة في السوق الموازية لا تعكس العرض والطلب بقدر ما تعكس المضاربة على سعر العملة في المدى القصير".

 

لماذا يتأخر التعويم الرابع؟

ويرى الخبير المصرفي، طارق إسماعيل، أن قيمة الجنيه العادلة تتحقق عندما يترك سعره حرًا بناء على العرض والطلب ولا يكون هناك ضغط لتخفيضه حتى يكون هناك جذب للاستثمارات، أو من خلال ضغط شعبي لرفع قيمته لإظهاره بقيمة أكبر من قيمته الحقيقية".

ويستبعد إسماعيل أن تقوم الحكومة بتعويم قريب "لأنهم بالفعل عندما قيّموا الجنيه خفضوه لقيمة أقل من قيمته الحقيقية حينها وكانت القيمة مغرية جدًا للمستثمرين، والحكومة ترى أنها لو قامت بتعويمه مجددًا فإن المشكلة حينها أن الأصول ستقيم بشكل بخس من وجهة نظر الحكومة".

ويرى عادلي أن الحكومة لا تريد أن تقدم على تعويم جديد بسبب التضخم شديد الارتفاع، وأي تخفيض جديد في قيمة الجنيه، فهذا يعني ارتفاعًا جديدًا في أسعار السلع والخدمات، وبالتالي، فإن الدولة تأمل في أن تتمكن من إدخال استثمارات أجنبية يمكن أن تسهم في استقرار الجنيه مع تحسين وضع الموازين التجارية الخارجية، لكن في الوقت نفسه فإن المستثمرين الأجانب لا يريدون أن يستثمروا أموالًا إلا بعد حصول تخفيض آخر لقيمة الجنيه بما يعكس ما يعتبر قيمة عادلة له".

وبحسب وكالة بلومبيرج، فإن التوقعات تشير إلى أن البنك المركزي سيؤجل خطوة التعويم المرتقبة إلى ما بعد انتهاء السنة المالية الحالية في يونيو 2023، لاحتواء عجز الميزانية.

وأضاف أن "مصر تلجأ في هذه الحالة إلى تعويض انخفاض النمو وزيادة العجز بالاقتراض، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة فوائد الديون بالدولار وزيادة الطلب عليه، فتنخفض قيمة الجنيه أمامه".

يشير المركز إلى أنه "طالما يتم استبدال القروض بقروض وسداد القروض بقروض أخرى، سيستمر انهيار قيمة العملة المحلية، ما يحول دون الخروج من هذه الحلقة المفرغة".