بقلم : أشرف الشربيني
فنكبة فلسطين عام 1948 لم تُروى كاملةً بعد! تلك الرواية التي كُتبت بدماء الشهداء، فتناثرت أشلاءً على وجه نحو قرنٍ من الزمان، ولم تستطع أصباغُ الدنيا أن تُجمِّلَها أو أن تمحو من التاريخ آثارَها، رواية كشفت أحداثُها أنّ أَسر التبعية أشد وأقسى من حكم الاحتلال، وأن أمتنا لم تمتلك بعد إرادتها! رواية فيها أبطال صنعوا الانتصار، وخونة مستترون مكَّنوا للهزيمة!
الرواية فيها أنظمةٌ تواطأت أو في أحسن أحوالها فَّرطت، وشعوبٌ قاومت، فصنعت انتصاراً ضيعه من تواطأ وفرَّط، فغياب الرواية الكاملة عن أجيالنا المعاصرة، يعني أن النكبة لا زالت مستمرة، فامتلاك الوعي بحقيقة الأحداث، أول درجات التحرر والاستقلال، ونحن هنا لا نسرد تفاصيل الرواية، وإنما نشير إلى أهم حقائقها..
أولاً (المقاومة الفلسطينية):
فعندما احتلّ الإنجليز القدس عام 1917، بدأوا في تنفيذ مخططاتهم من أجل إقامة دولة لليهود في فلسطين، لتكون قاعدة عسكرية لهم في قلب العالم الإسلامي، وبدأ الوجود اليهودي بفلسطين والقدس يزداد، مما أدى إلى اندلاع ثورة البراق عام 1929، وحين بدا للفلسطينيين انحياز الإنجليز لليهود، أخذت الثورة الفلسطينية بُعداً آخر، فظهر الشيخ عز الدين القسَّام، قائداً للعمل المسلح ضد الصهاينة والإنجليز، وباستشهاد الشيخ القسام، تولى بعده الشيخ فرحان السعدي مفجراً ثورة 1936م، وما لبث أُن أُعدم عام 1937 وهو في الثمانين من عمره، ثم تدخل الحكام العرب لإخماد الثورة بسبب ثقتهم في الحكومة البريطانية!
ثانيا (الإخوان المسلمون):
بدأ الإخوان المسلمون بالاتصال بالشعب الفلسطيني وقياداته مبكراً، ثم نبَّه الإخوان إلى خطورة المشروع الصهيوني على الأمتين العربية والإسلامية، ونادوا بضرورة العمل على مقاومته.
فبعد الحرب العالمية الثانية قام الإخوان بتدريب الشباب الفلسطيني على حمل السلاح، وقاموا بتوحيد أكبر منظمتين فلسطينيتين، وهما "النجادة" و"الفتوة"، فتوحدتا تحت اسم (منظمة الشباب العربي)، واختير وكيل الإخوان للشؤون العسكرية (محمود لبيب)، مسؤولاً عن تنظيم هذه التشكيلات..
قام إخوان (النظام الخاص) بإعطاب سفينة يهودية كانت تحمل السلاح إلى اليهود بفلسطين عام 1947م، بناءً على معلومات وصلت للإمام حسن البنا من الشيخ الجعبري، أحد كبار التجار الفلسطينيين.
حاول الإخوان المسلمون متنكرين الدخول إلى فلسطين والقيام بأعمال جهادية بالاشتراك مع الفلسطينين، فنجحوا مرَّات وأخفقوا أخرى..
وأخيراً دخلت كتائب المتطوعين من الإخوان المسلمين ومن غيرهم إلى فلسطين، بعد صدور قرار التقسيم في نوفمبر 1947! (وكان الإمام حسن البنا يرى عدم دخول الجيوش العربية فلسطين، وترك الأمر للمتطوعين)
استطاع متطوعو الإخوان المسلمين وغيرهم، مع المقاومة الفلسطينية، من الحفاظ على حوالي 80% من أرض فلسطين التاريخية بعيداً عن اليهود.
لكن أخطر ما قام به الإخوان المسلمون، فك الحصار عن أكثر من ستة آلاف فلسطيني ومايقرب من خمسة آلاف جندي مصري بقيادة اللواء سيد طه والمشهور باسم "الضبع الأسود"، حيث حوصروا لأكثر من ستة أشهر في بلدة (الفالوجة)، آخر معقل تحت السيادة العربية في الجزء المحتل من فلسطين عام 1948، وكان اللواء السيد طه رفض الانسحاب من البلدة مستسلماً للعصابات الصهيونية، ولم يستطع الجيش المصري فك الحصار عنهم، فلجأ إلى قائد الإخوان المسلمين في صور باهر (لبيب الترجمان)، الذي نجح في الوصول إليهم ومدِّهم بالمؤن وإنقاذهم..
ثالثا (الجيوش العربية السبعة):
وهذه دخلت متأخرة بعد بداية الحرب ودخول متطوعي الإخوان بنحو خمسة أشهر ونصف، لكن هذه الجيوش كانت أقل عدداً وعدةً من العصابات الصهيونية! ففي نهاية الحرب، وصل عددهم إلى 40 ألفاً، مقابل نحو 106 ألف من العصابات الصهيونية!
وكانت قيادة الجيش الأردني بيد ضابط إنجليزى (جلوب باشا)! والذي أصدر أوامرَه بالانسحاب من مدينتي اللد والرملة! فأدى ذلك إلى هجرة جماعية للفلسطينيين، وانكشاف ميمنة الجيش المصرى!
والجيش العراقي ذهب إلى الحرب بغير خرائط! ثم أُمِر بالانسحاب من المثلث العربي (جنين – نابلس – طولكرم)! رغم توسلات الأهالي !
والجيش المصري صدرت له أوامر من القاهرة، باعتقال الإخوان المسلمين الذين كانوا يشكلون الجزء الأكبر من المتطوعين! بل وتم القبض على الشيخ محمد فرغلي أحد قادة الإخوان المسلمين في فلسطين، والذي عاد للقاهرة لجمع مزيد من المجاهدين لإنقاذ الجيش المصرى في فلسطين!
وهذا لا ينكر أن أفراداً من هذه الجيوش حققت بطولات تُروى فى الحفاظ على الشرف العربي في فلسطين، لكنها كلَّها ضاعت بآداء السياسيين!
وهكذا ذهبت الجيوش إلى حرب فلسطين، بلا سلاح وبلا أوامر وبلا خطة حرب.. فكانت النتيجة، سقوط معظم الأراضي الفلسطينية التي حافظ عليها الإخوان والمقاومة الفلسطينية بيد العصابات الصهيونية، بداية من مدينة عكا وحتى سقوط صحراء النقب والتي تمثل نصف مساحة فلسطين!
وبنهاية الحرب، انتقل شرَرُها إلى الداخل العربي، فتم اغتيال حسن البنا، وحُلّت جماعة الإخوان المسلمين، ظناً منهم أن ذلك سوف يمهِّد لانطلاق قطار التطبيع مع دولة الكيان الصهيوني.. حتى فاجأتهم (حماس) عام 1987 و(محمد مرسي) في عام 2012... ولا زالت المعركة مستمرة.