سعيد الحاج

 

كما في الاستحقاقات السابقة، يتجاوز الاهتمام بالانتخابات المقبلة في تركيا حدودها الجغرافية، حيث تتركز أنظار الكثيرين في المنطقة والعالم على مسارها ونتائجها المرتقبة، ويزداد منسوب الاهتمام بسبب حالة التنافس الشديد والفرص المتقاربة بين المتنافسين لأول مرة بهذه الدرجة.

وبينما يبدو الاهتمام منطقيًا ومبررًا، فإن بعض النقاش يدور حول احتمالية التدخل الخارجي للتأثير على نتائج الانتخابات، ولا سيما مع تصريح وزير الخارجية التركي بهذا الصدد.

 

تصريح صويلو

قبل أيام وفي نشاط انتخابي، قال وزير الداخلية مرشح حزب العدالة والتنمية للانتخابات البرلمانية سليمان صويلو إن 14 مايو المقبل، وهو موعد الانتخابات، هو محاولة انقلاب سياسي من الغرب بعد أن فشل في الانقلاب العسكري في 2016.

أثار التصريح جدلاً كبيراً، حيث عدّته المعارضة مؤشراً على عدم نية أردوغان وحزب العدالة والتنمية تسليم السلطة في حال خسارتهما الانتخابات، بينما تداولته أوساط الحزب الحاكم من باب احتمالات التدخل الخارجي في الانتخابات المقبلة.

فالوزير أعاد التذكير بتصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن حين كان ما زال مرشحاً رئاسياً، بأن على بلاده دعم المعارضة التركية لإسقاط أردوغان، وحين سئل عن ذلك قال إنه قصد إسقاطه بالانتخابات. ومن هنا، رأى الوزير أن تحالف المعارضة وتوافقها على مرشح توافقي (الأمر الذي لم تستطعه في الانتخابات السابقة)، وتنسيقها بهذه الدرجة فيما بينها، مجرد انعكاس لكلام بايدن أو تطبيق عملي له.

وفي مقابلة حوارية لاحقة مع قناة "خبر تورك"، قال صويلو إن حزبه سيحترم قرار الناخب، لكن من واجبه توضيح الأمر المتعلق بالتدخلات الخارجية المحتملة لهذا الناخب، أي أنه أعاد التأكيد على سردية التدخل الخارجي.

في نفس الإطار، يمكن وضع تصريحات الرئيس التركي الذي انتقد كلام مرشح تحالف الشعب المعارض كمال كليجدار أوغلو عن تأمينه استثمارات خارجية بـ300 مليار دولار أمريكي ستأتي تركيا في حال فوزه، واضعاً الأمر في إطار التدخلات الخارجية لصالح طرف على آخر.

تضاف هذه التصريحات لبعض الأحاديث التي سادت مؤخراً في الأوساط المؤيدة للرئيس التركي عن دور غربي لدعم المعارضة، وخصوصاً رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو حين كان مرشحاً محتملاً للانتخابات الرئاسية، مثل لقاء الأخير مع سفراء بعض الدول الغربية. كما سرت شائعات لم تتأكد بأن أطرافاً غربية كان لها دور في توافق الطاولة السداسية بعد خروج الحزب الجيد منها إثر اختيار كليجدار أوغلو مرشحاً توافقياً للرئاسة.

أما الإشارة الأخيرة فأتت كذلك على لسان وزير الداخلية في اللقاء المشار إليه، حيث قال إن لديه معلومات مؤكدة بتسجيل صوتي أن الطاولة السداسية كانت أرسلت وفداً لسفير إحدى دول الاتحاد الأوروبي، لإطلاعه على نص مشترك توافقت عليه.

كما أن فكرة التدخل الخارجي في الانتخابات تلقى رواجاً بسبب توتر علاقات تركيا خلال السنوات الأخيرة مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، وعدم رضا الكثير منها عن سياسات الرئيس التركي و/أو شخصه. فضلاً عن حملات إعلامية غربية تهاجم أردوغان قبل كل استحقاق انتخابي، كان آخرها غلاف صحيفة إيكونوميست اللندنية قبل أيام عن "الانتخابات الأهم في 2023″، والذي دعا لانتصار المعارضة وإسقاط أردوغان مستخدماً عبارات من قبيل "أنقذوا الديمقراطية" و"يجب أن يرحل أردوغان".

فإلى أي مدى يمكن للتدخل الخارجي أن يؤثر في العملية الانتخابية المقبلة؟

 

دور الخارج

يمكن نقاش فكرة التدخل الخارجي في الانتخابات التركية في ثلاثة مستويات: الرغبة، والسعي، والتأثير. أي: هل ثمة دوافع لأطراف خارجية كي تود التأثير في نتائج الانتخابات المقبلة، وهل هناك من بينها من بذل جهداً في هذا الإطار، وأخيراً -وهذا هو الأهم- إلى أي مدى تبدو هذه الأطراف قادرة على التأثير في النتائج.

وقبل النظر في هذا المستويات، ينبغي الإشارة لبعض المعطيات المهمة بين يدي التقييم:

أولها أن السياسة الخارجية أثرها محدود عادة في الانتخابات التركية، وهي في الانتخابات المقبلة أقل حضوراً وأثراً بسبب ثقل الملفات الداخلية، مثل الاقتصاد والزلزال واللاجئين والتحالفات وغيرها.

والثاني أن حدة الاستقطاب بين الحكومة والمعارضة بخصوص السياسة الخارجية تراجعت في السنتين الأخيرتين بعد تقارب أنقرة مع عدد من الأطراف الإقليمية.

والثالث أن التوتر مع الولايات المتحدة تحديداً تراجع نسبياً من خلال بعض الخطوات التركية وآخرها الموافقة على عضوية فنلندا في الناتو.

والأخير أن بعض التدخلات الخارجية، وربما معظمها، يؤدي في العادة لنتائج عكسية أي الالتفاف أكثر حول أردوغان.

فيما يتعلق بالولايات المتحدة على وجه الخصوص، حيث أشارت تصريحات وزير الداخلية التركي لها بشكل مباشر، كان التوتر السمة الأبرز لعلاقاتها مع تركيا خلال السنوات الماضية، وبشكل أدق مع أردوغان. بيد أن الشهور الأخيرة حملت بعض المتغيرات، مثل موافقة أنقرة على انضمام فنلندا للناتو، كما أن واشنطن قد اعتادت على إدارة العلاقات مع أردوغان وأسلوبه ومناوراته، وبالتالي قد لا ترغب بالضرورة في بديل لا تضمن كيف سيدير العلاقة أو ما إذا كان سينجح بذلك. ومن مؤشرات تبدل الموقف الأمريكي من أردوغان نسبياً، موافقة واشنطن منتصف الشهر الفائت -أي في سياق الانتخابات- على بيعها مجموعات تحديث نظام اتصال ومعدات وخدمات دفاعية لتحديث أسطول مقاتلات "إف16" (F16) لديها.

في المقابل، تبدي روسيا رغبة ضمنية في استمرار الرئيس التركي في منصبه بسبب موقفه المتوازن في الحرب الروسية الأوكرانية والعلاقات الثنائية الجيدة وغير ذلك، مقابل تصريحات المعارضة التركية بالعودة للموقف التقليدي الأقرب للغرب. حيث يمكن قراءة مشاركة بوتين في افتتاح محطة "أك كويو" النووية، وتأجيل جزء من الدفعات المستحقة من فاتورة الغاز الطبيعي الروسي، وتسريع مسار التقارب مع النظام السوري كخطوات دعم ضمني لأردوغان.

أما بعض القوى الإقليمية الأخرى التي قد تكون لها رؤية أو مصلحة بفوز هذا الطرف أو ذاك، فلا يبدو أنها تملك أدوات التأثير كما واشنطن وموسكو. وفيما تبقى من وقت قصير للانتخابات، فإن فرص التدخل للتأثير لا تبدو كبيرة، باستثناء تدخل مباشر للإضرار بالاقتصاد، نظرياً، وهو احتمال ضعيف جداً من جهة وقد لا يكون له أثر كبير من جهة ثانية.

وعليه، تبدو الديناميات الداخلية هي الأهم والأكثر حضوراً وتأثيراً في الانتخابات التركية المقبلة. أما العامل الخارجي فهو حاضر على صعيد الدوافع والرغبة، وكذلك على مستوى السعي وبذل الجهد مثل جهود التنسيق بين أطراف المعارضة (في حال تأكدت) وغير ذلك. أما التأثير ولا سيما ما يمكنه أن يغير نتائج الانتخابات، فليس ثمة مؤشرات واضحة بهذا الاتجاه، بل لعل هناك مؤشرات في الاتجاه المعاكس، فقد كان التقدير السائد أن بعض القوى الخارجية تفضّل خوض رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الانتخابات في مواجهة أردوغان كمرشح توافقي للمعارضة، لكن كليجدار أوغلو فرض نفسه على حزبه والطاولة السداسية بطريقة كادت أن تؤدي لانفضاض الأخيرة، وهذا عامل داخل بامتياز.

ومن مؤشرات ذلك سخونة الحملات الانتخابية والجهد الكبير الذي يبذله المرشحون للانتخابات الرئاسية على وجه التحديد، حيث يجرون ما معدله 3-4 مهرجانات انتخابية في محافظات مختلفة يومياً، وكذلك الوعود الانتخابية التي تتسابق في رفع سقف الخدمات والإنفاق الحكومي وتحقيق مطالب الناخبين بشكل غير مسبوق وبمستويات لا تقارن مع وعود الانتخابات الفائتة، استشعاراً لكون القرار الأخير في يد الناخب الذي سيحدد رئيس البلاد وتركيبة البرلمان بعد أيام.

لكل ما سبق، فإن تأثير القوى الخارجية على مسار الانتخابات التركية المقبلة ونتائجها محدود. صحيح أن هوامش التأثير في هذه الانتخابات أكبر نسبياً من السابق بسبب الأوضاع الاقتصادية وتوحد المعارضة وحدة التنافس، إلا أنها رغم ذلك تبقى أقل بكثير وربما هامشية مقارنة مع الديناميات الداخلية الحاسمة في مسار الانتخابات، كما دائماً.