شهر رمضان محطة كبرى للتزود بالوقود الإيماني لسائر العام، فهو ميدان سباق في الطاعات، يأخذ فيه كل مسلم بحسب همته وإرادته في متابعة العمل الصالح.

يقول الله تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران: 133)

يقول الإمام ابن رجب (رحمه الله) في كتابه لطائف المعارف: "لما سمعوا قول الله تعالى: "فاستبقوا الخيرات" وقوله سبحانه وتعالى: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض" فهموا أن المراد من ذلك أن يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارعة إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملًا يعجز عنه خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له، فيحزن لفوات سبقه، فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، ثم جاء من بعدهم قوم فعكسوا الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنيئة وحظوظها الفانية".

ومن المندوب شرعًا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات، وأن يتقدم على من دونه في حيازة البركات.

وحتى تظل في مضمار السباق، تنافس وتكافح وتجتهد لتصل إلى ما أعده الله لك، عليك بالآتي:

 

1 – لا يسبقنك أحد إلى الأذان، والصف الأول

قال (صلى الله عليه وسلم): "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا" (رواه البخاري615، ومسلم437).

يقول الحسن البصري (رحمه الله): "من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره".

اغتنم في الفـــــراغ فضــل ركــــــــوع         فعسى أن يكون مـوتك بغـتة

كم صحيح رأيت من غير سقم         ذهبت نفسه الصحيحـة فلتـة

 

2 – سارع في الأعمال الصالحة عمومًا

وقد علَّم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمته المبادرة والمسارعة في أمور الآخرة فقال: "بادروا بالأعمال الصالحة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا" (رواه مسلم: الإيمان (118)، والترمذي: الفتن (2195)، وأحمد (2/303).

وفي يوم من الأيام أثنى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على قراءة ابن مسعود، فقال: "من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما أُنزل فليقرأه من ابن أم عبد". وكان عمر وأبو بكر حاضريْن، فبادر عمر ليلًا لينقل البشرى لابن مسعود، فقال ابن مسعود: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال عمر: جئت لأبشرك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر. قال عمر: إنْ يفعل فإنه سبَّاق بالخيرات، ما استبقنا خيرًا قط إلا سبقنا إليه أبو بكر".

 

3 – نافس غيرك في الصدقات

فقد كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) يتنافسون فيما بينهم في مرضاة الله تعالى، فحين طلب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم أن يتصدقوا قال عمر (رضي الله عنه): ووافق ذلك عندي مالًا فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما أبقيتَ لأهلك؟ قلتُ: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيتَ لأهلك؟ فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله. عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدًا.

 

4 – رمضان يُوصّلك لأبعد من درجة الشهداء

يروى طلحة ابن عبيد الله (رضي الله عنه) أن رجلين من "بلى" قدما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان إسلامهما جميعًا، وكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهِد فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى، قال طلحة: فرأيتُ في المنام: بينا أنا عند باب الجنة فإذا هم، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفى الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليّ فقال: ارجع لم يُؤذن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحدثوا الحديث فقال من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استُشهد ودخل الآخر قبله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " أليس قد مكث هذا بعده سنة؟" قالوا بلى. قال: "فأدرك رمضان فصامه وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟" قالوا بلى. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض" (حسنه المنذري وصححه ابن حبان).

 

5 – اتخذ لنفسك مشروعًا إيمانيًا أساسيًا في رمضان

فيمكنك أن تخطط لختم القرآن أكثر من خمس مرات، وأن تسبح كل يوم 1000 تسبيحة، وأن تشتري لنفسك كل يوم ثلاثة بيوت في الجنة فتصلي لله 36 ركعة غير الفريضة، وأن تحج وتعتمر كل يوم إذا جلست من بعد الفجر حتى شروق الشمس في مصلاك تذكر الله وتعبده ثم تصلي ركعتي الضحى.. وهكذا.

 

6 – احرص على الوضوء دائمًا

فعن بريدة بن الحصيب (رضي الله عنه) قال: أصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدعا بلالًا، فقال: يا بلال، بِمَ سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت الجنة البارحة فسمعت خَشْخَشَتَك - صوت النعل - أمامي فقال بلال: يا رسول الله ما أذَّنْتُ قط إلا صلَّيت ركعتين، وما أصابني حَدَثٌ قط إلا توضأت عندها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بهذا" (رواه أحمد والترمذي).

قال العلماء: يستحب للعبد كلما أحدث أن يتوضأ؛ لأن المسلم قد يذكر الله ويقرأ القرآن عن ظهر قلب وقد يُتابع المؤذن، وقد يصلي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهذه أذكار ينبغي أن يذكرها المسلم وهو طاهر. لعموم قوله (صلى الله عليه وسلم): "إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة".

 

7 – كن سابق أهلك إلى الجنة

فقد رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) بلالًا فقال: "السُّبَّاق أربعة: أنا سابقُ العرب، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة، وصهيب سابق الروم" (رواه البزار).

فتعاهد أهلك ببرنامج رمضاني، وكن أنت الذي تدعوهم إليه، وتحثهم عليه، وأنت أول المبادرين إلى تنفيذه، ولا تشغل نفسك بسواه. يقول بعض السلف: "من كان اليوم مشغولًا بنفسه فهو غدًا مشغول بنفسه، ومن كان اليوم مشغولًا بربه فهو غدًا يُسَرُّ بلقاء ربه". وتذكر أن لذة الكسل ساعة وتزول وتعقبها حسرة لا تزول، ونصب الطاعة ساعة وتزول وتليها فرحة لا تزول.

 

8 – نافس أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)

كما كان يفعل أبو مسلم الخولاني عندما كان يقوم الليل فإذا تعبت قدماه ضربها بيديه قائلا: "أيحسب أصحاب محمد أن يسبقونا برسول الله، والله لنزاحمنهم عليه في الحوض"، فهو يريد المنافسة ويريد أن يزاحم صحابة رسول الله في الدار الآخرة.

 

9 – ضع نعيم الجنة نصب عينيك

روى ابن ماجه في سننه عن أسامة بن زيد (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "ألا هل مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها؛ هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية. قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها. قال: قولوا إن شاء الله. فقال القوم: إن شاء الله تعالى".

يا خاطب الحـــور الحسـان وطالبًا          لـوصـالهن بجنـة الحيـوان

لو كنت تدري من خطبت ومن طلبـت          بذلت ما تحوي من الأثمــان

أو كنت تدري أين مسكنهـا جعلــت          السـعي منك لها على الأجفان

 

 10 – ففروا إلى الله

يقول الإمام ابن قيم الجوزية (رحمه الله): "العاصي الذي ينشد التوبة كرجل كان في كنف أبيه، يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، وهو القيم بمصالحه كلها..

فبعثه أبوه في حاجة له، فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء، فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه، وكل ما كان فيه..

فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد نحره في آخر الأمر، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريبا، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه!!

فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها، إذا فر عبد إليه، وهرب من عدوه إليه، وألقى بنفسه طريحًا ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه، باكيًا بين يديه يقول: يا رب يا رب، ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه وبك ملاذه:

يا من ألوذ به فيمـــا أؤملـه         ومن أعوذ به ممـــا أحاذره

لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره         ولا يهيضون عظمًا أنت جابره