عندما أجبرت جائحة كورونا الموظفين في مختلف أنحاء العالم على العمل عن بعد، أدرك كثير من الناس خلال هذه الفترة كمّ الوقت المُهدر في التنقل إلى المكاتب يوميا، وما يُمكن أن يُحدثه من فرق على المستويين المهني والشخصي إذا تمكنوا من استغلاله.

ويعتقد كثيرون أن التنقل بين المنزل والعمل مجرد عمل روتيني ومضيعة للوقت، لكن خلال طفرة العمل عن بعد مع جائحة كوفيد-19، لوحظ أن كثيرًا من الناس كانوا يفتقدون هذه الرحلة لما توفّره من فرصة لانتقال من الأدوار المهنية إلى الأدوار المنزلية.

وبالموازاة ظلت هناك دعوات لضرورة اعتماد نموذج “العمل الهجين” الذي يوازن بين العمل عن بعد لمدة يومين والعمل من المكتب لمدة 3 أيام أو العكس؛ وذلك للظفر بميزات التنقل وعدم التنقل في الآن ذاته.

ويبقى السؤال: هل التنقل بين العمل والبيت وقت ضائع ومهدور؟ أم له فوائد نفسية عند الموظفين؟


التعافي من ضغوط العمل


في تقريرهما الذي نشره موقع “بيغ ثينك” (bigthink) الأميركي، حاول الكاتبان ماثيو بيشتشيك وكريستي ماك ألبين -بصفتهما متخصصين في علم الإدارة- دراسة العلاقة بين العمل والحياة الشخصية وفهم ما افتقده الناس عندما حُرموا من التنقل فجأة بين العمل والمنزل بسبب الجائحة.

وفي دراستهما التي نُشرت مؤخرا قال الكاتبان إن التنقل من وإلى العمل يمثّل “مساحة فاصلة”، أي أنه وقت فراغ يوفّر فرصة للتعافي من ضغوط العمل والاستعداد للعودة إلى المنزل.

لكن أثناء التحول إلى العمل عن بُعد، فقد العديد من الأشخاص هذه العمليات اليومية المهمة، وافتقدوا القدرة على الفصل عقليا بين بيئة العمل والمنزل، وتلاشى بذلك الخط الفاصل بين هذه الأدوار مما نتج عنه الإجهاد والمعاناة مما يسمى “الاحتراق النفسي”.

وركز بحثهما على عمليتين معرفيّتين، هما الانفصال النفسي عن العمل (أي الانفصال الذهني عن متطلبات العمل) والتعافي النفسي من العمل (ويعني تجديد الطاقة العقلية المستخدمة أثناء العمل).

وبناءً على مراجعتهما، قال الكاتبان إن المساحة الفاصلة بين العمل والمنزل -التي تنشأ أثناء التنقل- خلقت فرصا للانفصال والتعافي.

ولتعزيز الانفصال عن العمل والاسترخاء أثناء التنقل، ينصح الكاتبان بتجنب تذكر تفاصيل يوم العمل والتركيز بدلا من ذلك على المساحة الشخصية في وقت التنقل، مثل الاستماع إلى الموسيقى أو بودكاست (برامج إذاعية)، أو الاتصال بصديق؛ كما قد توفر وسائل النقل العام فرصا لتعزيز التواصل الاجتماعي.

كم من الوقت نُهدر في التنقل إلى المكاتب؟


هناك من يرى أن الوقت المُهدر في التنقل إلى المكاتب يوميا يُمكن أن يُحدث فرقا على المستويين المهني والشخصي إذا تم استغلاله. ومن هنا يدافع الكاتب سيرجيو بيسانيا في تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” (washingtonpost) الأميركية، عن نموذج العمل عن بعد، مؤكدا أنه يمكن استغلال الساعات الضائعة في التنقل يوميا إلى المكاتب للقيام بأنشطة أخرى تجعل حياتنا أفضل.

ويقضي الموظف الأميركي نحو ساعة في التنقل إلى العمل يوميا، أي 250 ساعة سنويا، أو 10 أيام كاملة. وفي نهاية المشوار المهني، قد يصل الوقت الإجمالي للوقت المُستهلك في التنقل إلى العمل إلى عام كامل.

لنفرض أنك تستغل ساعة التنقل اليومية في تعلم لغة جديدة، يُمكنك بعد عام واحد أن تتقن تلك اللغة تماما، ثم تبدأ بتعلم لغات أخرى، أو تحصل على حزام أسود في إحدى الفنون القتالية، أو تتقن أي مهارة أخرى. وكبديل لذلك الوقت، يمكن أيضا أن تزيد من ساعات النوم والراحة والتأمل وغيرها من الأنشطة، وفق الكاتب.

وإذا كان البعض يفعل أشياء ماتعة أو مفيدة أثناء التنقل، يمكن -وفقا للكاتب- أن يجدوا أماكن أفضل للقيام بها بعيدا عن وسائل النقل، من خلال قضاء الوقت مع الأصدقاء، أو في البستنة، أو في ممارسة الرياضة، أو الطهي، أو الحياكة، أو النوم.

ويعدّ توزيع هذه الأنشطة على مدار الأسبوع أفضل طريقة للمحافظة على الفرص القيّمة التي أتاحها لنا الوباء، على حد تعبيره.

تطبيق العمل الهجين


من جهة ثالثة تحاول عدة شركات حاليا جعل ترتيبات العمل أكثر مرونة، مما يمكن العاملين من قضاء بعض الوقت في المكتب والبعض الآخر في المنزل، ضمن ما يسمى تطبيق النموذج الهجين، وبالتالي قد يتحقق لكل من فريقي أنصار العمل من البيت وأنصار العمل من المكتب أيضا، استثمار وقت التنقل، أو وقت عدم التنقل، بالطريقة التي تلائمه.

ويحتاج العاملون -وفق النظام الهجين- إلى التوجيه حتى يتمكنوا من التنقل في بيئة العمل الافتراضية وأيضا في مكان العمل الفعلي. والتأكد من أن أعضاء فريق العمل يعرفون متى سيكونون في المكتب أو في مكان العمل، ومتى سيعملون من المنزل.

ويعد هذا الأمر من المتطلبات الأساسية للعمل الهجين في ظروف متغيرة، وفق ما تقوله كاترين غلاتزل، وهي مؤلفة ومستشارة في شؤون القيادة التعاونية، في تقرير نشرته وكالة الأنباء الألمانية.

وتوصي غلاتزل باستخدام تقويم لإعداد خطة مدتها 4 أسابيع، توضح كل ما يتعلق بمعرفة الأشخاص والأماكن والتوقيتات. وغالبا ما تكون هناك أيام ثابتة خاصة بفرق العمل عندما يلتقي الجميع في المكتب.