حمزة زوبع:


ونحن على أعتاب العشرية السوداء التي مرت بها مصر والمنطقة منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الوصول إلى اكتمال تلك العشرية في العام الحالي 2023، من المهم أن نذكر أنفسنا والأجيال المقبلة بما جرى ولا يزال يجري في بلادنا والمنطقة عموما.


لقد شرعت في كتابة هذه السلسلة منذ عام ونصف تقريبا وقررت ساعتها أن تصدر في كتاب، لكنني ارتأيت تأجيل إصدار الكتاب في انتظار ما يستجد، على أن تصدر في شكل مقالات أولا ثم ليقضي الله أمرا بعد ذلك، وذلك لأنني أعتقد أن القادم ليس على نفس درجة سوء ما مضى بل ربما يكون أسوأ إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، وبالتالي نبرئ ذمتنا أمام التاريخ والأجيال في بيان ماذا كان عليه الحال قبل عشر سنوات وماذا أصبح عليه، وكيف سيكون إن استمر على ما هو عليه.


لو نظرت عزيزي القارئ إلى ما كنت أقوم به أنا وزملائي في منابر الإعلام المختلفة منذ اللحظات الأولى للانقلاب وتحذيراتنا الواضحة للجميع من سوء العاقبة إذا ما انحاز رفاق الثورة إلى معسكر الانقلاب؛ ولكنهم لم يطيقوا تحمل المصاعب والمتاعب الناجمة عن مخاض الثورة وظنوا أن نار الجنرالات خير وأرحم من جنة الديمقراطية، وها نحن نراهم اليوم وبعد مرور السنين، وهم يشتكون سوء الحال ومرار العيش والتضييق على الحريات والقرارات الفردية والتحول التدريجي لدولة بحجم وتاريخ مصر إلى عزبة أو تكية يديرها شخص واحد عبر اختراع جديد اسمه الصناديق، وهو أمر نادر الحدوث في أي مكان يمكن أن يسمى بالدولة؛ فميزانيات الصناديق تؤخذ من ميزانيات الدولة المخصصة للوزارات، وممتلكات الدولة يتم تسجيلها كأصول في الصناديق، والصناديق وما فيها ليست خاضعة لأي رقابة، وبالتالي أصبحت وزارة الدولة والميزانية تحت يد الجنرال وهذا يعني تأسيس جديد لمفهوم الدولة أي (دولة الصناديق).. لو دققت النظر في تلك الفترة وما قدمناه من إيضاحات وتوقعات لحال البلاد تحت حكم العسكر لأدركت أن ما قلناه تحقق بشكل كبير، فالعسكر ليس لهم علاقة ببناء الدول وإقامة الديمقراطيات ولا إصلاح المجتمعات، ولكن دورهم الرئيس هو البطش والتنكيل والفساد والاستبداد.

عموما وبمرور الوقت أدرك البعض ممن غابت عنهم الرؤية آنذاك أن الانقلاب على الرئيس مرسي ليس انقلابا على الإخوان بل على الدولة، ولعل في تصريحات الدكتور ممدوح حمزة الأخيرة ما يعطيك فكرة عن الفارق الزمني بين توقعاتنا للحال وتوقعات بعض مؤيدي الانقلاب، والذين شاركوا مع المخابرات في صناعة حركة "تمرد" لكي تكون واجهة لمسرحية 30 يونيو التي مهدت لانقلاب 3 يوليو 2013، والتي أخرجها مخرج متهم من قبل النظام بالعربدة والاعتداء (الجنسي) على الفنانات الصاعدات.

لقد استدرك ممدوح حمزة بعد تسع سنوات -ويُحمد له أنه استدرك ولو متأخرا- أن ما جرى انقلاب وإطاحة ليس بالرئيس المنتخب شرعيا وعلى أعين الناس، بل الإطاحة بالدولة مفهوما وتطبيقا من أجل بناء "دولة الصناديق" أو "دولة الجنرال وأبنائه" من بعده لا قدر الله.


لم يكن ممدوح حمزة منفردا في هذا التحول، فقد سبقه ولكن إلى السجن كل من المستشار جنينة والدكتور حازم عبد العظيم ويحيى عبد الهادي حسين والفريق عنان الذي أراد أن يمارس حقه في الترشح، وبدلا من الذهاب إلى لجان التصويت ألقي به في غيابات السجون حتى يكون عبرة لمن خلفه من قادة الجيش إن فكروا بمثل ما فكر فيه، ومن قبلهم خرج بلال فضل وعلاء الدين الأسواني وعمرو حمزاوي؛ الذي عاد معتقدا أن "الحدأة تلقي بالكتاكيت" ثم تأكد بنفسه أن الوضع مزري ولا يحتمل فلم نعد نسمع له صوتا، فهل فُرض عليه الحصار أم قرر الفرار؟


لا أعيب على من استدرك من أمره وعاد إلى رشده أنه عاد، ولكن أعيب على من لا يزال في حيرة من أمره ولا يزال مترددا رغم الآيات الواضحة والعلامات الفارقة وسوء الحال الذي لا يخفى على أحد، وأعيب على كل من استدرك على نفسه لكن نفسه تراوده من جديد في الرغبة في التفاوض مع النظام لعله يمنّ عليه ببعض الفتات رغم أنه ظل يؤيد النظام لعشر سنوات ولم ير منه إلا الهوان، وهذا صنف من الناس لا يمكن الوثوق في عودته ولا الاطمئنان إلى ما يضمره.


الصنف الأخطر وهو من خرج من مصر ناجيا ببدنه وأسرته بعد أن استيقن عين اليقين أن النظام سينال منه اليوم أو بعد قليل، ولكي ينال شرف الهجرة في بلاد الغرب رفع راية "ضد العسكر وضد الإخوان" مع أنه كان مع العسكر ضد الإخوان ورأى بعيني رأسه جرائم النظام ضد الإخوان والثوار، ولكن كلمة مرور اللجوء أو الهجرة كانت النيل من الإخوان حتى يفتح له باب الاستقرار في أي عاصمة أوروبية تقف ضد الاسلام السياسي. هؤلاء لا يزالون يخشون إغضاب الجنرالات وهؤلاء أخطر من مؤيدي الانقلاب؛ ببساطة لأن هذا الصنف يمنحك من اللسان حلاوة وهو يصف حكم الجنرالات والعسكر بما هم أهل له، ولكنه يضيف إضافة بسيطة وخبيثة وهي "أنا ضد الإخوان"، وحين تسأله ماذا يعني هذا؟ يكون الجواب لو وقفنا ضد العسكر وأسقطنا حكمه فالنتيجة الحتمية هي عودة الاخوان من جديد؟ يا إلهي..


المعضلة في هذا الصنف أنهم يعلمون علم اليقين أن الإخوان لم يسيئوا إلى مصر ولم ينهبوها، وأن الرئيس مرسي عليه رحمة الله لم يكن جبارا شقيا، بل كان رئيسا مسلما حاول إنقاذ البلاد فانقلبوا عليه، وخرج كبير الجنرالات مصرحا بأنه يعلم كل شيء عن هذا البلد ومشكلاته ولديه خطة للخروج والنهوض بها، ولما سُئل كم يستغرق الأمر؟ قال: سنتين، فاندهش المذيعون من جرأته وهو يدعي العلم والمعرفة، فرد عليهم القول: أيوة سنتين.. وللأسف مرت عشر سنوت تقريبا ولا يزال يقول لهم كبير الجنرالات: أمامنا الكثير ونحتاج الكثير، فلماذا انقلبتم على الرجل الذي لم تمنحوه أربعة أعوام وليس عشر سنوات؟ الإجابة هي وبصريح العبارة: لا يجب أن يحكم مصر حاكم نظيف وشريف ناهيك أن يكون إسلاميا، وناهيك أن يأتي بانتخابات حرة ونزيهة في منطقة قام الحكم فيها على الفساد والتبعية والعمالة للغرب..


محاولة فهم ما جرى على وجه صحيح أو أقرب إلى الصحة والدقة ستوصلنا بكل تأكيد إلى وضع تصورات لما هو قادم، وعلينا أن نطرح على أنفسنا نحن معشر المصريين في المقام الأول السؤال المتكرر: هل لهذا الليل من آخر؟ وإذا كانت الإجابة هي نعم وهي بكل يقين نعم لأن الأيام دول (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، فما الذي يجب علينا عمله؟


نبدأ هذه السلسلة بما جرى من محاولات مستميتة للقضاء على ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وكيف كان العسكر وبطبيعة تكوينهم يختبئون خلف الجدران في انتظار سقوط الصنم الأكبر لكي ينقضوا على الثورة والثوار، وقد نجحوا في ذلك، والأهم هو ماذا فعلوا بعد ذلك؟