"أول ما يجب أن نبدأ به في التغيير هو تغيير ما بالأنفس، من أفكار كاسدة وميول منحرفة واتجاهات جاهلة ظالمة؛ حتى يغير الله ما بالناس من سوء واضطراب وتخبط، فهذه هي السنة الإلهية الاجتماعية التي لا تتخلف، والتي أشار إليها القرآن: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد:11)".

هكذا تحدث الدكتور القرضاوي رحمه الله في إحدى تغريداته على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، وكأنه يبدأ من الأساس الذي ينطلق منه التغيير وهو نفس الإنسان حامل هذه الشريعة، فإن استطاع أن يغيرها ويقودها استطاع أن يغير العالم من حوله بفهم وفكر وروية.

 

المقصود بالتدرج

ويشرح القرضاوي (رحمه الله) معنى التدرج بأن ننتقل بالأمور إلى نهاياتها درجة درجة، وبين أن الله تعالى عدد مراحل خلق الإنسان في القرآن فقال: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" (المؤمنون:12-14).

وفي عالم الأمر والتشريع يقول (رحمه الله) أن الإسلام بدأ بالعقائد وبعد العقائد بدأت العبادات: الصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات وتحريم الربا وتحريم الخمر، والفرائض فرضت بالتدرج، والمحرمات حرمت بالتدرج، الصلاة فرضت ركعتين ركعتين أقرت في السفر وأزيلت بالحضر، والصيام بدأ في بداية الأمر فيه تخيير ثم "فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" (البقرة:185)، وكذلك المحرمات فقضية الخمر مرت بمراحل ثم انتهت بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة:90).

 

صعوبة التغيير في حياة الناس

ويقرر الدكتور القرضاوي (رحمه الله) أن التدرج في التغيير من سنن الله تعالى في الكون، ونحن في حاجة إليها في مجال الشريعة، لأن التغيير في حياة الناس من أصعب الأمور، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة حتى زحزح العقائد الفاسدة في مكة، ثم كان التشريع الذي استغرق عشر سنوات، وقد كان لسنة التدرج أثرها في تحريم الخمر والربا وغيرهما، ولكن لا يعني هذا الخمول والكسل وتأخير الأمر عن حده، فنحن نحتاج إلى تدرج في تطبيق الشريعة، يعني لا نعلن التطبيق بقرار فوري، بل لابد من تهيئة الشعوب وإعداد العدة، بحماس وإخلاص، حتى يبقى الأمر ويدوم.

 

التدرج لا يعني التسويف وتأجيل التنفيذ

وحتى لا يعتقد بعض الناس أن التدرج ربما يعني التسويف أو تأجيل التنفيذ، فيبين (رحمه الله) أن "هذه السُّنَّة الإلهية في رعاية التدَرُّج ينبغي أن تُتَّبَع في سياسة الناس عندما يُراد تطبيق نظام الإسلام في الحياة اليوم بعد عصر الغزو الثقافي والتشريعي والاجتماعي للحياة الإسلامية".

ويتابع "فإذا أردْنا أن نُقيمَ "مجتمعًا إسلاميًّا حقيقيًّا" فلا نتوهم أن ذلك يتحقق بجَرَّة قلم، أو بقرار يصدر من ملك أو رئيس، أو مجلس قيادة أو برلمان، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أعني بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية، وإيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المُحرَّمة التي قامتْ عليها مؤسسات عِدَّة لأزمنة طويلة".

ويحذر من "اتخاذ كلمة التدرج "تكأة" لتمويت فكرة المطالبة الشعبية المُلِحَّة بإقامة حكم الله، وتطبيق شرعه، بل نعني بها تعيين الهدف، ووضع الخطة، وتحديد المراحل، بوعي وصدق، بحيث تسلم كل مرحلة إلى ما بعدها بالتخطيط والتنظيم والتصميم، حتى تصل المسيرة إلى المرحلة المنشودة والأخيرة التي فيها قيام الإسلام، كل الإسلام. وهو نفس المنهاج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى حياة إسلامية".

 

الفقه الصحيح في التغيير

ويسوق الشيخ (رحمه الله) موقفًا لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز عندما جاءه ابنه عبد الملك - وكان شابًا تَقِيًّا مُتَحْمِسًا - قال له يومًا: يا أبتِ، مالكَ لا تنفذ الأمور؟ فواللهِ ما أُبالِي لو أن القدور غَلَتْ بي وبكَ في الحقِّ!!

يريد الشاب التقي الغيور من أبيه - وقد وَلاَّه الله إمارة المؤمنين - أن يقضي على المظالم وآثار الفساد والانحراف دفعة واحدة، دون تريُّث ولا أناة، وليكن بعد ذلك ما يكون!

ولكنَّ الأب الراشد قال لابنه: لا تَعْجَلْ يا بُنَيَّ، فإن الله ذَمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة! "انظر الموافقات للشاطبي: 2/94"

يريد الخليفة الراشد أن يُعالِج الأمور بحكمة وتدرُّج، مهتديًا بسُنَّة الله - تعالى- في تحريم الخمر، فهو يُجَرِّعهم الحق جُرْعةً جرعة، ويَمضي بهم إلى المنهج المنشود خُطوة خطوة. هذا هو الفقه الصحيح.