رغم مرور تسعة أعوام على المذبحة التي نفّذتها قوات الأمن ضد المعتصمين السلميين في في ميداني "رابعة العدوية" و"النهضة" في القاهرة، احتجاجاً على عزل الرئيس الراحل محمد مرسي على يد الجيش، إلا أن الفاجعة، التي تصادف اليوم الأحد، لا تزال حاضرة في الآلاف من البيوت المصرية، التي فجعت في أحد من أهلها أو أكثر، في ذلك اليوم.
موت واعتقال وتشرد
لم تكن الفاجعة في استشهاد الآلاف في ميداني رابعة والنهضة فقط، بل شملت أيضًا الاعتقال والتعذيب والمطاردات والإيذاء النفسي والمعنوي وعشرات الإعدامات التي قامت بها سلطة الانقلاب في مصر، وغياب العدالة الانتقالية، وتمييز المجتمع إلى فئتين أو طائفتين أو شعبين كما نطقت بها أقلام وأفواه الانقلابيين.
السيدة "هـ. ع." من محافظة بورسعيد تروي عن مأساة أسرة كانت جارة لها، تدمرت تماماً بعد انقلاب 30 يونيو 2013. وتقول إن "أحد المسؤولين في شركة كهرباء بورسعيد، وكان قيادياً في حزب الحرية والعدالة في المحافظة، كان وأسرته في ميدان رابعة العدوية، وفقد أحد أبنائه برصاصة من أحد أفراد الأمن".
وأضافت أن "وفاة نجل الرجل لم تكن الكارثة الأخيرة التي تعرضت لها هذه الأسرة، إذ إن الرجل تعرّض للاعتقال هو واثنان من أبنائه، عقاباً لهم على مشاركتهم في الاعتصام، ولا يزال مسجوناً حتى الآن تنفيذاً لعقوبة المؤبد".
وأوضحت أنه "بعد تمزّق أسرة الرجل بهذا الشكل المأساوي، لم تسلم زوجته من بطش السلطات، التي قامت بطردها من السكن الذي كانت توفره لهم شركة الكهرباء في محافظة بورسعيد".
أسرة أخرى في محافظة المنوفية فقدت معيلها الطبيب في مذبحة ميدان "رابعة العدوية". ولم تتوقف الجريمة عند ذلك الحد، بل امتدت لتطاول عائلته في بيتها، حيث هاجمت جحافل من المواطنين، الداعمين للجيش والشرطة، منزل الأسرة وأجبرت العائلة على الخروج منه.
السلطة أحدثت شرخاً في المجتمع
وقال أحد السياسيين المصريين البارزين إن "أخطر ما فعلته السلطات بعد الثلاثين من يونيو، في هذا الوطن، هو إحداث شرخ عميق في نسيج المجتمع المصري، إذ قسمت الوطن إلى نصفين، يكره كل منهما الآخر"، مضيفاً أن "ذلك وضع لا يمكن إصلاحه بسهولة".
وأوضح المعارض، الذي تحفّظ على ذكر اسمه، أن "الجريمة السياسية المتمثلة في الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، والاستيلاء على الحكم، وما تبع ذلك من كوارث سياسية واقتصادية حلت بالبلاد، أمر يمكن معالجته بعد ذلك بنظام ديمقراطي يدين بالولاء للشعب".
وقال: "لكن جريمة تقسيم المجتمع بهذا الشكل الخطير، وتأليب المواطنين ضد بعضهم بعضًا، والشحن الذي مارسته وسائل الإعلام لفئة من الشعب ضد فئة أخرى من المعارضين، من الصعب جداً معالجة آثارها في المستقبل".
حقوقي مصري بارز، ورئيس إحدى المنظمات القانونية الدولية، قال، في تصريحات تعليقاً على كلام السياسي المصري، إن "ذلك الوضع كان من المفترض إصلاحه عن طريق مادة العدالة الانتقالية التي أصرت لجنة الخمسين على إدراجها في دستور 2014، المعدل في 2019".
وتنص المادة المذكورة على أنه "يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بعد نفاذ هذا الدستور بإصدار قانون للعدالة الانتقالية يكفل كشف الحقيقة، والمحاسبة، واقتراح أطر المصالحة الوطنية، وتعويض الضحايا، وذلك وفقاً للمعايير الدولية". وحتى الآن لم يصدر أي قانون للعدالة الانتقالية.
تكريس فلسفة الإفلات من العقاب
وقال الحقوقي، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، إن "عدم تطبيق العدالة الانتقالية، كرّس فلسفة الإفلات من العقاب، طالما أن المجرم في يده السلطة والقوة المطلقة. كما رسّخ ثقافة العنف داخل المجتمع، والموافقة على إعدام الآخر وتطهير المجتمع منه، طالما أنه مختلف مع السياق العام".
وأضاف المصدر أنه "حتى إذا عادت الأمور إلى طبيعتها، وعاد المعارضون في الخارج، وتم الإفراج عن آلاف المعتقلين في السجون، سنصبح أمام وضع في غاية الصعوبة، إذ إن هؤلاء المعارضين سيعودون من دون أن يجدوا أيا من جلاديهم وقد تمت معاقبته، ولذلك لا يضمن أحد ألا يلجأ هؤلاء، أو بعضهم، إلى الانتقام بأي شكل من الأشكال، وهو ما يؤدي إلى دوامة من العنف".
وأشار المصدر إلى أنه على الرغم من مطالبة المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، وهو مجلس حكومي، بتحقيق قضائي شامل في وقائع فض اعتصام أنصار مرسي في رابعة العدوية، إلا أن ذلك لم يحدث.
تقديرات بعدد قتلى فض الاعتصام
وقدّر التقرير النهائي للجنة تقصي حقائق شكّلها المجلس، ضحايا فض الاعتصام بـ632 قتيلاً، بالإضافة إلى 668 آخرين قتلوا في أعمال عنف تالية لعملية الفض. بينما قدّرت منظمات وهيئات دولية الأعداد بأكثر من ذلك.
وذكرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في تقريرها بعنوان "أسابيع القتل"، أن عدد القتلى في رابعة بلغ 932 وفي النهضة 87 حالة. وقدّر موقع "ويكي ثورة" الحقوقي، عدد من قتلوا في رابعة وفي أماكن عدة في محيط رابعة العدوية ومسجد الإيمان بـ1542، كان من بينهم 259 جثة مجهولة الهوية.
وفي الذكرى الأولى للمذبحة، وفي تقريرها الصادر في 12 أغسطس 2014، قالت "هيومن رايتس ووتش" إن عدد الضحايا هو 1150 قتيلاً. ووصفت المنظمة ما حدث بأنه "على الأرجح جرائم ضد الإنسانية، وأخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث".
وقبل انتهاء الفض الكامل للاعتصام، أعلن "مستشفى رابعة العدوية" في آخر بياناته أنه أحصى 2200 جثة، فيما قالت جماعة "الإخوان المسلمين" إن عدد من سقطوا في "رابعة" بلغ 2600 قتيل.
وذكر تقرير للمفوضية المصرية للحقوق والحريات صدر في 2015، بعنوان "ساعات استباحة القتل الجماعي"، أن الأحداث "تركت وراءها كثيراً من الأفراد الذين تعرّضوا للقبض والاختفاء في أماكن احتجاز سرية، لم يستطع ذووهم الوصول إليهم، رغم اتخاذ كل الإجراءات القانونية".
وقالت إن "بعض الأهالي تأكدوا من وفاة ذويهم أثناء عملية فض الاعتصام، لكنهم لم يعثروا على جثثهم، كما أنهم غير مسجلين في الكشوف. وتمكنت المفوضية من رصد 32 حالة اختفت من وقائع فض رابعة والحرس الجمهوري والمنصة".