د. عبد التواب بركات:

 

مئات الملايين من الناس مهددون بضياع الأمن الغذائي ومواجهة أزمة إنسانية في عدد من بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا المنخفضة الدخل المستوردة للحبوب؛ وذلك جراء ارتفاع الأسعار العالمية للقمح، المادة الأساسية لصناعة الخبز، إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، واحتمال غيابه من سوق تجارة الحبوب الدولية بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت في 24 فبراير/شباط الماضي وما زالت مستمرة حتى الآن دون أفق قريب لتوقفها.

وفي مطلع هذا الشهر، قالت منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة إن الأسعار العالمية للقمح ارتفعت مجددا في مايو/أيار الماضي للشهر الرابع على التوالي لتصل إلى معدل أعلى من قيمتها في العام الماضي بمقدار 56.2%.

بعد ساعات من بداية الحرب ارتفعت أسعار القمح بنسبة 7%، وفي بداية الأسبوع الثاني منها، زادت الأسعار بنسبة 50% لتصل إلى 490 دولارًا للطن. قبل عام كان يتم تداول القمح في شيكاغو بسعر 248 دولارًا للطن، ثم وصل إلى 486 دولارًا للطن، وهو ما يقارب الضعف. وفي أوربا ارتفعت العقود الآجلة للقمح بنسبة 10%، ثم زادت مرة أخرى بنسبة 30% لتصل إلى 410 يوروهات، دون احتساب تكاليف الشحن البحري.

الأزمة مستمرة

نشرت مدرسة كييف الأوكرانية للاقتصاد تقريرًا بعد أسبوعين من بداية الحرب، بعنوان الغزو الروسي لأوكرانيا يهدد الأمن الغذائي العالمي ومئات الملايين بالجوع في العالم، قالت فيه إن الحرب ستؤدي في المدى المتوسط ​​إلى إنهاء الصادرات من أوكرانيا وروسيا وزيادة أسعار السوق العالمية بنسبة 30% عام 2022.

وفي ظل سيناريو يتوقع استمرار الحرب مدة ثلاثة أشهر، قال التقرير سيفقد العالم 60 مليون طن من القمح، و38 مليون طن من الذرة و10 ملايين طن من الشعير من الدولتين المتحاربتين. وقد يحتاج الأمر إلى سنتين أو ثلاث للعودة إلى مستويات الغذاء فيما قبل الحرب.

وإذا استمرت روسيا في تصدير منتجاتها والحرب مشتعلة، وهو ما لم يحدث، فإن العالم سيخسر صادرات أوكرانيا التي تقدر بـ4.5 ملايين طن من المنتجات الزراعية شهريًّا، منها 8% من القمح المتاح للتجارة العالمية، و10% من تجارة الذرة.

في العادة تصدر أوكرانيا 18 مليون طن من القمح كل سنة، سعر القمح الأوكراني يقل كثيرا عن أي مصدر آخر للقمح في العالم. لذلك تفضل الدول الأفريقية ومعظم الدول العربية شراء القمح من أوكرانيا، وقد توقفت تلك الصادرات تماما. محصول القمح الشتوي في أوكرانيا ما زال في مرحلة النمو في الأراضي الزراعية، وهو الآن في حالة جيدة لكن عمليات التسميد خلال شهري فبراير/شباط ومارس/آذار تعثرت وهي حاسمة ولابد منها لإنتاج كميات وفيرة من القمح.

وبسبب العمليات العسكرية في العديد من المناطق الأساسية لإنتاج القمح في أوكرانيا، وصعوبة عناية المزارعين بالمحصول وتوقف عمليات التسميد ومقاومة الآفات والحشائش بدرجة كبيرة، فمن المتوقع تراجع الغلات بأكثر من 50%، وقد تنعدم فرص التصدير هذا العام أيضا، وهو ما سيظهر في موسم الحصاد في شهر يوليو/تموز القادم.

أخبرني صديق أوكراني، وهو باحث زراعي ودبلوماسي سابق ومستثمر زراعي أيضا ويتكلم اللغة العربية، أن قوات روسيا تتعمد السطو على مخازن القمح وتفجير صوامع التخزين، وسرقة الجرارات الزراعية وآلات الزراعة العملاقة، مما سيعرقل عمليات الحصاد هذا الموسم والزراعة في الخريف. وقال إن بعض الحقول دمرتها الحرب، وبعضها ملغم بالمتفجرات من الطرفين المتحاربين، وبعضها سقطت فيه ذخائر لم تنفجر وتحتاج إلى التطهير. ومن المتوقع إشعال النيران في حقول القمح عمدا أو اشتعالها بسبب سقوط القذائف والصواريخ عندما تقترب من مرحلة الحصاد في بداية يوليو، مما سيدمر المحصول بشكل كبير.

يؤدي نقص إمدادات الأسمدة الزراعية عبر الموانئ من روسيا وأوكرانيا وارتفاع أسعارها إلى صعوبة الأنشطة الزراعية وتراجع إنتاج المحاصيل في دول أخرى من العالم؛ إذ تستحوذ روسيا على حوالي 22% من الصادرات العالمية من الأمونيا، و14% من صادرات العالم من اليوريا، وحوالي 14% من فوسفات الأمونيوم، وجميعها أسمدة أساسية في الإنتاج الزراعي.

بدائل فاشلة

إنتاج القمح في الدول التي يمكن أن تكون بديلا لروسيا وأوكرانيا مخيب للآمال. وقد خيبت التوقعات حصول زيادة في شحنات القمح من الاتحاد الأوربي والأرجنتين والهند والولايات المتحدة الأمريكية. حاولت الهند سد جزء من الفجوة الأوكرانية، ووعدت بتصدير 10 ملايين طن من القمح، وهو نصف صادرات أوكرانيا وربع صادرات روسيا، ولكنها منعت التصدير فجأة بسبب الجفاف وتراجع إنتاج القمح في موسم الحصاد الجديد. وتسبب هذا المنع في زيادة حادة في أسعار القمح المرتفعة أصلا، وأكدت الهند استحالة تعويض الغلال المفقودة من روسيا وأوكرانيا من أي مكان آخر بالعالم في المدى القصير والمتوسط على الأقل.

يعاني الاتحاد الأوربي ثاني أكبر مصدر للقمح، من استمرار شح الأمطار في الدول الجنوبية الغربية، وهو ما قد يؤدي إلى انخفاض الغلال. وعدت فرنسا، أكبر منتج ومصدر للقمح في الاتحاد الأوربي، بعدم التخلي عن مصر، أكبر مستورد في العالم، لتبنّي وجهة النظر الغربية في الحرب على أوكرانيا. ولكن لسوء الحظ أعلن مؤخرا خبراء من معهد أرفاليس للنباتات لرويترز أن غلة المحاصيل في فرنسا ستكون “سيئة للغاية” بسبب الجفاف غير المسبوق.

وفي آسيا، تراجعت التوقعات المتعلقة بإنتاج القمح في باكستان بسبب نقص في المدخلات وتفشي آفة صدأ الورق، ومن المرجّح أن يحدّ ذلك من الغلال. ويتوقع لإنتاج القمح في الهند أن يشهد زيادة متواضعة عام 2022؛ لذلك سارعت بوقف التصدير الذي كان متوقعا أن يعوض جزءًا من صادرات أوكرانيا المتوقفة.

وفي أمريكا الشمالية، ثالث أكبر مصدر للقمح في العالم، أصبح من المؤكد انخفاض صادارات الولايات المتحدة الأمريكية من القمح بحوالي 7 ملايين طن عن العام الماضي، حيث وصلت الصادرات إلى 28 مليون طن، وتعيق فترة الجفاف المستمرة منذ مدة طويلة توقعات الإنتاج. وعلى صعيد شمال أفريقيا، تشير حالة الجفاف في المغرب، والمناطق الغربية في الجزائر ووسط تونس إلى تحقيق محاصيل أقل في عام 2022. في الموسم الحالي الذي ينتهي بنهاية هذا الشهر، من المتوقع أن تنخفض التجارة العالمية للقمح عن مستواها في الموسم الماضي بما لا يقل عن 30 مليون طن من روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، وهو ما يمثل 15% من المتاح للتصدير العام الماضي.

لسوء الحظ فإن إنتاج القمح المحلي في الدول العربية غير مبشر لأسباب معروفة، منها التاريخي المزمن، وهو الإهمال الحكومي لقطاع الزراعة والسياسات الزراعية المتخلفة، ونقص البذور العالية الإنتاج والتخلي عن دعم المزارعين، ومنها الطارئ مثل الجفاف ونقص الأسمدة. في المغرب على سبيل المثال، أعلنت وزارة الفلاحة، في 13 مايو الماضي، أن الإنتاج المتوقع من حبوب القمح والشعير سيتراجع خلال الموسم الحالي بمقدار 69% في الموسم الحالي، مقارنة بالموسم السابق. يستورد المغرب 40 مليون قنطار من القمح، وقد يتضاعف الرقم إذا انخفض الإنتاج المحلي كما هو متوقع إلى 32 مليون قنطار، بعدما بلغ في الموسم الماضي 103 ملايين قنطار وهي خسارة كبيرة في ظل أزمة عالمية طاحنة.

بشكل عام يعتمد أكثر من 400 مليون شخص على مستوى العالم على إمدادات الحبوب من أوكرانيا فقط. لكن الدول العربية هي أكثر دول العالم تأثرا بالأزمة، إما مباشرة بتوقف الواردات أو بطريقة غير مباشرة بارتفاع الأسعار أو بهما معا. المشترون الرئيسيون للقمح من روسيا ومن أوكرانيا هم، مصر واليمن وليبيا ولبنان وتونس والمغرب والمملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى إندونيسيا وبنغلاديش وإثيوبيا.

وتعاني هذه البلدان من مشكلة أمن غذائي حادة وسوف تكون أول ضحايا نقص الخبز الذي يرجح أن تكون ذروته في بداية الشتاء أو نهاية الخريف، لأن حكوماتها لم تتعلم الدرس من أزمة الغذاء الممتدة منذ سنتين بسبب كورونا. وربما تدفع الحكومات الثمن هذه المرة من استقرارها السياسي، ليس بسبب الحرب في أوكرانيا، ولكن لأنها لم تخطط مبكرا للاكتفاء الذاتي من القمح.

نقلا عن: الجزيرة مباشر