روى طلحة بن عبيد الله أن رجلين من "بلى" قدما على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان إسلامهما جميعًا، وكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهِد فاستُشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيتُ في المنام: بينا أنا عند باب الجنة فإذا هم، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفى الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليّ فقال: ارجع لم يُؤذن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث الناس فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحدثوا الحديث فقال من أي ذك تعجبون؟ فقالوا يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استُشهد ودخل الآخر قبله! فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا بلى " قال فأدرك رمضان فصامه وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا بلى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)" فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض " (حسنه المنذري وصححه ابن حبان والألباني).

هذه هي فضائل رمضان، ونفحات رمضان، وبركات رمضان، فكيف لا نتعرض لها؟

نعم؛ كيف لا نتعرض لها وقد أكرمنا الله بأن مدَّ في أعمارنا حتى أدركنا رمضان آخر، نتزود من بحر خيراته، ونتنسم عبير نفحاته، ونعيش في ظلال رحمة الله فيه.

والعجيب أننا نعرف ما في هذا الشهر من الخيرات والبركات، ثم لا تطمئن أنفسنا إلا بتضييع الأوقات، والنوم بالساعات، والمكوث أمام الشاشات، وكأن صحفنا قد ملئت بالحسنات، وضَمِنَّا دخول الجنات، وأمِنَّا من النار بعد الممات، وغفلنا أن الله أحصى علينا السيئات والحسنات: "يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ" (المجادلة: 6).

وبالرغم من ذلك نقول لك أخي: ما زال في الوقت متسع، ولا زالت لديك فرصة في الأيام الباقية فلا تضيعها، وقف مع نفسك خمس وقفات تجبر إن شاء الله ما مضى، وتعينك فيما بقي.

الوقفة الأولى – حاسب نفسك على ما فات:

حاسب نفسك: كم ختمة من القرآن ختمت؟

وكم ركعة من القيام قمت؟

وكم فجرًا في جماعة حضرت وصليت؟

وكم من الخير بذلت وفعلت؟

وكم من المعروف قدمت؟

وكم من الصدقات أنفقت؟

وكم سنة للنبي (صلى الله عليه وسلم) أحييت؟

وكم من الأوقات في دعوة الله قضيت؟

وكم.. وكم.. وكم؟

الوقفة الثانية – تدارك الخطأ والزلل والتقصير:

إذا انتهيت من محاسبة نفسك عن الأيام الفائتة، فاعقد العزم على اغتنام ما بقي من هذا الشهر، وانظر في أي جنب قد قصرت؛ فإن كان في القرآن فأعطه مساحة أكبر من الوقت قراءة وتدبرًا، وإن كان في القيام فواظب عليه ولا تدع للشيطان عليك سبيلاً، واعلم أنك محاسب على أعمالك وحركاتك كلها، يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):""اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك" (رواه الحاكم وصححه الألباني).

ويقول: "لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه" (رواه الترمذي وحسنه الألباني).

تزود من حياتك للمعاد                     وقم لله واجمع خير زاد

ولا تركن إلى الدنيا قليلاً                  فإن المال يُجمع للنفاد

أترضى أن تكون رفيق قوم               لهم زاد وأنت بغير زاد؟

الوقفة الثالثة – اعزم على الاعتكاف:

فتترك الدنيا بهمومها وآلامها وأحزانها وملهياتها، وتقصد جوار رب العالمين، في خلوة مشروعة تخلص نفسك فيها من أثقال المتاع الفاني، واللذة العاجلة، وتبحر بروحك في الملكوت الطاهر؛ تتذلل لله بين يديه، ترجوه وتدعوه، وتسأله، وتقف على بابه، وتمرغ جبينك على أعتابه، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتح له.

يقول الحسن: "تقول الحوراء لوليّ الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إن الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبة فيما عندي، اشهدوا أني قد غفرت له، فغفر لك يومئذ وزوجنيك".

الوقفة الرابعة – لا تيأس:

إياك أن تقول إن الشهر قد مضى، أو تحدثك نفسك أنك مهما فعلت فلن تدرك الآخرين، كلا أخي، فالله يقبل توبة التائبين، ورب معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عجبًا واستكبارًا، وما دمت على الطريق فثق أنك ستصل.

إن المسلم لا ييأس من رحمة الله؛ لأن الأمل في عفو الله هو الذي يدفع إلى التوبة واتباع صراط الله المستقيم، وقد حث الله - عز وجل- على ذلك، ونهى عن اليأس والقنوط من رحمته ومغفرته، فقال تعالى: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (الزمر: 53).

يَا مَنْ عَدَا ثمّ اعتدى ثمّ اغترفْ            ثمّ انتهى ثم ارْعوى ثمّ اعتـرفْ

أبشـرْ بقولِ اللـهِ في آياتـهِ             إِنْ يَنتهُوا يُغفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلف

الوقفة الخامسة – تعبّد لله فيما بقي عبادة مُودّع:

فصل لربك صلاة مودع: يرى الموت يحيق به، ينتظر فراغه من صلاته.

وقم الليل قيام مودع: عما قريب سيحرم ذاك النعيم، ويودع أحضان السحر.

وصم لله صيام مودع: يدرك أنه لم يصم قبل ذلك، فتصوم معك جوارحك وقلبك.

واتل القرآن تلاوة مودع: يتحسر على فوات أوقات اليقظة والتدبر.

فقم – أخي – وانفض عنك غبار الكسل، وأجب داعي الله تعالى، وردد مع ابن رجب: " فيا همـم المؤمنـين أسرعي.. يا ذنوب التائبين لا ترجعي.. يا شمـوس التقوى والإيـمان اطلـعي.. يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي.. يا قلوب الصائمين اخشعي.. يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي.. فقليل من رمضان بقــي!! وطوبى لمن أجاب فأصاب.. وويل لمن طرد عن الباب وما دُعي!!