أسامة جاويش:

في الرابع عشر من أغسطس 2013، كنت مثل آلاف من المصريين غيري نعيش أسوأ كابوس في هذه الحياة.. رصاص ودماء وأشلاء وصراخ وقنابل غاز ومصابون يملأون الأرجاء، وجيش وشرطة من بني جلدتك يمارسون في حقك أبشع الجرائم الوحشية ويتلذذون بألمك، ثم يتراقصون على دمائك يوم مذبحة رابعة العدوية.


نعم كانت تلك اللحظات هي ذروة الهزيمة، هزيمة الثورة وهزيمة أول تجربة ديمقراطية، ضياع الحلم في التغيير وانهيار مشروع الدولة المدنية الحديثة. كانت تلك اللحظة هي أشد لحظات الليل ظلاما وكآبة وبؤسا، ولم أتخيل يوما أن ثمة أملا أو تغييرا يمكن أن يحدث بعدها بأشهر قليلة.


أرض الله واسعة، تلك هي القاعدة القرآنية التي وضعها المولى عز وجل لعباده المستضعفين في الأرض، القاعدة التي تصلح لكل زمان ومكان.. خرجتُ من مصر وخرج آلاف المستضعفين أيضا، ووجدنا وقتها في تركيا ملاذا آمنا نلجأ إليه من بطش العسكر، وخرج غيرنا إلى الدوحة وآخرون إلى السودان، وبعضنا ذهب الى ماليزيا وجنوب أفريقيا وأمريكا اللاتنية، لنبدأ فصلا جديدا من فصول الصراع مع هذه المنظومة العسكرية.


في نوفمبر 2013، أي بعد مذبحة رابعة بأقل من ثلاثة أشهر، كانت بداية قناتي مكملين والشرق في مدينة إسطنبول التركية. عشرات الشباب الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق بدأوا فصلا جديدا من فصول النضال ضد الظلم، فأسسوا تلك القنوات لتصبح في خلال سنوات قليلة هي أهم مطلب على طاولة المفاوضات بين دولتين من أهم وأكبر الدول في محيطنا العربي والإقليمي.


الآن نعود إلى نقطة البداية مرة أخرى، يُمنع زملاء لنا من الظهور الإعلامي، ويحظر عليهم التفاعل مع جمهورهم وقضايا بلدهم حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، تهديدات بإغلاق القنوات نهائيا وتكهنات بإجراءات أكثر صرامة من الجانب التركي إذا ما استمر النظام المصري في الضغوط الخاصة بالمعارضين في إسطنبول، وتحديدا الصحفيين والمذيعين والعاملين في قنوات مكملين والشرق.


"كل حلفائك باعوك يا ريتشارد"


تبدو الصورة قاتمة بشدة، فأكبر حليف لك يبدو أنه يستجيب للضغوط المصرية بحثا عن مصالحه العليا، البلد الذي فتح أبوابه لك منذ ثماني سنوات يغلقها في وجهك واحدا تلو الآخر، شعورك بالأمان يخفت يوما بعد الآخر، استقرارك الوظيفي أصبح محل شك، ولا تدري ما هو المصير الذي ينتظرك، وفي ظل كل هذا يخرج خصمك في مصر ليبدي شماتة حقيرة في ما تعيشه من قلق وتوتر هو السبب الرئيسي والمباشر في حدوثه.


لا أخفيك سرا، لقد شعرت بالضيق الآن وأنا أكتب الفقرة الأخيرة، فجل من في إسطنبول هم أصدقاء وزملاء ورفاق درب عشت معهم أكثر من خمس سنوات، أشعر بما يشعرون به الآن، فقد عشناه لساعات يوم محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا في يوليو 2016. ولكن لنتذكر معا القاعدة الأولى في هذا المقال "أرض الله واسعة".


"من كل ميادين العالم انطلقنا"


كانت هذه العبارة هي أول جملة سمعها الجمهور يوم انطلاقة قناة مكملين الفضائية في الخامس والعشرين من يناير 2014، كنا نعني تلك الكلمة بكل حرف فيها آنذاك.. تركيا محطة لنا ولن تكون الأساس، لأن الأصل أن مكملين في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا وبريطانيا وجنوب أفريقيا وماليزيا، وفي كل بقعة يمكن أن يصل منها صوت مكملين للعالم. لم يكن شعارا، وإنما كان استراتيجية بعيدة المدى كنا نعلم وقتها أنها ستصير واقعا عاجلا أم آجلا.


الآن هو وقت التحرك بعيدا عن تركيا، فلتخرج مكملين والشرق من أي مكان ولو بأقل الامكانات، أرض الله واسعة والمعركة مع هذا النظام لم تنته ولن تنتهي بالضغط على تركيا، ولو كانت تركيا قد فتحت الباب لثماني سنوات كاملة فقد حان الوقت لفتح أبواب أخرى وبناء استراتيجية جديدة لا تحكمها سياسة دولة أو مصالح مشتركة، وإنما تتميز بالمرونة وخفة الحركة وسهولة إيصال الرسالة بأقل وأسرع وسيلة ممكنة.


يا قنوات إسطنبول، بكل من فيها وما فيها، أرض الله واسعة فاخرجوا وستجدوا مراغما كثيرا وسعة.

____________
نقلا عن: عربي21