المصدر : إخوان ويكي
مدخل
من سنن الله في كونه أن الأمم تتبدل من حال إلى حال ولا تستقر على مقام فتارة تنهض فتكون في أوج نهضتها وتارة تتدنى لتكون في ذيل القائمة وصدق الله " وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " 140 آل عمران
وتعد قضية نهوض الأمم من القضايا التي شغلت كثير من المفكرين منذ نهايات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين وتباينت الأطروحات بشأنها تباينا شديدا ... وقد أولى الإمام الشهيد قضية نهضة الأمة الإسلامية جل اهتمامه واولويات عنايته منذ بواكير نشاطه ثم كانت هي محور عمله وميدان تركيزه بعد أن أفاء الله عليه بتأسيس الجماعة ووضع اللبنات الأولى في صرحها حتى كتب الله له الشهادة رجمه الله.
وقد انطلق الإمام البنا في معالجته لقضية النهضة من الإقرار بحقيقة صعود الأمم وهبوطها .. حيث قال يرحمه الله " فكل أمة بين حالين لا ثالث لهما، يخلف كل منهما الآخر متى توافرت دواعيه وأسبابه، هذان الحالان هما حال القوة وحال الضعف"
وقد شبه الأمة بالفرد في تبدل الأحوال عبر مراحل حياته " اعلم أن مثل الأمم في قوتها وضعفها وشبابها وشيخوختها وصحتها وسقمها مثل الأفراد سواء بسواء".
وفي السطور التالية نحاول في إيجاز الوقوف على ملامح الطريق الذي رسمه الإمام الشهيد لتحقيق نهضة الأمة الإسلامية والدور المنوط والمهمة الموكولة للجماعة على هذا الطريق..
المبحث الأول:منهجية الإمام البنا لرسم مشروع الجماعة لنهضة الأمة
من الضروري لنا ونحن نتناول في هذه الدراسة، قضية تحديد الطريق لتحقيق نهضة الأمة الإسلامية، أن نتعرف على المنطلقات الاساسية التي انطل منها رحمة الله، والخطوات التي قام بها لرسم ملامح المشروع الذي رأه السبيل لتحقيق هذه النهضة .
أولا : التفكير في وتحديد التحديات التي تواجه الأمة
من المتعارف عليه في فقه مواجهة الأزمات، أن يتجه الذين يريدون حل أي أزمة أولا إلى التفكير فيها، واستعراض الأزمة من جميع جوانبها، وتحليل عيوبها، ويأتي بعد ذلك البحث عن حلول لهذه الأزمة، وهذا ما انتهجه أمامنا الشهيد عليه رحمة الله
فقال :
- " ثم كانت في مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي، وأهاجت كوامن الشجن في قلبي، ولفتت نظري إلى وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس..
- " ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلت إليه إلى حد البكاء...
- ولقد أخذت أفاتح كثيراً من كبار القوم في وجوب النهوض، والعمل، وسلوك طريق الجد، والتكوين، فكنت أجد التثبيط أحيانا، والتشجيع أحيانا، والتريث أحيانا، ولكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية ..
- كنا نعجب لهؤلاء الناس وكثير منهم من المثقفين، ومن هم أولى منا بحمل هذا العبء، ثم يقول بعضنا لبعض: أليس هذه داء من أدواء الأمة ولعله أخطرها، ألا تفكر في مرضها، وألاّ تعمل لعلاج نفسها ..
ولهذا وأمثاله نعمل، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا، فنتعزى ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه ".
ثانياً: دراسة تاريخ الأمة الإسلامية وواقعها المعاصر
أيقن الإمام البنا رحمه الله، أن على كل من أراد أن يحدث تغييرا اجتماعيا، لابد أن يكون له مع التاريخ وقفات، لاستلهام العظات، وتجنب العثرات، ومراقبة حركة السنن الإلهية، في المجتمعات، من حين تكوينها، إلى مراحل ازدهارها
وأسباب سقوطها وانهيارها، ففي ثنايا هذه المراحل تكمن العبرة، وتختبئ الموعظة، وتظهر القدوة، وتُسفر النتائج، فلقد اعتمد القرآن هذا الطريق، وسلك هذا السبيل في التقويم، فعرض علينا صورا شتى لأمم كانت مندثرة فظهرت، وأخرى كانت عامرة فخربت، وكل ذلك للاعتبار، وقراءة الأسباب، وتوضيح السنن التي تقوم عليها الحياة..
وقد سجل الإمام البنا في ثنايا رسائلة كثير من العبر والدروس المستفادة من دراسته وتحليله المتعمق للمراحل التاريخية التي مرت بها الإمة الإسلامية منذ بزوغها
وحتى الفترة التي عاصرها فيها رحمه الله:
- " إن نهضات الأمم جميعا إنما بدأت على حال من الضعف يخيل للناظر إليها أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال، ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر، والثبات، والحكمة، والأناة، وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة القليلة الوسائل إلى ذروة ما يرجوا القائمون بها من توفيق ونجاح ....!
- ومن ذا الذي كان يصدق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان .. وتسيطر بنفوذ أبناءها الروحي والسياسي، على أعظم دول العالم ؟
- ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر، وهو ذلك القلب الرقيق اللين، وقد انتقض الناس عليه وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشا تقمع العصاة، وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين ؟ "
ومن هنا فقد أدرك الأستاذ البنا عليه رحمة الله أن بداية إنشاء الأمة الإسلامية الاولى كان بفضل التوجيه الرباني الذي خصها الله به، وأكد أنها كانت بداية صحيحة، ومتينة، وأن وضوح، وقوة مبادئها الأولى هو الذي شكل لها الإطار الحضاري الذي، ارتسمت في داخله معالم هذه الأمة الوليدة
فقال:
- "منذ ألف وثلاثمائة سنة وسبعين عاما نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة وعلى راس الصفا :"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" "لأعراف:158" .
- فكانت تلك الدعوة الجامعة حدا فاصلا في الكون كله، بين ماض مظلم، ومستقبل باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير ومبلغه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار
- والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة : "مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ" "الشورى:52-53" .
- على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيمانا عميقا وتطبقه تطبيقا دقيقا وتنشره في العالمين ... وكانت الوحدة بكل معانيها ومظاهرها شملت هذه الأمة الناشئة
- فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن ولغة القرآن، والوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين وتحت لواء الخلافة في العاصمة، ولم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش، وفي بيوت المال، وفي تصرفات الولاة، إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة وبتوجيه عام متحد..."
كما درس الإمام البنا أنماط الصراعات التي مرت بها الإنسانية والأمة الإسلامية في المراحل التاريخية المختلفة وحدد آثارها الضاره على مكانة الأمة، ودورها في إحداث حالة الضعف والوهن التي أصابتها ...
أولاً: الصراع السياسي
اتخذ هذا النوع من الصراع عدة أشكال على مدار قرون، فقد انغرس خنجر التتار في قلب الخلافة ببغداد سنة 656هجرية، فتناثرت حبات عقد الخلافة، وتفرقت الأمة إلى دويلات، وتتالت عليها تسع حملات صليبية تقودها أوربا الموتورة، فقد سنحت الفرصة للأخذ بالثأر، فتُوِّجتْ هذه الحملات بإقامة دولة صليبية في بيت المقدس وتهديد دول الإسلام في الشرق والغرب .
وبالرغم من هذا المحاق، إلاّ أن الله تعالى لم يأذن بعد بانتصار الباطل على الحق، فعاد بيت المقدس في حطين، ودُحِر التتار في عين جالوت، وعادت الخلافة من جديد وارفة الظلال تحت لواء العثمانيين، وفُتحت القسطنطينية وامتد الإسلام إلى قلب أوربا ..
ولكن أوروبا لم تهدأ كما هدأنا، ولم تغفل كما غفلنا، واختلطت بالإسلام غربا بالأندلس، وشرقا بالحملات الصليبية، فلم تضيع الفرصة، فأخذت تتجمع، وتتقوى، تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال، فقامت الدولة الأسبانية الفتية على أنقاض الأندلس، واكتُشفت أمريكا، والهند، ونبغ فيها كثير من المصلحين، وتكونت فيها الأحلاف المقدسة، وأقبلت على العلم الكوني والمعرفة المنتجة المثمرة ...
لقد انتهت مرحلة الصراع السياسي بالحرب العالمية الأولي، وقُسمت تركة الرجل المريض بأشكال مختلفة، كالاحتلال، والانتداب، والوصاية، والاستعمار، وانتصرت أوربا في هذا الصراع السياسي، ثم هبّت هذه الدول إلى المطالبة باستقلالها، وظهر المعنى القومي الخاص بكل دولة، وفي هذه الأثناء اشتعلت الحرب العالمية الثانية .
ثانيا: الصراع الاجتماعي
الذي اتخذ نوع من الصراع، والتدافع، وعلى مدار قرون حيث يقول الأستاذ البنا تحت عنوان:(حضارة جديدة تتبلور):
- " إن الأمم الأوربية التي اتصلت بالإسلام وشعوبه في الشرق بالحروب الصليبية، وفي الغرب بمجاورة عرب الأندلس وخالطتهم، ولم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع والتوحد السياسي، ولكنها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنية وعقلية كبيرة واكتسبت علوما ومعارف جمة ..."
وأبرز هذه المظاهر كما تبين من كلامه هي :
- ظهور نهضة أدبية وعلمية واسعة النطاق في أوروبا.
- نشوب صراع عنيف بين هذه النهضة وبين الكنيسة انتهى بانتصار الأولى.
- قيام الثورة الصناعية الإنتاجية كثمرة من ثمرات النهضة العلمية الحديثة.
- امتداد سلطان الدولة الأوربية إلى كثير من البلاد والأقطار.
- قيام الحياة والحضارة الأوربية على قاعدة إقصاء الدين عن الدولة،والمحكمة، والمدرسة.
- طغيان النظرة المادية، وجعلها المقياس في كل شيء، وتفشي قيم جديدة مثل:الإلحاد،والإباحية، والأنانية، والربا.
وفي إطار هذا الصراع وعقب هذا الاتصال وما أثمره، حاولت الحضارة الغربية الناشئة نقل هذه الحياة بما احتوته من غث، وسمين إلى البلاد الإسلامية ..
وفي هذا يقول الإمام الشهيد: وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية، بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة، من العلوم والمعارف والصناعات، والنظم النافعة، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي، إحكاماً شديدا، واستعانوا بدهائهم السياسي، وسلطانهم العسكري، حتى تم لهم ما أرادوا..
وأبرز وسائل ونتائج هذه الحملة كما ذكر رحمه الله هي:
- إغراء الحكام بالاستدانة منهم والتعامل معهم.
- اكتساب حق التدخل الاقتصادي، وإغراق البلاد برؤوس الأموال،والمصارف،والشركات، وإدارة دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون.
- تغيير قواعد الحكم والقضاء، والتعليم، وصبغ النظم السياسية،والتشريعية بصبغتهم.
- جلب النساء،والخمور، والمسارح، والمراقص، والملاهي، والأدبيات، والسلوكيات الماجنة.
- إنشاء المدارس، والمعاهد العلمية والثقافية الغربية في عقر ديار الإسلام للتشكيك والتغريب.
- جعل أبناء الإسلام يحتقرون دينهم،وأوطانهم، ويقدسون كل ما هو غربي.
- تلاحق البعثات الدراسية لاستكمال عملية الغزو الثقافي والاجتماعي المنظّم.
ولم تقف هذه الهجمة عند هذه النتائج فقط بل توجهت لمحاولة خداع عقلاء المسلمين لهز ثقتهم في دينهم الذي ارتضاه الله لهم وللبشرية جمعاء نورا وهداية ..
وفي هذا يقول الإمام البنا رحمه الله:
- .. ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين، وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغُير منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد، والعبادات، والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء
- وأعانهم على هذه الخديعة:
- جهل المسلمين بحقيقة دينهم، حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد، حتى صار من العسير أن نُفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة..
ثم استطرد الإمام رحمه الله في بيان مظاهر التدافع التي مرّت بها الأمة، والمنعطفات التي أثّرت في تاريخها وقلبت الموازين، وذلك في إطار تشخيص الحالة، ووضع العاملين في حقل النهضة أمام المفاصل التي يجب أن يقفوا أمامها طويلا....
فيقول:
- ونستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس، ميدانها نفوس المسلمين، وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، ولا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ، والقوة قوة فيها جميعا
- والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: "وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" "آل عمران:140"، وإن كان مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة، جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حياطته:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" "الحجر:9"، "وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" "التوبة:32" .
وقد لخص الإمام الشهيد رحمة الله آثار هذا التدافع وما نتج عنه من هيمنة غربية مؤكدا أنه مع كل هذا فإن نور الله لم يكن ليُطفأ، وإنما هي الأيام دُولٌ ...
حيث يقول رحمه الله :
- " وكما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية، كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية، فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام وتفهم أحكامه وتطبيق نظامه، ولابد أن يأتي قريبا ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها
- وحينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم وأرواحهم ولا يجدون الغذاء والشفاء والدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" "يونس:57-58".. "
ونتيجة لهذه الدراسة المعمقة وتلك النظرة الفاحصة التي قام بها الإمام الشهيد لتاريخ الأمة الإسلامية، فقد حدد رحمه الله أسباب مرحلة الضعف والوهن الني دخلت فيها الأمة الإسلامية
حيث يقول:
"" ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع، فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية، وتعظم وتنتشر وتقوى شيئا فشيئا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار، وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية، وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض .. "
وكان أهم هذه العوامل التي استخلصها الإمام الشهيد:
- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه .. "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا.. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" الأنفال46 .
- الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة.. "ما ضل قوم بعدي على هدى إلا أوتوا الجدل ..." .
- الانغماس في ألوان الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات.... " وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً" "الإسراء:16" .
- انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه.... "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ" "آل عمران:118".
- إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة ... " قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" "يونس:101".
- غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة، وقد أمرهم القرآن باليقظة وحذرهم من مغبة الغفلة واعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل : "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" "الأعراف:179".
- الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم والأمر الصريح بمخالفتهم والمحافظة على مقومات الأمة الإسلامية والتحذير من مغبة هذا التقليد..... "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ" "آل عمران:100" .
- ضعف الدافع العقدي .. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ" "آل عمران:149".
ثالثا : دراسة تاريخ الأمم الناهضة
لم يكتف الإمام البنا بدراسة تاريخ الأمة الإسلامية في مراحلة المختلفة فقط، بل عمد إلى دراسة تاريخ الأمم الناهضة إسلامية وغير إسلامية كأساس منهجي لتكوين مشروعه لنهضة الامة الإسلامية من جديد ..
وفي هذا يقول رحمه الله في هذا الشأن :
- " وأنت إذا راجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية، وإلى الأدوار التي سبقت، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق، ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوربية، من فرنسا وإيطاليا، وروسيا، وتركيا سواء في الدور الأول، وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات، أو في هذا الدور وهو دور تكوين المباديء، ومناصرة النظريات، لرأيت كل ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدي إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة .."
ويقول رحمه الله في موضع آخر:
- " .. إن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال"
- ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟"
- ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً، تقمع العصاة وتقوِّم المعوج، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟.
- الدولة العباسية :
- ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي و العباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها، وهي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل والتشريد والنفي والتهديد؟
- الدولة الأيوبية:
- ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟
الدولة الألمانية:
- ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني "هتلر" يصل إلى ما وصل إليه من قوة 1النفوذ ونجاح الغاية..؟
رابعا : دراسة الواقع
قام الإمام الشهيد بالإضافة إلى ماسبق من خطوات، بدراسة واقع العالم الإسلامي المعاصر ليكون ذلك مع الركائز السابقة، قاعدة الإنطلاق في رسم صور النهوض المنشودة ...
وقد بدأ رحمه الله بالتحليل الوصفي "النوعي" للواقع حيث انتهى إلى القول:
- " ... علمتنا التجارب وعرفتنا الحوادث أن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحي، كثير الأعراض، قد نال من كل مظاهر حياتها فهي مصابة في:
- ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها، والحزبية والخصومة والفرقة والشتات من جانب أبنائها .
- وفى ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها واستيلاء الشركات الأجنبية على مواردها وخيراتها .
- وهى مصابة من ناحيتها الفكرية بالفوضى والمروق والإلحاد ويهدم عقائدها ويحطم المثل العليا في نفوس أبنائها .
- وفى ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها وأخلاقها والتحلل من عقدة الفضائل الإنسانية التي ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها وبالتقليد الغربي يسرى في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دمائها ويعكر صفو هناءها
- وبالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما ولا تؤدب معتديا ولا ترد ظالما ولا تغنى يوما من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق ومالك الملك ورب النفوس وبارئها .
- وبفوضى في سياسة التعليم والتربية التي تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها ورجال مستقبلها وحملة أمانة النهوض بها
- وفى ناحيتها النفسانية بيأس قاتل وخمول مميت وجبن فاضح وذلة حقيرة وشح وأنانية تكف الأيدي عن البذل وتقف حجابا دون التضحية وتخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى صفوف اللاهين اللاعبين .
إن داءا واحدا من هذه الأدواء يكفى لقتل أمم متظاهرة فكيف وقد تفشت جميعا في كل أمة على حدة ؟؟ّ يا أخي هذا هو التشخيص الذي يلمسه الإخوان في أمراض هذه الأمة وهذا هو الذي يعملون في سبيل أن يبرأها منه ويعيد إليها ما فقدت من صحة وشباب ...
المبحث الثاني:إمكانية النهوض
اليوم بعد أن مَسَحْنا التاريخ، وتعرفنا على الواقع الأليم، وتحسَّسْنا مواقع الداء، وعلِمْنا من خلال تتبعنا لحال الأمة أن المرض عُضال، فقد استحكم التخلف، واستوطن الضعف، وفقدنا زمام أمرنا في كل شيء، ولهذا كله تفطّن الإمام البناعليه رحمة الله، إلى خطورة هذا الوضع فندب إخوانه إلي بذل الجهود للتغلب عليه، بعد أن أوضح لهم معالم هذا الواقع المرير الذي أفاض في شرحه وتحليله
فقال:
- " شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية، وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني.
- وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد: بين الحق والباطل وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى..
ولم يترك الإمام البنا الأمة حيرى أمام هذا الواقع الأليم - فإن الرائد لا يكذب قومه- فقام رحمه الله بوصف المهمة التي تقع على عاتق الأمة بعد أن تفيق من كبوتها بكل دقه وتحديد، وبعبارات موجزة، ولكنها تشير إلى مقصد القرآن، ومضمون رسالة الأنبياء،وحقيقة ميراثهم، وغاية كل مؤمن يسعي لنصرة هذه الدين:
- "إن مهمتنا سيادة الدنيا وإرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة وتعاليمه التي لا يمكن بغيرها أن يسعد الناس ..."
ثم يعود ويؤكد:
- "إن العالم كله حائر يضطرب،، كل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها".
ولم تقف جهوده رضوان الله عليه عند تحديد المهمة وتوضيح معالم الطريق، بل أخذ رضوان الله عليه يدعو أبناء هذا الأمة إلى هذا السبيل الوحيد، حيث يقول:
- "دعوت قومي إلى أن يختاروا، أو بعبارة أصح وأوضح، إلى أن يبروا بعهدهم مع الله ومع أنفسهم فيقيموا دعائم حياتنا الاجتماعية في كل مظاهرها على قواعدالإسلام الحنيف، وبذلك يسلم مجتمعنا من هذا القلق والاضطرابات والبلبلة التي شملت كل شيء
- والتي وقفت بنا عن كل تقدم، والتي حالت بيننا وبين أن نتعرف الطريق السوي إلى علاج أية قضية من قضايانا الكثيرة المعلقة في الداخل والخارج، وقلت إنه لا سبيل إلى النجاة إلا هذا الاتجاه عقيدة وعملا بكل ما نستطيع من حزم وسرعة ."
دلالات النهوض في الأمة
وقد استمر الإمام الشهيد في بث الأمل في نفوس المسلمين، بأن الأمر صائر لا محالة إلى نهضة الأمة من جديد، وأن المطلوب هو العمل والعمل الجاد المخلص، والله هو المتكفل بالتوفيق والسداد بعد ذلك .
يقول رحمه الله :
- " يقول علماء الاجتماع إن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم هي حقائق الغد، وتلك نظرة يؤيدها الواقع ويعززها الدليل والبرهان، بل هي محور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال، فمن ذا الذي كان يصدق أن يصل العلماء إلى ما وصلوا إليه من المكتشفات والمخترعات قبل حدوثها ببضع سنين، بل إن أساطين العلم أنفسهم أنكروها لأول عهدهم بها، حتى أثبتها الواقع وأيدها البرهان، والمثل على ذلك كثيرة، وهي من البداهة بحيث يكفينا ذلك عن الإطالة بذكرها . "
وفي موضع آخر يؤكد:
- نظرتان تحدثان النتيجة بعينها وتوجهان قلب الغيور إلى العمل توجيها صحيحا .
- أولاهما: أن هذه الطريق مهما طالت فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناء صحيحا وقد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية .
- وثانيتهما: أن العامل يعمل لأداء الواجب أولا، ثم للأجر الأخروي ثانيا، ثم للإفادة ثالثا،
وهو إن عمل فقد أدى الواجب، وفاز بثواب الله ما في ذلك من شك، متى توفرت شروطه، وبقيت الإفادة وأمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات، على حين إنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير، وضاع منه أجر الجهاد وحرم الإفادة قطعا، فأي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ؟
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة ووضوح في الآية الكريمة : " وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ..."" الأعراف 164 – 165 "
وقد عزز الإمام الشهيد رحمه الله هذا اليقين في نفوس أبناء الأمة بما استقاه من عبر ودروس حفل بها دستور الأمة، القرآن العظيم، في قصة نهوض بني إسرائيل مع نبي الله موسى – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بعد مرحلة الذل والهوان التي عاشوها في كنف فرعون:
مرحلة الضعف والاستضعاف :
- " ...نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْض ..... " " القصص3-6 " .
مرحلة الزعامة المؤهّلة:
- " فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ... " " الشعراء 16-21 " .
- مرحلة الصراع والتدافع:
- "وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " "الأعراف 127-128 " .
مرحلة الإيمان والتحدي:
- "قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ... " " طه 72-73 " .
مرحلة الانتصار والنجاح :
- " يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ ..... " إلخ الآية " .
ولم يقف جهد الإمام البنا عند هذا الحد بل عمد إلى الإستزادة في تحديد معالم الطريق .. فبعد أن أكد في نفوس المسلمين أن نهضة الأمة ممكنة بل مؤكدة، ما عملوا لها وما بذلوا جهدهم ووسعهم لتحقيقها حرص رحمه الله على توضيح أن هناك قوانين وسنن وُضعت بإحكام، ورُسمت بإتقان، وخضعت لها نواميس المجتمعات، ومراحل تطورها، فمن سار عليها سار في سلّم الصعود، ومن جانبها بقي في مؤخرة الركب..! .
وفي ثنايا حديثنا عن رؤية الأستاذ البنا، نستعرض وصْفَه لبعض القوانين التي تحكم عملية التغيير، والتي لا ينبغي إغفالها من قِبَلِ من يسعى إلى النهوض بمجتمعاتنا، وينتدب نفسه لقيادة الركب:
- (1) ضرورة امتلاك الفكرة المركزية
- يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك وتعالى حين أنزل القرآن وأمر عباده أن يتبعوا محمدا ورضي لهم الإسلام دينا، ووضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم ونهضتها وإسعادها، وذلك مصداق قول الله تبارك وتعالى : "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ" .. "الأعراف:157"..."رسالة إلى أي شىء ندعو الناس".
- (2) توفر القوة الدافعة المحركة
- وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيرا النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها.
- وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها، إن من وراء المظاهر جميعا في كل دعوة روحا دافعة، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" "الرعد:11" .
- ولهذا أستطيع أن أقول إن أول ما نهتم له في دعوتنا، وأهم ما نعول علية في نمائها وظهورها وانتشارها هذه اليقظة الروحية المرتجلة. فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز في النفوس هذه الفكرة .
- نحن نريد نفوساً حية قوية فتية، قلوباً جديدة خفاقة، مشاعر غيورة ملتهبة متأججة، أرواحاً طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مثلاً علياً، وأهدافاً سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً ولا تحتمل شكاً ولا ريباً .
- وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذا الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة فيه، فما حدود الأهداف وما منتهاها ؟!
- إن النبي - صلى الله عيه وسلم - قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة فأشرقت بها وانطبعت عليها:
- (أ) ... قذف في قلوبهم أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل وأن رسالته خير الرسالات، ونهجه أفضل المناهج، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعني ثباتاً في النفس
- وتمسكاً في القلب:
- "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ""الزخرف:43-44" .. "فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ" "النمل:79"."ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ" "الجاثـية:18 " .... "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً..." "النساء:65".
فآمنوا بهذا واعتقدوه وصدروا عنه .
- (ب) .. وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس وان يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه: يحنوا عليه ويرشده ويقومه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل .
- وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعني ويزيده كذلك وضوحاً، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء:
"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ" "آل عمران:110" .. "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" "البقرة:143".. "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" "الحج:78" . فآمنوا بهذا أيضاً واعتقدوه وصدروا عنه .
- (ج) .. وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلي عنهم الناس، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير وهو معهم أينما كانوا . وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء
- وأخذوا يقرءون هذه المعاني السامية واضحة في كتاب الله :
- "إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" "لأعراف:128" ..
- "أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" "الأنبياء:105"..
- "وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" "الحج:40" ..
- "كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" "المجادلة:21" ..
- "وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" "يوسف:21"..
- "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا" "لأنفال:12"
- "وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" "الروم:47" ..
- "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ" "القصص:5"
- "رسالة دعوتنا في طور جديد"
- (3) اعتماد منهج التغيير الذاتي
- هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً: "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" "الرعد:11" . وهو أيضا القانون الذي عبر عنه النبي في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود : "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول اللّه وما الوهن ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت" .
- أو لست تراه قد بين أن سبب ضعف الأمم وذلة الشعوب وهن نفوسها وضعف قلوبها وخلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة وصفات الرجولة الصحيحة، وإن كثر عددها وزادت خيراتها وثمراتها، وإن الأمة إذا رتعت في النعيم وأنست بالترف وغرقت في أعراض المادة وافتتنت بزهرة الحياة الدنيا، ونسيت احتمال الشدائد ومقارعة الخطوب والمجاهدة في سبيل الحق، فقل على عزتها وآمالها العفاء ...
- إن تغيير عالم الأفكار شرط رئيس في تغيير عالم الأشياء، والتركيز على النفوس هو بداية الطريق لكل مصلح .
- (4) مراعاة صحة نقطة البدء والأخذ بمستلزمات الانطلاق
- إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور:
- إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف.
- وفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر.
- تضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل.
- معرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره.
- على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً.
- وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: "إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً" "يونس:36" .
- (5) العمل مع الشباب من اهم مقومات تحقيق النهضة.
- إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها. وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة: الايمان، والإخلاص، والحماسة، والعمل من خصائص الشباب.
- لان أساس الايمان القلب الذكي، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي، وأساس الحماسة الشعور القوي، وأساس العمل العزم الفتي، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب. ومن هنا كان الشباب قديما وحديثا في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها، وفي كل فكرة حامل رايتها... " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى " .." الكهف " .
- (6) إعداد الرجال والرواحل
- يشير الإمام البنا هنا إلى المقياس الفعلي للنهضة، والمؤشر الحقيقي لقوة الأمة أو ضعفها فيقول :
- " إن الرجال سر حياة الأمم ونهضتها، وإن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات. وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما يقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوافر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة..
- (7) السعي لتحقُّق المتطلبات الأولية للنهضة
- أنت إذا راجعت تاريخ النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية، قديمًا وحديثًا، رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم منهاج محدود عليه يعملون وهدف محدود إليه يقصدون.. حتى إذا حِيل بينهم وبينه وانتهت تلك الفترة القصيرة فترة الحياة في هذه الدنيا، خلفهم من قومهم غيرهم، يعملون على منهاجهم
- ويبدأون من حيث انتهى أولئك، لا يقطعون ما وصلوا ولا يهدمون ما بنوا، ولا ينقصون ما أسهموا وشادوا، ولا يخربون ما عمَّروا، فإما زادوا البناء طبقة وساروا بالأمة شوطًا إلى الغاية حيث يصلون بها إلى ما تبتغي أو ينصرفون راشدين ويخلفهم غيرهم..
- إن المتطلبات الأولية لمشروع النهضة أمر غاية في الأهمية ..! هدف محدد ..وداعين يعملون لهذا الهدف وفقا لمنهاج محدد معروف الخطوات متواصل تقوم الأجيال المتعاقبة بتنفيذه جيلا بعد جيل، وذلك لحفظ الجهود من الضياع،وتجنب هدر الإمكانيات.
- وحري بأي حركة نذرت نفسها لقيادة المشروع النهضوي أن تستفيد من جهود السابقين، ثم تطورها وتسلمها للاحقين ..! بدلاً من البدء من الصفر في كل مرة ..!
- (8) الحرص على اكتساب تأييد الأمة
- إن الغاية الأخيرة، والنتيجة الكاملة لا تتحقق إلا بعد:
- عموم الدعاية .. "الرأي العام"
- وكثرة الأنصار .. "شبكة العلاقات"
- ومتانة التكوين "بناء المؤسسات ..."
وبناءا على ذلك فإن حركة النهضة تحتاج إلى فاعلية كل شرائح الأمة، وإن مقياس النجاح هو اتجاه الرأي العام إلى الوجهة الصالحة من خلال مؤسسات قوية، ومتينة .
- (9) إدراك مقتضيات وضرورة التدافع الإنساني في طريق النهضة
- " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.." "الحج:40" .
- " وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ" "البقرة : 251" .
- "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.. " "الرعد : 17 " .
- "وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ.... " " الشورى :17 " .
- "بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ..." " الأنبياء :18 " .
- يقول الأستاذ البنا:
- وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائماً للقوي السابق... وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها، وأن يكون رأب الصدع وجبر الكسر، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا، واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا.
- كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية، وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا، وتنهض لمهمة كمهمتنا، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني.
- وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد: بين الحق والباطل وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد، والجهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى...".
- وعلى هذا فإن سنة المداولة باقية، ولن تكون نهضة إلا بحراك، وطبيعة الحراك تتطلب فعل، ومواجهة، وصراع، وتدافع، وكفاح طويل... ومرير .
- (10) مراعاة سنة الاستشراف والفرصة
- إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة، وإن العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام، وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وترجون من الله ما لا يرجون، فاستعدوا واعملوا اليوم..
- (11) الإيمان بالتداول والاستبدال الحضاري
- اعلم وتعلّم أن مثل الأمم في قوتها وضعفها، وشبابها وشيخوختها، وصحتها وسقمها، مثل الأفراد سواء بسواء.
- وعلاجها إنما يكون بأمور ثلاثة:
- معرفة موطن الداء،والصبر على آلام العلاج والطبيب الذي يتولى العلاج، وهذا مصداق لقوله تعالى في سورة آل عمران.... " قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ "137" هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ "138" وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "139" إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ "140" وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ".. " وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ " " محمد "38".. " .
- فلنعد العدة، ولنرتب أوراقنا ...ونلتقط زمام أمرنا ونأخذ دورنا ..وربك يخلق ما يشاء ويختار وكل شيء عنده بمقدار .
- (12) توفير دعائم السير
- يقول الإمام الشهيد مؤسس وواضع نظريات العممل الإسلامي المعاصر: إذ يصف ذلك فيقول:
- "ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة، ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة، وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى، وعالج هذه النواحي علاجا دقيقا واضحا، لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد ".
الدعامة الأولى : الأمل
- "تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم، وحسبك انه يجعل اليأس سبيلا إلى الكفر والقنوط من مظاهر الضلال .
- ولنقرأ قوله تعالى : "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ" "القصص:5-6" .
- وقوله تعالى : "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" "آل عمران:139-140" .
- وقوله تعالى : "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ" "الحشر:2".
- وقوله تعالى : "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ" "البقرة:214" .
الدعامة الثانية : الاعتزاز الانتماء واصالة وأصالة والتاريخ
- تحتاج الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها، حتى تنطبع الصورة في نفوس الأبناء، فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم، ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده .
- هذا المعنى لن نراه واضحا في نظام من النظم عادلا فاضلا رحيما كما هو الإسلام الحنيف، فإن الأمة التي تعلم أن كرامتها وشرفها قد قدسه الله في سابق علمه وسجله في محكم كتابه فقال تبارك وتعالى : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" "آل عمران:110"
- وقال تعالى : "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" "البقرة:143"، "وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ" "المنافقون:8"، لهي أجدر الأمم بافتداء عزتها الربانية بالدنيا وما فيها
- ولقد عملت الأمم الحديثة على ترسيخ هذا المعنى في نفوس شبابها ورجالها وأبنائها جميعا، ومن هنا سمعنا : "ألمانيا فوق الجميع"، "إيطاليا فوق الجميع"، "وسودي يا بريطانيا واحكمي" .
- ولكن الفارق بين الشعور الذي يمليه المبدأ الإسلامي وبين الشعور الذي أملته هذه الكلمات والمبادئ، أن شعور المسلم يتسامى حتى يتصل بالله، على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإسلام حدد الغاية من خلق هذا الشعور وشدد في التزامها، وبين أنها ليست العصبية الجنسية والفخر الكاذب بل قيادة العالم إلى الخير، ولهذا قال تبارك وتعالى : "تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ" "آل عمران:110" .
الدعامة الثالثة:القوة "الجندية"
- وتحتاج كذلك الأمم الناهضة إلى القوة وطبع أبنائها بطابع الجندية، ولا سيما في هذه العصور، والتي صار شعارها: "القوة أضمن طريق لإحقاق الحق " .. والإسلام لم يغفل هذه الناحية، بل جعلها فريضة محكمة من فرائضه
- ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم في شيء، وليس في الدنيا كلها نظام عني بهذه الناحية، لا في القديم ولا في الحديث، كما عني بذلك الإسلام في القرآن وفي حديث رسول الله وإنك لترى ذلك ماثلا واضحا في قوله تعالى : "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ" "لأنفال:60"
- وفي قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ" "البقرة:216" . ..... "فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ" ثم بين الجزاء بعد ذلك : "وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً" "النساء:74".
الدعامة الرابعة :العلم
- وكما تحتاج الأمم إلى القوة تحتاج كذلك إلى العلم الذي يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم، بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة ويناصره، وحسبك أن أول آية نزلت من كتاب الله تعالى : "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" "العلق:1-5"
- وأن رسول الله قد جعل من فداء المشركين في بدر أن يعلم أحدهم من الأسرى عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة،عملا على محو الأمية، ولم يسو الله بين العلماء وبين الجاهلين، فقال تبارك وتعالى:"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ" "الزمر:9"
- ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بهما جميعاَ، وجمع علوم الكون في آية واحدة، وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته، فذلك قول الله تعالى : "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" ... وفي ذلك إشارة إلى الهيئة والفلك وارتباط السماء بالأرض، ثم قال تعالى: "فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا"
- وفي ذلك الإشارة إلى علم النبات وغرائبه وعجائبه وكيميائه، "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ" وفي ذلك الإشارة إلى علم الجيولوجيا وطبقات الأرض وادوارها وأطوارها، "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ" وفيها الإشارة إلى علم البيولوجيا والحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم ...فهل ترى هذه الآية غادرت شيئا من علوم الكون ؟ ثم يردف ذلك كله بقوله تعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ" "فاطر:27-28" .
الدعامة الخامسة: الخُلُق
- الأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق .. الخلق الفاضل القوي المتين والنفس الكبيرة العالية الطموحة، إذ أنها ستواجه من مطالب العصر الجديد مالا تستطيع الوصول إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الإيمان العميق والثبات الراسخ والتضحية الكثيرة والاحتمال البالغ، وإنما يصوغ هذه النفس الكاملة الإسلاموحده، هو الذي جعل صلاح النفس وتزكيتها أساس الفلاح، فقال تعالى : "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" "الشمس:9-10" .
- وجعل تغيير شئون الأمم وقفا على تغير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال : "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" "الرعد:11" .
الدعامة السادسة : المال
- والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شؤونها الاقتصادية، وهي أهم الشؤون في هذه العصور، ولم يغفل الإسلام هذه الناحية بل وضع كلياتها ولم يقف أمام استكمال أمرها، وها أنت ذا تسمع قول الله تبارك وتعالى في المحافظة على المال وبيان قيمته ووجوب الاهتمام به : "وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً" "النساء:5" .
- ويقول في موازنة الإنفاق والدخل : "وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ" "الإسراء:29" . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم المال الصالح للرجل الصالح".
الدعامة السابعة : شمولية التنظيم
- هذه ناحية من نواحي الجمال في النظم الإسلامية وبصفة محددة النظم الخاصة بنهضة الأمم، وحسبنا أن نقول كلمة مجملة كل الإجمال وهي : إن نظم الإسلامفيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومتها وشعبها، أو صلة الأمم بعضها ببعض، نظم الإسلام في ذلك كله قد جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها، وإنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم قديما أو حديثا . هذا حكم يؤيده التاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة .
كيفية التعامل مع هذه القوانين
إن كنا قد عَلمْنا فِعْل السنن في المجتمعات، فإن هذه المعرفة لن تؤهلنا للنهوض ما لم نفقه كيفية التعامل مع هذه القوانين والسنن
ويشير الأستاذ البنا إلى هذه الحقيقة فيقول:
- "لا تصادموا قوانين الكون فإنها غلاّبة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد"
المبحث الثالث
بعد هذه السياحة،مع التاريخ، والواقع، وتأكيد توفر الاستعداد للنهوض، يخلص الأستاذ البنا إلى أن هذه المعرفة للعمل والتحرك والدفع، لإقامة مشروع النهضة المبتغاة
فيقول:
- "فعلى هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم وأصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلى الخير والله معكم ولن يتركم أعمالكم "
وفي الصفحات القادمة نبين رؤية البنا للمشروع النهضوي الإسلامي، والذي حصره اركانه الرئيسية في غايتين أساسيتين، ولا تتحقق إحداهما إلا بتحقيق الأخرى وهما:
- الدعوة فكرة وعملا وتنظيما للجهود.
- إقامة الكيان السياسي.
الدعوة فكرا وأساسا لمشروع النهضة
لقد قامت دعوة الإخوان على أسس الإسلام، ومنه وبه كانت كل منطلقاتها، وفيما يلي نورد أسس وخصائص هذه الدعوة كما قررها البنا عليه رحمة الله .
الأساس الفكري لدعوة الإخوان
يقول رحمه الله أن:
- من الحق أيها الإخوان أن نذكر أمام هذه العقبات جميعاً أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمي الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوي الفكر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع، "صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً" "البقرة:138"، وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة وكل ما فيه يمهد لها ويهيئ سبيلها
- وأننا بحمد الله براء من المطامع الشخصية بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، وإننا نترقب تأييد الله ونصره الله فلا غالب له : "ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ" "محمد:11" .
- فقوة دعوتنا وحاجة إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله إيانا هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يقف في طريقها عائق : "وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" "يوسف:21" .
ثم يقول:
- "لقد آمنا إيمانا لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يضحى في سبيل إعلانها والتبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه:
- " شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "18 " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإسلام.."" آل عمران " . "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا "" المائدة.. 3 "
ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، على الإسلام ترتكز ومنه تستمد وله تجاهد وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل. لا تعدل بالإسلام نظاماً، ولا ترضى سواه إماماً، ولا تطيع لغيره أحكاما". " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ".. " آل عمران85 "
الخصائص الفكرية لدعوة الإخوان
الربانية
وفي ذلك يقول الأستاذ البنا:
- أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعاً، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانيةً كريمةً تسمو بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها.
ونحن الإخوان المسلمين نهتف من كل قلوبنا:
- "الله غايتنا" فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم... "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" "البقرة:21" .. وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعاً فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح..
العالمية
وأما أنها عالمية فلأنها موجهة إلى الناس كافة لأن الناس في حكمها إخوة: أصلهم واحد، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد، لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبما يقدم أحدهم المجموع من خير سابغ وفضل شامل "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" "النساء:1".
فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بنى الإنسان..
تميّز الفهم
في رسالة المؤتمر الخامس، يقرر الأستاذ البنا خاصية التميز فيقول:
- " واسمحوا لي أيها السادة أن أستخدم هذا التعبير " إسلام الإخوان المسلمين"، ولست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاماً جديداً غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم عن ربه، وإنما أعني أن كثيراً من المسلمين في كثيراً من العصور خلعوا على الإسلام نعوتاً وأوصافاً وحددوا رسوماً من عند أنفسهم
- واستخدموا مرونته وسعته استخداما ضاراً، مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية، فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافا عظيماً، وانطبعت في الإسلام في نفوس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذي مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير تمثيل .
- وهكذا اتصل الإخوان بكتاب الله واستلهموه واسترشدوه، فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة وأن تصطبغ جميعها به وأن تنزل على حكمه وأن تساير قواعده وتعاليمه وتستمد منها ما دامت تريد أن تكون مسلمة إسلاماً صحيحاً ..
الشمولية
في تحديده لهذه الخاصية، يفصل الأستاذ البنا فيقول:
- " كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكرة الإصلاحية، وأبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها
- وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك، إن الإخوان المسلمين : دعوة سلفية، وطريقه سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وروابط علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
- وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً، يعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً"..
ويلخص الأستاذ البنا معنى هذه الخاصية بقوله:
- " الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيد صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء "...
ولتأكيد هذه الخاصية فكراً وسلوكاً لجميع البشر، يقول الأستاذ البنا:
- " .. ولكنا أيها الناس : فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحدده موضوع ولا يقيده جنس، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأم حتى يرث الله الأرض ومن عليها ذلك لأنه نظام رب العالمين، ومنهاج رسوله الأمين" ..
الحرص على اتباع الاساليب العلمية
لتأكيد ضرورة توفر هذه الخاصية، يقول الأستاذ البنا:
- "كما تحتاج الأمم إلى القوة كذلك تحتاج إلى العلم الذي يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة يناصره، .. وقد وزن الإسلام مداد العلماء بدم الشهداء، ولازم القرآن بين العلم والقوة في هاتين الآيتين الكريمتين..
- "فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ "122" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ "123" ..."التوبة : 122-123" ..
- ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بها جميعاً، وجمع علوم الكون في آية واحدة، وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته، وذلك في قوله تعالى " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "27" وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ "28" "فاطر : 27- 28"...
الموضوعية والمزج بين العقل والعاطفة والمشاعر
عن هذه الخاصية يقول الأستاذ البنا: "أيها الإخوان السلمون:
- ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة الواقع،واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة . ولا تميلوا كل الميل فتذروها المعلقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها . واستعينوا ببعضها على بعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد ..
الحرص على التجرد والاستقلالية
وعن هذه الخاصية، يؤكد الأستاذ البنا:
- " دعوة لا تقبل الشركة إذ أن طبيعتها الوحدة، فمن استعد لذلك فقد عاش بها وعاشت به، ومن ضعف على هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين ويكون من المخلفين ويقعد مع القاعدين، ويستبدل الله لدعوته قوماً آخرين... " أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "54" "المائدة:54" ...
إيثار الناحية العملية
يقول الأستاذ البنا:
- "وأما إيثار الناحية العملية على الدعاية وإعلانات، فقد أثارها في نفس الإخوان ودعا إليها في مناهجهم أمور : منها ما جاء في الإسلام خاصة هذه الناحية بالذات، ومخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف والفساد، والموازنة بين هذه النظرة وبين ما ورد في إذاعة الخبر . ولأمر به والمسارعة إلي إعلانه ليتعدى نفسه، وأمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق .
- ومنها نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة والتهريج الذي ليس من ورائه عمل . ومنها ما كان يخشاه الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق في السير أو تعطيل عن الغاية "
الحرص على سمة الوسطية
وعن هذه الخاصية يقرر الأستاذ البنا ضرورتها للمشروع الإسلامي فيقول:
- "هذا الإسلام الذي بني على المزاج المعتدل و الإنصاف البالغ، والمسلمون اليوم بحاجة أكيدة لهذه الخاصية، تمكنهم من تقديم فكرتهم ومشروعهم الإسلامي كنموذج حضاري بديل للبشرية كلها يكون شاهد عليها، مصداقاً لقوله تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا "البقرة : 143" ...
الجذور التاريخية للمشرع الحضاري للإخوان
بعد الحديث عن الخصائص الفكرية التي تميزت بها فكرة الإخوان،والتي مثلت جوهر المشروع الحضاري الذي دعا إليه الإمام البنا، تحدث رحمه الله عن الجذور التاريخية التي استمد منها "مشروع النهضة" الذي تحملة الجماعة شرعيته، وبيان مكانه في سلسلة الامتداد الحضاري الذي مرت به البشرية على مر العصور
وذلك وفقا للأساسين التاليين:
- الشرعية التاريخية.
- الامتداد الحضاري.
الشرعية التاريخية
يصف الإمام البنا الدعوة الإسلامية الأولى في عهد النبوة فيقول:
- "فكانت تلك الدعوة الجامعة حداً فاصلا في الكون كله، بين ماض مظلم، ومستقبل باهر مشرق، وحاضر زاخر سعيد، وإعلاناً واضحاً مبيناً لنظام جديد شارعُه الله العليم الخبير ومبلغُه محمد البشير النذير، وكتابه القرآن الواضح المنير، وجنده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وليس من وضع الناس، ولكنه صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة
"مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ" "الشورى:52-53" .
ومن ثم حاول رضوان الله عليه أن يجعل دعوة الإخوان، صدىً للدعوة الإسلامية الأولى فيقول أيضا:
- " إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدى حقيقياً لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله " صلى الله عليه وسلم " في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحي، لنقف بين يدي الأستاذ الأول وهو سيد المربين وفخر المرسلين الهادين، لنتلقى عنه الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد"
وفي ضوء هذه الغاية حرص الإمام البنا على ان يؤصل في ذهن أبناء الجماعة بوضوح شديد نوعية الدعوة التي يعملون لها الجديدة، ويرسي بجلاء المعنى الأساس الذي يجمع الإخوان، والهدف الرئيس الذي سيسعون إلى تحقيقه فيقول:
- أحب أن تتبينوا جيدًا من أنتم في أهل هذا العصر؟ ..
- وما دعوتكم بين الدعوات..
- وأية جماعة جماعتكم..
- ولأي معنى جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ.
- فاذكروا جيداً أيها الإخوة..
- أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل، وأنكم دعاة الإسلام، وحملة القرآن، وصلة الأرض بالسماء، وورثة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلفاء صحابته من بعده، فَضُلَتْ دعوتكم عن الدعوات، وسمت غايتكم علي الغايات، واستندتم إلى ركن شديد، واستمسكتم بعروة وثقى لا انفصام لها، وأخذتم بنور مبين وقد التبست علي الناس المسالك وضلوا سواء السبيل، والله غالب على أمره."
"فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة" .. "لنتلقى عنه الإصلاح من جديد، وندرس خطوات الدعوة من جديد" ..
بهذا يتبين بوضوح أن الرجوع إلى نهج الدعوة الأولى عند الإمام البنا هو الأساس لشرعية مشروع الجماعة، وأنه " لا " صلاح لهذه الأمة إلا باتباع نهج مؤسسها الأول صلوات ربي وسلامه عليه .
مسؤلية تواصل المهمة والإمتداد الحضاري
إن القضية الأساسية للأمة اليوم ليست في ضياع الأرض، فلطالما ضاعت الأرض ثم استعيدت، ولكن القضية الأساسية وجوهر الصراع هو مدى قدرتها على استعادة شهودها الحضاري، وحضورها الشاهد كما قدر الله لها أن تكون بين الأمم، وفي هذا السياق يبين الإمام البنا مكانة هذه الأمة، ويبين للإخوان الأصول الحضارية التي بنيت عليها دعوتهم، والجذور المدنية التي خُصت بها أمتهم، والمكانة الربانية التي حظيت بها أرضهم.
وفي هذا يقول الأستاذ البنا:
- "نحن أمة عظيمة مجيدة تجر ورائها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد ..لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب ..هذا الإسلام، عقيدته، ونظمه، ولغته، وحضارته، ميراث عزيز غال علينا ...
- وهذه مشاعرنا لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل بالإسلام،كل ذلك حق، ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزوا قويا عنيفا بالعلم والمال، وبالسياسة، والترف، والمتعةواللهو، وضروب الحياة الناعمة، العابثة، المغرية التي لم نكن نعرفها من قبل "
وبهذه المشاعر الثلاثة :
- الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها، أحياها الراعي الأول صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده
- فدانت لهم الأرض وفرضوا علي الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره " .
ثم يؤكد الأستاذ البنا أننا مبعث المدنيات، وأن مشرقنا مهبط الرسالات فيقول:
- "ومن جهة أخري فإن هذا الشرق الذي وضع في صف المخربين والمدمرين هو مبعث المدنيات ومشرق الحضارات ومهبط الرسالات، وهو مُفيض ذلك كله علي الغرب، لا ينكر هذا إلا جاحد مكابر .
- ومثل هذه المزاعم الباطلة إنما هي نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان لا يمكن أن تستقر علي أساسها نهضات أو تقوم على قاعدتها مدنيات، وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقاً، ويستظلون بظله الوارف الأمين
- ولن يجدوا طريقاً معبدة إلى ذلك كطريق الإسلام الذي يقول كتابه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ" "الحجرات:13" . ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: " ليس منا من دعا إلى عصيبة، وليس منا من مات علي عصيبة.." رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه .
ويبين الأستاذ البنا حجم التحدي الذي تواجهه الأمة إذا أرادت إثبات حضورها بين الأمم فيقول:
- " لقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم فيه الأمم بالمناكب، وتتنازع البقاء أشد التنازع، وتكون الغلبة دائما للقوي السابق، وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها، وأن يكون علينا رأب الصدع، وجبر الكسر، وإنقاذ أنفسنا وأبناءنا، واسترداد عزتنا ومجدنا، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا "
ولكن حركة التداول الحضاري لم ولن تتوقف، فيقول رحمه الله :
- لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى، ونهض الغرب نهضته الحديثة، فكانت سنة الله التي لا تتخلف، وورث الغرب القيادة العالمية
- وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط، فلم تبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية، يظللها لواء الله، وتخفق على رأسها راية القرآن، ويمدها جند الإيمان القوي المتين، فإذا بالدنيا مسلمة هانئة، وإذا بالعوالم كلها هاتفة: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ" "لأعراف:43".
- ليس ذلك من الخيال في شيء، بل هو حكم التاريخ الصادق، إن لم يتحقق بنا، "فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" "المائدة:54".
- بيد أننا نحرص على أن نكون مما يحوزون هذه الفضيلة، ويكتبون في ديوان هذا الشرف، "وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ" "القصص:68".
الأساس الشرعي الذي تم بناء مشروع الجماعة عليه
في السطور التالية نعرص الاصول الشرعية التي بنى عليها واستقى منها الإمام الينا منهج الدعوة والحركة لدى الجماعة، لنتبين أنه رحمه الله لم يخرق إجماعا، ولم يأتي بالغريب الشاذ، بل استقى منهجه من الأصول التي سارت عليها الأمة في قرون الخيرية وما بعدها ...
حيث يقول رحمه الله في تحديد هذه الأصول:
المرجعية
والقرآن الكريم، والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام (أ) ويفهم القرآن طبقا لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف (ب) ويرجع فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات " الأصل الثاني - رسالة التعاليم " .
إن التأثر بالأشخاص، وتبني مواقفهم وأفكارهم دون دليل من الحق يودي بالمرء أحيانا إلى تعصب مذموم، وانحياز كل ذي رأي إلى رأيه، فينفرط العقد، وتتغير النيات، وينشأ بذلك النزاع، وويخيم الفشل وتذهب الريح .
وبالتالي وجب الحذر كل الحذر من اتباع الرجال بغير هدى من الله، حتى لا يختلط أمر المرجعية على المسلمين، وحتى لا ينهلوا إلا من معينهم الصافي، ولا يقبلوا إلا ما كان موافقا لكتاب الله وسنة نبيه،
ولذلك نبّه على ذلك الإمام البنا في تقرير:
انتفاء العصمة عن أقوال الرجال
- كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقا للكتاب والسنة قبلناه، وإلا فكتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع، ولكننا لا نعرض للأشخاص.. " فيما اختُلِفَ فيه "..بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدموا " "الأصل السادس - رسالة التعاليم "
يقول النبي صلى الله عليه وسلم " ذاق حلاوة الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا " . وفي حديث آخر " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله " . وفي حديث آخر " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " .
- واعتماداً على ما مضى من الأحاديث الشريفة، فإن العبادة الصادقة لها أثر على قلب المؤمن، وسبب في قذف الإلهامات والخواطر التي تنير له الطريق، وتعينه على إبصار الحق،وهذه الإلهامات، والخواطر والفراسة، أمور ثابتة، وقد تسمى بالكرامات، وهي حق وجب التسليم بها، ولكنها لا تُتّخذ دليلاً من أدلة الأحكام، فإن أدلة الأحكام هي القرآن والسنة وما تفرع عنهما، وقد يُستأنس بهذه الأمور أي الإلهام ونحوه في معرفة الأشخاص والأحوال وما إلى ذلك
روعلى هذا الفهم ارتكز الأمام حسن البنا في تقديره لهذه الأمور فقال في تحديد:
الأدلة الغير معتبرة للأحكام
- "وللإيمان الصادق والعبادة الصحيحة، والمجاهدة نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه" . "الأصل الثالث - رسالة التعاليم"
- الأصل أن المسلم يعرف ألأحكام الشرعية من أدلتها، ولكن هذا غير متيسر في الواقع، فليس كل مسلم بقادر على أن يصل إلى رتبة النظر والاجتهاد، ولهذا وجب على القاصر عن هذه الرتبة أن يسأل أهل العلم عن حكم الله فيما يهمه من أمور وما يجب عليه من أعمال .
قال تعالى : " فاسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ "، وسؤال أهل الذكر هو أن يسأل المسلم عالماً ورعاً ثبتاً عما يهمه من مسائل ليعلم حكم الشرع فيها، ويدخل في مفهوم سؤال أهل الذكر إتّباعه لإمام من أئمة الدين كأبي حنيفة والشافعي وأحمد ومالك، بأن يأخذ باجتهاداتهم، وأقوالهم في مسائل الفقه، وأن لا يعتقد في أحدهم العصمة
وإذا ظهر الصواب في مسألة عند غير إمامه اتبع الصواب في هذه المسألة، أما إذا لم يتبين له ذلك استمر على متابعة إمامه في مذهبه واجتهاده، فاتباع المذاهب إذاً سائغ وليس بواجب، بمعنى أن المسلم له أن يتبع مذهباً ويأخذ بأقواله على مظنة أنه يوصله إلى حكم الشرع
كما أن للمسلم أن لا يتبع مذهبا بعينه، وإنما يسأل أي عالم يثق بعلمه وورعه عن المسألة التي تهمه وعن حكم الشرع فيها، وعلى المسلم المقلد أن يجتهد في تعرُّف أدلة مذهبه إذا استطاع ذلك، ثم عليه إذا آنس في نفسه القدرة أن يُكْمل نقصه العلمي ليصل إلى مرتبة النظر والاجتهاد
أما إذا لم يبلغ هذه القدرة فلا حرج عليه أن يبقى في مرتبة التقليد لأحد الأئمة المشهود لهم بالعلم والصلاح على النحو الذي بيناه، وفي جميع الأحوال على كل مسلم أن يعلم يقينا أن الذي فرضه الله عليه هو اتباع ما جاء به القرآن والسنة النبوية المطهرة.
فإذا ما بين أهل العلم أن الحكم الشرعي الصحيح هو ما نطق به الحديث الصحيح فعليه أن يأخذ بهذا الحديث الصحيح الذي يصرح به أهل العلم الثقات، فإن أصحاب المذاهب كلهم قالوا " إذا صح الحديث فهو مذهبي "
فالشريعة الإسلامية – أي القرآن والسنة – حجة على كل مذهب وليس أي مذهب حجة على الشريعة " وحول هذه القضية يقول الإمام البنا" ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة الدين
ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صَلاح من أرشده وكفايته . وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر "الأصل السابع - رسالة التعاليم " .
المنهج الفقهي الذي اختطه الإمام البنا
الفقه باختصار هو:
- العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسبة من أدلتها التفصيلية . إن النصوص تختلف في ثبوتها ودلالتها اختلافًا كبيرًا من حيث القطعية والظنية.
- وبما أن التعامل مع النصوص الشرعية في إطار الاستنباط يستدعي إعمال النظر فيها، ومحاولة تفسيرها، أو تأويلها بما يتطلبه الحكم الشرعي، فإن حدوث الاختلاف يكون واردا، وتفاوت درجات النظر في النص الشرعي تخلق حالة من التدافع الفكري الذي قد يكون سببا في تبعثر جهود الأمة، واستنزاف طاقاتها، بدل من أن تساهم في تقوية صرحها الفقهي، وإثراء الساحة الفقهية بالأحكام المواكبة لمتطلبات العصر وحاجات الناس .
- وهناك سبب من أهم الأسباب للخلاف في تفسير النصوص وفهمها، وهو الخلاف ما بين مدرسة " الظواهر" ومدرسة "المقاصد "، أي المدرسة التي تقف عنـد ظواهر الألفاظ، وتتقيد بحرفية النص في فهمها، وفي مقابلها المدرسة التي تهتم بالفحوى، وبروح النص ومقصده، فقد تخرج عن ظاهر النص وحرفيته، تحقيقًا لما ترى أنه مقصد النص وهدفه" .
لذلك وجب على كل متصدر لعملية التجميع أن يعتبر ذلك، ويتعامل على هذا الأساس، وهذا ما اتبعه الأستاذ البنا عليه رحمة الله فقال:
- " والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة أو بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ضل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب " "الأصل الثامن، رسالة التعاليم"
وقد حرص الإمام البنا في هذا الخصوص على وضع بعض الأصول التي في إطارها يتم فقه القواعد والنصوص الفقهية :
- (1) عمل القلب وعمل الجارحة
- إن واجب المسلم أن يسعى للتخلق بشعب الإيمان، التي جمعت كل الأعمال، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ولا يجوز له الاكتفاء بأحدهما.
- قال تعالى: " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ".. " الأنفال 2-4 ".
- فمهمة المسلم أن يجد ويسعى للكمال في كل الأعمال، مركزا على أعمال القلوب، بادئاً بها، غير مهمل ولا مستهين بأعمال الجوارح، لكن مراعيا للترتيب الأولويات مقدما الأعلى على الأدنى" ...
- وفي هذا يقول الأستاذ البنا رحمه الله أن .. العقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعا، وإن اختلفت مرتبتا الطلب.. " الأصل السابع عشر - رسالة التعاليم" .
- (2) التفرقة بين فئات الأحكام الفقهية
- أحكام مصادرها نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة على أحكامها، وهي نهائية، ملزمة، لا مجال فيها للاجتهاد.
- أحكام مصادرها نصوص ظنية في الدلالة على أحكامها.. وهذه فيها مجال للاجتهاد.
- أحكام انعقد عليها إجماع المجتهدين في عصر من العصور.. وهذه لا مجال فيها للاجتهاد.
- أحكام لم تدل عليها النصوص ولا أجمعت عليها الأمة.. فهي مجال للاجتهاد.
- ولكن من الذي يملك حق الاجتهاد؟ الذين لهم الاجتهاد بالرأي هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب واستكمل من المؤهلات لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية بالفقه الإسلامي كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي.
- ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة، إلا إذا توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي والاستنباط فيما لا نص فيه.
- (3) مراعاة أن الأصل في العبادات التعبد
- يقول الإمام ابن تيمية : إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان:
- عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. أما العبادات التي أوجبها الله لا يثبت الأمر بها إلا بشرع. وأما العادات فهي ما اعتاد الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله.
- ويقول الإمام أحمد:
- إن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والعادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه. ومن هنا فإن القاعدة هي أن الأصل في العبادات التوقيف والتعبد بها لله سبحانه وتعالى،
والأصل في العادات البحث في الحكم والمقاصد، فإن فهمنا حكمة الله في شيء حمدنا الله على ذلك، وإن عجز العقل عن إدراكها اتهمنا العقل بالعجز ولا نتهم الشرع بالنقص "5".
- والأصل التالي يبين رؤية الأستاذ البنا لهذه القضية فيقول :
- " ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد" .
- (4) كيفية التعامل مع الخلاف الفقهي
- الخلاف الفقهي نوعان :
- خلاف منهي عنه، وهو الخلاف الذي يفرق الأمة، كالاختلاف الذي حدث بين الفرق الإسلامية، التي اختلفت في أمور تتصل بالأصول والعقائد التي لا يجوز الخلاف فيها. قال تعالى: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "" الأنعام /152 "
- وخلاف جائز حول فروع الأعمال والعبادات، وهو خلاف لا يحرج صدرا، ولا يؤذي أحدا، وأمره دائر بين خطأ وصواب فإذا عرفنا أن المخطئ والمصيب مأجوران، هان الخطب واستطعنا في ظل الإخاء والحب أن نصل إلى الحقيقة.
- والخلاف في فروع الدين أمرٌ لابد منه لأسباب عدة :
- منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل أو الجهل بها، والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض. والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلابد من خلاف.
- ومنها سعة العلم وضيقه وأن هذا بلغه ما لم يبلغ الآخر. وقد قال الإمام مالك رضي الله عنه لأبي جعفر: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة. ومنها اختلاف البيئات.
- ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية. ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على خبر الآحاد مثلا وذاك لا يقول معه به وهكذا. كل ذلك جعلنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل ويتنافى مع طبيعة هذا الدين".
وفي هذا جعل الإمام البنا أصلا من أصول فهم الإخوان المسلمين، ما يحكم النظرة الصحيحة في هذه القضية
حيث يقول في الاصل الثامن من أصول الفهم العشرين:
- والخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سببا للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم والتعصب.
إيثار مايفيد وترك ما لا ينبغي عليه عمل
هناك قضية من أخطر القضايا التربوية في بناء الفرد المسلم.. وهي أن ينشغل بما يفيد ويدع ما لا ينبني عليه عمل، فيحفظ جهده من الضياع، وطاقته من التبدد، والقلوب من التفرق، ويكون بذلك إنسانا عمليا إيجابيا بناء، لا نظريا جدليا متكلفا .
وهو بذلك :
- يهذب لسانه .. فلا ينطلق في جدال عقيم، ومناقشات فارغة، تبدد الطاقة.. وتشحن النفوس.. وتزيد الفرقة.. ومن منهج القرآن في التربية أن نمسك اللسان عمّا لا يعنينا، وألا نتكلم إلا فيما يفيدنا، وأن تكون مناقشاتنا وأسئلتنا ومجادلاتنا بالتي هي أحسن في كل ما يخدم دعوتنا ويحقق رسالتنا " وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" " الأنعام - 68 " .
- وينظم وقته.. والوقت هو الحياة.. فما من يوم ينبثق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.. والمسلم الذي لا يحترم وقته لا قيمة للحياة عنده.. والأمة التي تفرط بزمانها.. تعيش خارجه، كماً مهملاً لا تفيد ولا تستفيد.. تنشغل بالجزئيات وتنسى أصول البناء " إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ" "آل عمران - 190"
واختلاف الليل والنهار هو الزمان.. وأولو الألباب هم المسلمون الذين يتحكمون بهذا الزمان لصالح أنفسهم ومجتمعهم والإنسانية، ويتجنبون الخوض في كل مسألة لا ينبني عليها عمل نافع فالخوض فيها مضيعة للوقت وتبديد للجهد.
ويحترم عقله.. فلا يبدد قدراته في جدليات فارغة.. أو في جزئيات لا أهمية لها.. أو في ساحات لا يستطيع العقل أن يدلي فيها برأي، مثل الأمور الغيبية.
وقد كان صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه يدعو ربه فيقول:
- اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ولا تجعلنا من الغافلين. وكان الفاروق رضي الله عنه يدعو ربه فيسأله: البركة في الأوقات وإصلاح الساعات.. بهذا المنهج التربوي الجاد ألزم الإسلام أتباعه فأصبحوا بناة هداة عظماء..
- لقد كان من فضل الله على سلفنا الصالح أنه كان جيلا جادا منشغلا بنشر الإسلام شرقا وغربا.. ولو أنه اشتغل بالمناظرات الكلامية والنقاشات العقيمة ما صنع أمة ولا حضارة، ولا خرج الإسلام من جزيرة العرب .
وبخصوص هذه القضية يوصي الإمام البنا:
- " كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا. ومن ذلك: كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في معاني الآيات القرآنية التي لم يصل إليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الأصحاب رضوان الله عليهم وما شجر بينهم من خلاف. ولكل منهم فضل صحبته وجزاء نيته وفي التأول مندوحة" " الأصل التاسع - رسالة التعاليم" .
تحديد منهج التعامل مع قضية البدعة في امور الدين
حول البدعة الإضافية والبدعة التركية والالتزام في العبادات المطلقة البدعة الإضافية تعني زيادة بعض الأمور في بعض ما جاء في الشرع الإسلامي كإضافة بعض ما أُحدث بعد الآذان.. والبدعة التركية تعني حذف بعض الأمور من بعض ما جاء به الشرع الإسلامي كترك سنة الجمعة البعدية بصورة دائمة
أما الالتزام بالعبادات المطلقة فهو يعني أن يلتزم المسلم بنوع معين من العبادات، وغالبا يكون في وقت معين أيضا دون أن يرد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل : قراءة الفاتحة بعدد معين عقب صلاة الصبح كل يوم، أو قراءة سورة الإخلاص بعدد معين في وقت معين بعد صلاة الصبح أو غيرها، فهذه الأمور يقول عنهاالإمام البنا أنها محل اختلاف فقهي في جوازها ولا بأس في معرفة الصواب في جوازها أو عدم جوازها .
فيقول رضي الله عنه:
- والبدعة الإضافية والتركية والالتزام في العبادات المطلقة، خلاف فقهي لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان ".. "الأصل الثاني عشر -رسالة التعاليم" .
خصوصية المشروع الإسلامي لنهضة الأمة وخدمة الإنسانية
حرص الإمام البنا في مواطن كثيرة من كتاباته على إبراز خصوصية المشروع الإسلامي لنهضة الأمة وضرورة حرص الجماعة وأعضائها على التشبث والتمسك بهذه الخصوصية
وقد أكد الإمام البنا – رحمه الله - أن أصول النهضة في الشرق تختلف عن أصولها في الغرب الذي قامت نهضته على تحطيم الدين وهدم الكنائس والقضاء على كل مظاهر السلطة الدينية في الأمة انتهاء بفصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلا تاما.
ولو قارننا الوضع بالأمة الإسلامية فإن طبيعة التعاليم الإسلامية تختلف عن غيره من الأديان فلا وجود لرجال الدين أو سلطة الكهنوت ولذلك فإن قواعد الإسلام"تساير العصور وتدعوإلى الرقي وتعضد العلم وتحمي العلماء "، مما جعل دعائم النهضة في مشروعنا تختلف عن دعائمها لديهم وهذا شرط أساسي يجب مراعاته في أي مشروع نهضوي للأمة الإسلامية.
وقد حرص الإمام رحمه الله في تحديد دعائم ومرتكزات المشروع الإسلامي انهصة الأمة على هذه الخصوصية، فجعل رضوان الله عليه أن السبيل لنهضة الأمة لن يكون إلا ببناء الإنسان المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم. ومن هنا فقد حرص الإمام رحمه الله على تحديد دعائم النهضة في مشروع الجماعة المحققة لبناء هذه المكونات تحجيجا دقيقا
وهو ما نعرض له في السطور التالية:
دعائم النهضة
أول دعائم النهضة التي أولاها الإمام البنا جل اهتمامه هي التربية فيقول:
- " يجب أن تكون دعامة النهضة "التربية" فتربى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تماما وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق وتربى على الإيمان بها ويبث في نفسها هذا الإيمان بقوة أوبعبارة أخرى تدرس منهاج نهضتنا درساً نظريا وعمليا وروحيا " .
وفي هذا الإطار حدد البنا منهجا تربويا عمليا لإنشاء مدرسة تربوية نهضوية.لذا كان تركيز الإمام البنا على أمرين مهمين لتنظيم هذه العملية وهما المنهج والزعامة ولم ينسى الإمام البنا أن يوصي الأمة بالتذرع بالصبر والأناة حتى تنجح هذه المدرسة وألا يستعجل أفرادها النتائج مستشهدا بمحاولات النهوض التي قام بها مصطفي كامل وفريد
ومن قبلهما الأفغاني ومحمد عبده لبناء نهضة مصر إلا أن هذه المدرسة لم يقدر لها الاستمرار بسبب زعماء أتوا على أعقابهم خلقتهم الظروف فاستعجلوا النتائج فكان الخسران والتقهقر .. ومن أجل ذلك كانت دعوة الإخوان، واهتمامها بتربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي، وايقاظ الكرامة والجد في استرداد المجد.
منهج واضح
ثاني هذه الدعائم هي ضرورة وجود منهج واضح محدد يعمل له أبناء الأمة وهذا ما نلحظه في جميع النهضات لدى مختلف الأمم شرقيها وغربيها، وتجلى ذلك واضحا في الخطوات الأولى التي سلكتها دعوة الإسلام حيث كان المنهج واضح ومحدد بدعوة سرية ثم جهرية فهجرة فإخاء فنضال ففتح .
إلا أن مشكلة أمتنا كما حددها البنا تكمن في التسرع وهياج المشاعر مفتقدة لمنهج واضح مما جعل نهضتنا عبارة عن فورات عاطفية.
ويرجع البنا ذلك لسببين أساسيين:
- عدم تحديد الوسائل تحديدا دقيقا بل قد تكون متناقضة أحيانا
- انقطاع الصلة بين السابق واللاحق فالكل يبدأ من حيث بدأ الآخرون لا من حيث انتهوا .
ذلك فإن ما يميز الإخوان عن غيرهم أن لهم منهج واضح محدد يستمدون أصوله النظرية من الأصول والقواعد التي جاء بها القرآن ويتبعون الوسائل التي أثرت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إصلاح الخُلق
الدعامة الثالثة التي ترتكز عليها النهضة عند الإمام البنا هي الأخلاق القويمة وقد لخصها رحمه الله بإيجاز في قوله "لا نهوض لأمة بغير خلق" وحجر الزاوية في أي إصلاح خلقي هو التحرر من قيود مطالب النفس وأهوائها والكمالات الدنيوية، والتخلص من هيمنة المظاهر والعادات غير الإسلامية.
اليقظة الروحية
رابع هذه الدعامات بعث اليقظة الروحية في نفوس الأفراد والمجتمعات "وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً"
ويؤكد الإمام البنا أن هذه اليقظة الروحية سيكون لها مردود عملي على الفرد والأسرة والمجتمع .فالفرد سيصبح نموذجا قائما لما يريده الإسلام من إرادة حازمة يكفلها له النظام الإسلامي ويرقى لها بالتعبد بما أمره الله ليرقى وجدانه دون تفرقة بين رجل وامرأة، وبصلاح الرجل والمرأة تتكون الأسرة اليقظة لتنشئي بيتا نموذجيا وفق قواعد الإسلام
وبصلاح الأسر تنصلح الأمة جمعاء وتوقظ همتها لذا كان حرص الإسلام على توثيق أواصر الأخوة بين أفراد الأمة ولذلك يقول البنا "وإذا قوي الشعور الذي أشرنا إليه آنفاً، وأدي إلى نتيجته التي وضعناها الآن، فطبق نظام الإسلام علي الفرد والبيت والأمة، ووصلت الرسالة إلى القلب والآذان، فقد نجحت فكرتنا واستجيبت دعوتنا ويأبى الله إلا أن يتم نوره" .
الإصلاح الاقتصادي
الدعامة الخامسة من دعائم النهضة في فكر الإمام البنا، فقد وردت من مذكرة تقدم بها الإمام البنا إلى علي ماهر رئيس الحكومة المصرية في أكتوبر سنة 1939 ، حيث أكد رحمه الله في المذكرة أنه لا سبيل للنهوض لأي أمة إلا لأن يتوفر لها قوتها الضروري
لذلك كانت مطالبته بالعناية بالشئون الاقتصادية من خلال توفير الحكومة المشروعات الإصلاحية لتخفيف ويلات الفقر على الناس . وفي لمحة معبرة يؤكد البنا لرئيس الحكومة أنه ما من شيء يجلب رضا الشعب ويحمله على تأييد الحكومة إلا شعوره باهتمامها بأرزاقه وأقواته .
ويؤكد نفس المعنى أيضا في رسالة النظام الاقتصادي حيث يقول:
- "...ولا يحرك النفوس ويثير الخواطر، ويؤلم المشاعر شيء كالضائقة المالية، تأخذ بخناق الجماهير فتحول بينهم وبين الحصول على ضروريات الحياة فضلاً عن كماليتها .. ولا أزمة أعنف من أزمة الرغيف، ولا عضة أقوى من عضة الجوع والمسغبة .. ولا حاجة أشد من حاجة القوت".
غاية واحدة وأمة واحدة
وسادس هذه الدعامات التي تحدث عنها الإمام الشهيد تتمثل في ضرورة التحديد الدقيق لغاية الأمة من النهضة والتي يجب أن تكون شاملة وموحدة لأن تعدد الغايات يشتت جهود الأمة
ويتحدث رحمة الله عن هذه الغاية فيلخصها في أنها:
- " ..حب الإسلام والتمسك بآدابه والغيرة عليه، وبما أن هذا الدين يأمر بالعناية بالشئون الدنيوية ويحث على السبق والتبريز فيها مع عدم إغفال أمر الآخرة على حد قوله تعالى "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" القصص77، وعلى حد قوله تعالى: "فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً" النحل97 .
- وإذا توحدت غايتنا وتشابهت قضايانا فإنه لا سبيل لاستكمال المشروع النهضوي إلا بتوحد المسلمين فيقول " ولا بد أن نلجأ من جديد إلى ما فرضه الإسلامعلى أبناءه منذ أول يوم، حين جعل الوحدة معنى من معاني الإيمان … يجب أن نتكتل ونتوحد"
- ولذلك فقد اعتبر الإمام الشهيج إنشاء الجامعة العربية خطوة ايجابية ونواة طيبة يجب دعمها وتوسيع دائرتها حتى تتحقق "رابطة أمم الإسلام – عربية وغير عربية – فتكون نواة "لهيئة الأمم الإسلامية".
إعداد الرجال
يقول الإمام البنا إن نهضة الأمة لا تكتمل إلا بدعامة هامة وهي بناء النفوس وإعداد الرجال الذين يستطيعون التغلب على العقبات ويجابهوا الصعابب
وفي هذا يقول رحمه الله:
- " إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هوتاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات. وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة "
وهو بهذا يجعل الرجل معول هدم أو لبنة بناء وفي تشبيه بليغ يصف البنا حال الأمم كحال الأفراد فالفرد قد ينشأ مدللا بين أبوين مترفين فلا يحمل هما لشيء وقد ينشأ بين أبوين فقيرين فتحمله الحياة بهمومها مبكرا وهذا قدر الله، وينطبق نفس الأمر على الأمة ففارق كبير بين جيل نشأ في أمة ناهضة في بيئة دولية مستقرة وبين جيل آخر شاء له قدره أن ينشأ في أمة واهنة تزاحمها الأمم وتنازعها .
وهذا ما عاشه جيل الإمام البنا وفرضته الظروف في ظل الفوضى الدولية والعواصف الفكرية لذا كان لابد لهذا الجيل أن ينهض بهذه الأمة في سلسلة متواصلة من الكفاح والجهاد متسلحة بعزائم الرجال الصادقين، "إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" الرعد11.
وأخيرا ... تنظيم التعليم
من الدعامات التي لا يجب إغفالها إصلاح التعليم وتنظيم سياسته في تخريج الأجيال وإعداد رجال المستقبل ليضطلعوا ببناء مستقبل الأمة وهذه السياسة التعليمية يجب أن تقوم على أصول حكيمة تهيئ للأجيال الناشئة معرفة أحكام دينهم وتحصين أخلاقهم وتلقينهم تاريخ أمتهم وتنشئتهم على الاعتداد بمجد أمتهم وحضارتها .
وقد ختم الإمام البنا حديثه عن دعائم النهضة المنشودة بقوله:
" هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة، وهم يوجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبا وحكومات، ووسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة : أن يبينوا ما فيها من مزية وأحكام، حتى إذا ذكر الناس ذلك واقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له ونزولهم على حكمه "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" يوسف 108 .
انتهى الجزء الأول بحمد الله تعالى، ويعقبة بتيسير الله وعونه، الجزء الثاني بعنوان: ر" نظرات في مشروع الجماعة لنهضة الأمة "