أحمد عبدالحافظ
 
قبل معركة القادسية (15هـ) أرسل القائد رستم إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: ابْعَثُوا إِلَيْنَا رَجُلا. فبعث إليهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فلما وصل إلى مقر قيادة الفرس، حبسوه ثم أذنوا له بعد أن بالغوا في زِيِّهِمْ تقوية لتهاونهم بالمسلمين، ثم دخل المغيرة مقر القيادة العامة للفرس فوجد قادتهم عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، ثم أقبل على قائدهم، فقال له رستم: تَكَلَّمْ أَمْ أَتَكَلَّمُ؟ فقال له المغيرة: أَنْتَ الَّذِي بَعَثْتَ إِلَيْنَا، فَتَكَلَّمْ.
 
فقام رستم، فحمد قومه، وعظَّم أمرهم وطوَّله، وقال: "لَمْ نَزَلْ مُتَمَكِّنِينَ فِي الْبِلادِ، ظَاهِرِينَ عَلَى الأَعْدَاءِ، أَشْرَافًا فِي الأُمَمِ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ مِثْلُ عِزِّنَا وَشَرَفِنَا وَسُلْطَانِنَا، نُنْصَرُ عَلَى النَّاسِ وَلا يُنْصَرُونَ عَلَيْنَا إِلا الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، أَوِ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، لِلذُّنُوبِ، فَإِذَا انْتَقَمَ اللَّهُ فَرَضِيَ رَدَّ إِلَيْنَا عِزَّنَا، وَجَمَعَنَا لِعَدُوِّنَا شَرَّ يَوْمٍ هُوَ آتٍ عَلَيْهِمْ"، ثم جعل رستم يحقِّر من أمر العرب والمسلمين حتى قال: "فَإِنِّي لَسْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَقْتُلَكُمْ وَلا آسِرَكُم".
 
ثم تكلم المغيرة بن شعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: "إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، فَمَنْ صَنَعَ شَيْئًا فَإِنَّمَا هُوَ الذي يصنعه هو لَهُ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ بِهِ نَفْسَكَ وَأَهْلَ بِلادِكَ، مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الأَعْدَاءِ وَالتَّمَكُّنِ فِي الْبِلادِ وَعِظَمِ السُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، فَاللَّهُ صَنَعَهُ بِكُمْ، وَوَضَعَهُ فِيكُمْ، وَهُوَ لَهُ دُونَكُمْ، وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرْتَ فِينَا مِنْ سُوءِ الْحَالِ، وَضِيقِ الْمَعِيشَةِ وَاخْتِلافِ الْقُلُوبِ، فَنَحْنُ نَعْرِفُهُ، وَلَسْنَا نُنْكِرُهُ، وَاللَّهُ ابْتَلانَا بِذَلِكَ، وَصَيَّرَنَا إِلَيْهِ، وَالدُّنْيَا دُوَل .."، حتى انتهى إلى قوله: "وَإِنِ احْتَجْتَ إِلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَكَ فَكُنْ لَنَا عَبْدًا تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتَ صَاغِرٌ، وَإِلا فَالسَّيْفُ إِنْ أَبَيْتَ!".
 
وهنا استشاط رستم وغضب غضبا شديدا وحلف ألا يطلع الصبح وإلا وقد قتل المسلمين أجمعين، ثم إنه أراد أن يفتَّ من عضد المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فجاء برجل وأمره أن يصحب المغيرة حتى إذا وصل معسكر المسلمين أن ينادي: "إِنَّ الْمَلِكَ كَانَ مُنَجِّمًا قَدْ حَسَبَ لَكَ وَنَظَرَ فِي أَمْرِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ غَدًا تُفْقَأُ عَيْنُكَ".
 
فرد عليه المغيرة: "بَشَّرْتَنِي بِخَيْرٍ وَأَجْرٍ، وَلَوْلا أَنْ أُجَاهِدَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَشْبَاهَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، لَتَمَنَّيْتُ أَنَّ الأُخْرَى ذَهَبَتْ أَيْضًا"، فلما سمع المسلمون ذلك ضحكوا من سرعة ردِّ المغيرة رضي الله عنه وقوة بديهته وحدة بصيرته، وعندما رأى الفارسي ذلك رجع إلى رستم وقال: "أَطِيعُونِي يَا أَهْلَ فَارِسَ، وَإِنِّي لأَرَى لِلَّهِ فِيكُمْ نَقْمَةً لا تَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا عَنْ أَنْفُسِكُمْ".
 
هذه صورة من معركة القادسية نقلها التاريخ إلينا؛ لنقف بين سطورها، نأخذ العبر ونستلهم الدروس، فلعل ما كان كائن بيننا، ولذلك كانت تلك الوقفات:
 
1- الذنوب غالبة
في كل يوم من حياتنا تهتك أعراض وتسلب أموال وتسفك دماء وتُهدَّم بيوت ويُعبث بمقدسات وصلوات!!، كم يشكو المسلمون اليوم من قهر وظلم واستعباد واستبداد وضياع وذل وهوان!! والسبب أن الناظر لحال الأمة يجدها قد أنتنت رائحتها من الذنوب، وجزاء ذلك في قوله تعالى: {وضَربَ اللهُ مثَلا قريةً كانَت آمِنَةً مُطمئِنةً يَأْتِيها رِزقُها مِن كلِّ مكانٍ فكَفَرت بأَنْعُمِ اللهِ فَأذاقَها اللهُ لِباسَ الجوعِ والخَوفِ بِما كانوا يَصنَعون} [النحل: 112]. 
وفي صورة مشابهة لما نعانيه، كتب رجل إلى بعض الصالحين يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه: "يا أخي! وصلني كتابك، تذْكُر ما أنتم فيه من جور العمال، وأنه ليس ينبغي لمن عمل بالمعصية أن ينكر العقوبة، وما أظن الذي أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام".
 
وقد وعى قادة المسلمين تلك الحقيقة فجعلوها نصب أعينهم يحذرون منها جنودهم ويوصون بها شعوبهم، فهذا عمر يرسل لسعد في القادسية نفسها: "وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدَّ احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدَّتنا كعدَّتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله؛ ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلَّط علينا وإن أسأنا؛ فربَّ قوم سلِّط عليهم شرٌ منهم".
 
وتلك الحقيقة سائرة وإلى يوم الدين، فحري بجنود الإسلام المجاهدين في كل حين والرافعين راية الإسلام في كل ميدان أن يحذروا المعاصي والذنوب فإنها غالبة مهلكة.
 
2- وَالدُّنْيَا دُوَل
حقيقة أخرى وعيها المغيرة منذ زمن بعيد، أن الأيام دول لا تثبت لأحد على حال، وغدا سيموت الظالم والمظلوم والسجَّان والمسجون، و(كلُّ بطَّاحٍ مِن الناسِ له يومٌ بطوحٌ)، قال ابن الجوزي: "اعلم أن الزمان لا يثبت على حال، كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي. فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل".
 
فيا أيها الثائر للحق في كل ميدان: "لا تضِقْ ذرعاً فمن المُحالِ دوامُ الحالِ، وأفضلُ العبادِة انتظارُ الفرجِ، الأيامُ دُولٌ، والدهرُ قُلّبٌ، والليالي حُبَالى، والغيبُ مستورٌ، والحكيمُ كلَّ يوم هو في شأنٍ، ولعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً، وإن مع العُسْرِ يُسْراً، إن مع العُسْرِ يُسْراً".
 
3- وَإِلا فَالسَّيْفُ إِنْ أَبَيْتَ!
اليوم لا يخفى على كل ناظر أن رافعي راية الحق والمنتسبين إليه بين شهيد وارى الثرى روحه الطيبة بعد أن طالته يد الغدر، وبين معتقل بين جدران أربع غيبه الظالمون لقوله كلمة الصدق، وبين مجاهد ثائر يرفع رايته في الميادين ينتظر الموت في كل حين، وبين مطارد يتنقل حاله من حين إلى حين، وبين غريب بين أهله ينتظر لحظة يفترس فيها من ظلمه، وأما الآخرون فهم بين مكابر على الحق، أو جاهل غيَّب عقله يسير وراء كل ناعق.
 
ولقد علمنا التاريخ أنه إذا كان للباطل قوة تطغيه فلابد للحق من قوة تنصره وتحميه، إن الباطل لا يفتر عن ملاحقة المؤمنين ومقاومتهم وإيقاع الأذى والتنكيل بهم، فلماذا يسوغ لأهل الحق أن يقعدوا عن الصمود في وجه الباطل وحزبه، على حين إنه يرجو من الله ما لا يرجوه الظالمون منه ولن يرجوه.
 
وهذا ما يُهَوِّن على المؤمن كلَّ بلاء ومحنة، ويجعله يستهين بكل تعب وألم وعذاب، يقول تعالى: {وَلاَ تَهِنُوْا فِيْ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُوْنُوْا تَأْلَمُوْن فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُوْنَ كَمَا تَأْلَمُوْنَ وَتَرْجُوْنَ مِنَ اللّهِ ما لاَ يَرْجُوْنَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيْمًا حَكِيْمًا} [النساء: 104].
 
فهل من العقل والدين أن يظل هؤلاء مقهورين مضطهدين؟! هل يكفي صاحب الحق أن يؤمن به بقلبه دون أن يظهر ذلك في فعله وجوارحه؟!
 
أما قرأ المسلمون قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39]، قال ابن كثير: " أَيْ فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا بِعَاجِزِينَ وَلَا أَذِلَّةٍ، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ"، أما فقه المسلمون قول رسولهم صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يمنعن رجلا مهابةُ الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".
 
وكان أبي بن خلف يلقى الرسول بمكة، فيقول: يَا مُحَمَّدُ إنَّ عِنْدِي الْعَوْذَ، فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا (مكيال) مِنْ ذُرَةٍ، أَقْتُلُكَ عَلَيْه. فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللَّه".
 
إذن توعد بتوعد، والبادي أظلم. فتأمل!
 
4- بشرتني بخير وأجر
انظروا إلى المغيرة رضي الله عنه! تأملوا كيف يستبشر بفقد عينه! إنها كرامة من الله في سبيله!، إذن هي بشرى خير، ووعد بأجر. بل ويتمنى لو أن الله أكرمه بعينه الأخرى في سبيله. وهذه هي الروح التي  يجب أن تكون في المجاهدين في سبيله، {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 - 22].
 
إن حب الجهاد قد تملك في نفس المغيرة، لذلك طلب السلامة ليظل مجاهدا من كل باب، إنه يطلب من الله تعالى السلامة لعينه الأخرى ليؤدي دوره المنوط به في صراع الحق والباطل، وقد تعلم سعيد بن المسيب ذلك الدرس وعمل به، خرج يومًا إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه. فقيل له: إنك عليل، صاحب عذر. فقال: "استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد، كثَّرت السواد، وحفظت المتاع".
 
وحتى وإن فقد عينيه فإن ذلك أيضا لن يمنعه أن يكون في صفوف المجاهدين، فهذا عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه كان أعمى وأنزلت فيه {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95]، فكان بعدُ يغزُ ويقول: "ادفعوا إليَّ اللواء، فإني أعمى لا أستطيع أن أفرَّ، وأقيموني بين الصفين"، وحضر القادسية ومعه راية المسلمين وعليه درع حصينة سابغة.
 
وهكذا المجاهد الصادق، لا يقبل عذر ولا ينحني لعاقة، بل يقهر الأعذار ويحطم القيود ويبحث عن ثغرة يؤدي فيه حق الله عليه.