بقلم - د. مصطفى أبوعمر
نُعِىَ إلى الأمة الإسلامية بعامة , وإلى الحركة الإسلامية بمصر خاصة , أمس ..الرجل القائد .. المجاهد الصامد .. المربي القدوة , والوالد الحبيب .. الأستاذ لاشين أبو شنب .. وإذا كان لكل إنسان من اسمه نصيب , فالفقيد "وتشهد حياته وجهاده" أنه .. لا .. شين كان يعيبه , فهو المبرأ من عيوب القادة العباقرة ذوي المواهب المتعددة , وأصحاب الأعمال الكبيرة , والأنصار الكثيرة .. واللقب.. أبو شنب في أدبيات المصريين اليومية يعني اكتمال الرجولة .. ومن يكون رجلاً إن لم يكن الفقيد ؟!
وإنه ليجز في نفوسنا نحن أبناء الحركة الإسلامية أن يموت والدنا الكريم ومعلمنا الأديب ونحن في تلك الآونة الفارقة في أمسَّ الحاجة إلى أمثاله ممن عاشت نفوسهم حرة , وكانوا رجالاً يتقدمون الصفوف لا يبالون بالمخاطر , وممن جمعوا إلى حكمةِ الشيوخ واكتمال الخبرات حماسَ الشباب وفوران العاطفة .. لقد كان الأستاذ لاشين أبوشنب رجلاً حراً , فكأنما عناه الشاعر وحيد الدهشان حين قال
يحز في النفس أن يُنعى لها حُرٌ لا يرتضي الضيم مهما مسه الضر
يحز في النفس أن يُنعى لها رجلٌ ونحـــــــــن في حقبة أقزامها كثــــر
إن المصيبة لفقده كبيرة , ليس لأنها مصيبة الموت , إذْ كم يموت كل يوم من لم يترك خلفه خيراً ولا شراً , وربما خلف وراءه العار لأمته أوأسرته أو ذاته ... وهؤلاء يعيشون مجهولين , ويموتون لا يشعر بهم أحد , أما لاشين أبو شنب , فقد عاش ملء السمع والبصر ، يجوب البلاد مصريها وعربيها وأوروبيها وأمريكيها وأفريقيها يحرس قيم الدعوة , ويغرسها ويؤصلها في نفوس المسلمين , بل ويدعو إليها غير المسلمين ، فيجد آذاناً صاغية وقلوباً متشوقة .. ولقد سمعت منه ذات يوم أنه في إحدى زياراته المتعددة لأمريكا في إحدى مناطق السود , وبعد انتهائه من محاضراته إذا بزنجي يأخذ بخناقه .. متحاملاً ... منفعلاً .. ويعاتبه , بعد أن آمن بسمو الإسلام وواقعيته , يقول للأستاذ .. أين كنتم حينما مات أبي على الكفر ؟! وهو موقف يقفنا على حجم الخسارة الفادحة التي تلحق بالأمة حين يُمنع مثله من ممارسة الدعوة وتُضَيَّقُ على حركته المنتجة المثمرة .. في حين يُفسح المجال للفسل من أدعياء الدعوة وأشباه الدعاة يتحدثون عما لا يُغضب بما لا يُغــضب !!
لقد كان الأستاذ رحمه الله رجل الكلمة والموقف والفعل على سواء ؛ بالكلمة يوجِّه ويعرض ويحاجج ويفحم , وبالموقف يربي ويؤصل ويشجع فيتأسى به أحباؤه وأنصار فكرته , وبالفعل تراه دائما في مقدمة الصفوف مبادراً يتبنى رأي الجماعة ولو خالف رأيه في تجرد للفكرة , ووفاء ثابت لم يعدُ عليه تلوُّنٌ ولا غدر ولا فتـــــــــــــــــــــور .
لقد كان الأستاذ جسوراً .. قدوة في كلامه ومواقفه , بحيث تطمئن بذكر الله القلوب , ويطمئن بوجوده المريدون , فهو يركب الصعب .. "لا لخشونة في طبعه " إذ كان قوياً وليس عنيفاً" بل لقدرته الفائقة على فضح الباطل وأهله , ولذا كانت الأعاجيب حظه من ممارسة الفعل والكلام على سواء , وكأن شعاره كان
لا للكلمة
حين يكون الفعل دواء
وبها مرحى
حين يصير الصمت الداء .
عاش الأستاذ لاشين حياة طويلة حافلة بالحركة والجهاد , فمذ التقى الإمام البنا في طنطا إبان دراسته في المعهد الأحمدي الأزهري الثانوي وحتى موته .. عاش الراجل وفيا للفكرة , تغيرت مواقعه بالجماعة وظل حماسه لها متأججا , وجهاده متواصلا من أجل الإسلام والوطن .
ويصح أن يكون لاشين جندي الفكرة والعقيدة .. لا جندي الغرض والمصلحة , لم يَجْنِ من انتمائه للدعوة شيئاً من حطام الدنيا , وإن جَرَّعليه انتماؤه الكثير جداً من صنوف الأذى وألوان العنت , فسُجن كثيراً ولسنوات طوال , وبقى على اعتزازه بإسلامه وفكرته .
لقيه أحد الحزبيين وقت أن كان نائباً عن الأمة في البرلمان المصري , فلما رآه شامخاً على أحسن ما تكون "الشياكة" , وكأنه نجم شباك .. تساءل أتعد نفسك وزيراً فرد عليه الأستاذ معتزا بما ما معناه . لا أقل من وزبر التربية والتعليم أو ما في معناه .
لقد كنا ونحن طلاب في الجامعة . نعجب أيما إعجاب بقدراته الخطابية , وبقدرته الفائقة على خطاب العقل والوجدان معاً , ونطرب لما يقع عليه بصرنا من هندام وهيئة تحملك على الإعجاب والاقتناع بالشخص , كما نطرب لما يقع بسمعنا من كلمات كأنها الشعر في جماله وانتظامه , وكأنها الصواعق الرواعد في قوتها ونورانيتها فنُحمل طائعين على التسليم بما يقول , ونود لو حفظنا كل ما سمعنا . ضناً به من الضياع .
كان وكأنما خلقه الله ليكون إماماً وموجهاً يسعد أنصارُهُ بأن يديرهم , إذ يطمئنون تماماً إلى كفايته وإخلاصه وعمق رؤيته وجسارته وميدانيته .
حكى أحد الأحبة لي أن صديقاً له سمع لأول مرة الأستاذ يحاضر ..علق قائلاً عن حديث الأستاذ .. هذا الرجل كأنما يُخرج ألفاظه من "جيبه" في إشارة إلى امتلاكه ناصية البيان والتعبير ... وقد كان هكذا بالفعل .. وللأستاذ محاضرات صوتية تشكل تراثاً عزيزاً يؤرخ لمرحلة هامة من تاريخ الحركة والوطن, وهو تراث جدير بالجمع والنشر بعد تفريغه وإعداده , وأعلم أن محاولة بدأت لذلك منذ سنوات , لكن فارسها حفظه الله سافر عن مصر إلى الخليج .. فتوقف المشروع .. وأولى بأحد المقربين من أستاذنا أن يُتم هذا المشروع لأهميته ، وله بذلك الفضلُ .
وفي حدود علمي لم يُنشر للأستاذ لاشين سوى بعض مقالات هنا أو هناك , خاصة في جريدة آفاق عربية , وكتاب وحيد طبع باسمه هو " زاد اليقين" أظنه ليس بكامله من تأليف الأستاذ , و أُرجح أن يكون من مطبوعات قسم نشر الدعوة وقت أن كان الأستاذ مشرفا عليه من قبل مكتب الإرشاد .
لقد كان الأستاذ قوياً في الحق غيوراً على دعوته كأنها وحيدته الحبيبة المالكة لقلبه , ولم أشعر والله مرة واحدة على طول صحبتي له أن له اهتماماً آخر بتجارة أو أسرة أو مال أو عقار، وأظنه ممن وعى قوله تعالى
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال إقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونا أحب إليكم من الله ورسوله فتربصوا)
فالله ورسوله والجهاد في سبيله تعالى كانوا – وأشهد – أحب إلى لاشين أبوشنب من كل زخارف الدنيا الزائلة الزائفة .
كان رحمه الله يحسب نفسه وصيا على مال الدعوة وممتلكاتها , ويسعى إلى حمايتها وصيانتها بل وتنميتها , ومن عايشوه بمدارس الجيل المسلم , وبالجمعية التربوية الإسلامية بطنطا يعرف ما أعنيه , ويدرك صدق ما أقصد إليه .
في آخرة حياته أُصيب الأستاذ بما أقعده مدة طويلة على كرسي متحرك أظنه الآن متململاً يبكي فراق الفارس .. لكن قعود الأستاذ الجسدي لم ينل من فوران نفسه وتهيج مشاعره كلما نزل بالدعوة أو أحد أفرادها ما يسوء أو يسعد ... فإذا به أول الحاضرين مهنئاً أو معزياً , وكان يعاتب الجميع غاضباً إن فاته أداء واجب عزاء أو تهنئة تخص أحد أفراد الصف , إشفاقا من إخوانه عليه . ولقد التقيته في عزاء الحبيب لطفي عوض رحمه الله في سجين الكوم بقطور فرأيته باكيا محزونا . كأنما لطفي أحد أبنائه
لقد كان الأستاذ قعيداً .. أحيا في نفوسنا همة استصغرنا ونحن الشباب حماسنا للدعوة وتحركنا بها إلى جهاده وتفانيه المائز , وجاءنا إلى ميدان رابعة قبيل مجزرة الفض بقليل , وكان ينتوي المكث , ولكنه وهو الجندي .. القائد الكريم نزل على رأي إخوانه حينما ألمحوا إليه أن يعود إشفاقا عليه وتقديرا له .
لقد كانت رؤيته عميقة وثاقبة .. تتجاوز الإقليم والقطر إلى الأمة والعالم ..
والحق أنه ما مات من عاش حرا منتمياً لمثل هذه القيم والمبادئ . لقد عاش الأستاذ لاشين للإسلام وبالإسلام , مسلما قياده لله رب العالمين , ولئن كان موته خسارة فادحة للدعوة والوطن .. فقد كانت جنازته وقورة .. مهيبة .. ضخمة ! حضرها من محبيه جميع من أسعفته ظروفه على الحضور , وكان موته رسالة يشرف المنتمي إلى الدعوة أن من رجالاتها مثل لاشين أبو شنب .. الجندي.. القدوة المتكامل رحمه الله .