بقلم : د / جميل الإمام
خانقة هي الأزمة التي تعصف ببلادنا العربية والإسلامية ، ثقيلة الوطئة ، شديدة القسوة .. تصيب القلوب والنفوس بأسى بالغ ، وحزن شديد ، وألم عميق .. تجعل الفرد من شدتها يصيح من أعماق قلبه ، وصدى صوته يتردد في حنيا نفسه .. أما لهذا الليل من آخر .
وأعزي كل مكلوم ، بلى له آخر .. وآخره شروق شمس الحق والعدل التي ستبدد ليل الظلم .. وتمحوا كل أثر له من النفوس والقلوب .. وحينها ستنقلب الأحزان أفراحا .. والجراحات ابتساما ، ويزول من نفس كل مؤمن أي أسى وهم وحزن .. ويقولون متى هو ؟ قل عسى أن يكون قريبا .. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
إن تلك الحالة الشعورية التي يجدها المؤمن في نفسه من شدة وطئة الظلم ، وقهره ، وبغيه، واستبداده .. أمر طبيعي وقع مثله لأسلافه المؤمنين ، وذكرها ربنا في القرآن الكريم حيث قال جل جلاله :{مْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [البقرة: 214]
وقال تعالى : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } [يوسف: 110]
ومع شدة الألم ، وبلوغ الأسى ، واستحكام الكرب ، يأتي الفرج ..
فنجد الحق جل جلاله يواسي المؤمنين على مر عصورهم مبينا لهم أن الكرب سيمحوه الفرج وأن العسر يغلبه اليسر ، وأن الباطل يزهقه الحق .
قال جل جلاله :{مْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة: 214]
وقال تعالى : {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110]
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإسراء: 81]
إن النصر واقع لا محالة ولا ريب ، ولا يليق بمؤمن رضي بالله ربا ، وقر معنى التوحيد في قلبه واختلط بلحمه وعصبه ، أن يشك مجرد شك في هذا الأمر .. لأنه من لوازم صدق الإيمان، ورسوخ العقيدة .. فالكون له إله يدبره ، وفق إرادته.. غير أن الله لا يعجل بعجلة العباد، ولله الحكمة البالغة ، ومن حكمته تأخير النصر شيئا قليلا ليظهر الخبث ، وتعلو الشوائب،ويطفو الزبد ، وترسخ العقيدة ،وتصفو الفكرة ،ويتحقق الإيمان ،ويتعمق الولاء وحينها ينزل النصر.. فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة .
ولست هنا بصدد الخوض في الحديث عن حكمة تأخير النصر ، فلعلة أبين وأوضح من الشمس في رابعة النهار .
إلا أنني أريد أن أعرض للحديث عن أمر له أهميته وخطرة ، وقد يغفل عنه البعض، ألا وهو أسباب النصر ومقوماته .
إننا في صراعنا مع الباطل ، ومجابهتنا له ، وثورتنا عليه قد نمتلك بعض مقومات النصر على تلك الثلة الفاسدة ،التي استولت على البلاد وسامت العباد خسفا وقهرا ،وانتشر آثار ظلمها في طول البلاد وعرضها .
لكن هناك مقومات للنصر لا يمكن بحال من الأحوال عدم استكمالها ،أو التغاضي عن الضعف في تحقيقها ، وبدونها سيتأخر النصر ولو عشنا في حراكنا الثوري ألف عام ،
وقد تغيب عنا في خضم الأحداث أهميتها وقوة تأثيرها .
والمقوم الذي أتحدث عنه هو المقوم الأهم والأضخم والأخطر من بين مقومات النصر إنه المقوم الإيماني ..فعلى المؤمنين يتنزل النصر من رب العالمين .
يقول تعالى : {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[آل عمران: 146 - 148]
قال العلامة الطاهر بن عاشور : و (الرّبيّون) جَمْعُ رِبِّيٍّ وَهُوَ الْمُتَّبِعُ لِشَرِيعَةِ الرَّبِّ مِثْلُ الرَّبَّانِيِّ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ وَتَلَامِذَةُ الْأَنْبِيَاءِ. التحرير والتنوير (4/ 118)
وقال العلامة السعدي : هذا تسلية للمؤمنين، وحث على الاقتداء بهم، والفعل كفعلهم، وأن هذا أمر قد كان متقدما، لم تزل سنة الله جارية بذلك، فقال: {وكأين من نبي} أي: وكم من نبي {قاتل معه ربيون كثير} أي: جماعات كثيرون من أتباعهم، الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة، فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك.
{فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا} أي: ما ضعفت قلوبهم، ولا وهنت أبدانهم، ولا استكانوا، أي: ذلوا لعدوهم، بل صبروا وثبتوا، وشجعوا أنفسهم، ولهذا قال: {والله يحب الصابرين} .
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر، بل اعتمدوا على الله، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين، وأن ينصرهم عليهم، فجمعوا بين الصبر وترك ضده، والتوبة والاستغفار، والاستنصار بربهم، لا جرم أن الله نصرهم، وجعل لهم العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: {فآتاهم الله ثواب الدنيا} من النصر والظفر والغنيمة، {وحُسن ثواب الآخرة} وهو الفوز برضا ربهم، والنعيم المقيم الذي قد سلم من جميع المنكدات، وما ذاك إلا أنهم أحسنوا له الأعمال، فجازاهم بأحسن الجزاء، فلهذا قال: {والله يحب المحسنين} في عبادة الخالق ومعاملة الخلق، ومن الإحسان أن يفعل عند جهاد الأعداء، كفعل هؤلاء الموصوفين . تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 151)
وقال تعالى :
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]
فالآية نصت صراحة على أن تحقيق الإيمان والعمل الصالح هو شرط التمكين والاستخلاف في الأرض .
وقال تعالى : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51، 52]
لذا يجب أن يسأل كل منا نفسه - قبل أن يقول متى النصر – هل حققت في ذاتي ومقومات النصر وشروطة ، واستكملت نقصي من تلك المقومات وعلى رأسها المقوم الإيماني .
إننا نحتاج على المستوى الإيماني مراجعة ذاتية حقيقية ، يكاشف فيها كل منا نفسه ، ويقف من خلالها على عيوببها ،ويستدرك ذلك بتوبة صادقة ،وعزم على سلوك درب المؤمنين .. توبة صادقة تفتح أبواب الرجاء وتزيل كل ذنب يحب النصر ويؤخر الفرج
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا }
[نوح: 11 - 13]
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه . رواه ابن ماجة من حديث ثوبان
وهل النصر إلا محض رزق وفضل من الله تعالى .
وعن القرآن سل نفسك هل أنت ممن حافظ عليه تلاوة ، وعملا واتباعا ،أم كنت ممن هجره وابتعد عنه .. فإنه لا ينبغي لطالب حق أن يغفل عن القرآن .. فهو الأنيس في المحن ، والسلوى في الكرب ، والأمل وقت الضيق ، وبه يستمد المؤمن ثباته .
وصلاة الجماعة لا يُغفل عنها أبدا ، فهي من سنن الهدى ، ودليل الإيمان الصادق ، وهي المكفرة للذنوب ، والرافعة للدرجات ، وبها يستمد العبد العون من ربه .
وقيام الليل أعظم به من زاد ، فهو شرف المؤمن .. وللقيام آثاره الظاهرة والباطنة فمنها إشراقة الوجه ، وخشوع الجوارح ، ولين الجانب ، وطهارة النفس ، ورقة القلب ، وصفاء الروح ، فضلا عن أنه من أعظم وسائل النصر ومقوماته ، فقد عرف عن سلفنا الصالح أنهم رهبان بالليل فرسان بالنهار ..
والواقعة المشهورة حين مر صلاح الدين يتفقد جنده ، فوجد خيمة نام أهلها ، وأخرى قام أهلها يتهجدون ، فأشر إليها قائلا من هنا يأت النصر ، وللأخرى قائلا ومن هنا تأتي الهزيمة ... فاحرص بارك الله فيك على قيام الليل ولو بركعتين قبل النوم .
ثم الذكر وفيه يقول تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]
فهو المعين على الثبات في وجه الظالمين
وبعد فإن الإيمان وزيادته في القلوب مقوم عظيم ،لا يمكن بحال من الأحوال أن يغفل عنه طالب حق ، ورمضان فرصة رائعة لزيادة الإيمان ، واستمطار رحمات الله ، والتعرض لنفحاته وفيوضاته ، فاحرصوا على أن تستكملوا العدة ، وتأهبوا لوثبة على الباطل لا تبقي ولا تذر، واستبشروا بنصر الله ، ينصر عباده المؤمنين ، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .