(يامعشر الروم إنه قد جائنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله)
(الأسقف صغاطر)
لعل الله سبحانه وتعالى أخر إسلام الصحابي الجليل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه وأرضاه لينقل للإنسانية قصة عجيبة لبطل عجيب، هذا البطل كان أقوى إنسان على وجه الأرض في تلك الفترة، فقد كانت قوته التي إستمدها من منصبه الديني الرفيع تؤهله لكي يكون أعظم من (هرقل) أعظم إمبراطور في تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية، هذا العظيم الإسلامي لم يُولد مثلي ومثلك مسلماً، ولم يصلِ لله ركعة، بل إن تاريخه في الإسلام لم يتجاوز أكثر من لحظات معدودة في عمر الزمن، وهو مع ذلك رجلٌ سطر إسمه في سجل العظماء بحروف كتبت بمدادٍ من ماء العيون، إننا نتحدث عن صاحب الموقف الرجولي الباهر، صاحب القلب الشريف الطاهر، صاحب العقل المضئ العامر، إننا نتحدث عن الأسقف صغاطر.
وصغاطر هذا – والذي لا يعرفه معظمنا – كان مجرد رجل طاعن في السن، لم يصم رمضان ولم يقم الليل البتة ولم يرَ الكعبة في حياته، ولكنه قدم لله ماهو أعظم من ذلك، لقد قدم روحه لله، فلقد قال هذا الرجل – جنساً وصفةً – قولة حق لم يخش فيها إلا الله، مجرد كلمة خلدته في سجل الشهداء، ورب كلمة يقولها المرء ترفعه في علييّن، ورب كلمة يقولها المرء تهوي به إلى أسفل سافلين، فهذا الرجل وإن كا لم ينتصر في معركةعسكرية، إلا إنه إنتصر في أشرس معركة يخوضها الإنسان منا، لقد إنتصر عظيمنا على العدو رقم واحد للإنسان : النفس الأمارة بالسوء!
والسؤال المطروح ليس هو : من منا لم يحارب نفسه الأمارة بالسوء ؟
بل السؤال هو : من منا إنتصر عليها ؟
فحرب الإنسان مع نفسه حرب أزلية، لا تنتهي جولاتها إلا مع الرمق الأخير للإنسان، هذه الحرب تشتد وطأتها كلما زادت الفتن التي يتعرض لها الإنسان، وصغاطر لم يكن متعرضاً لفتنة عظيمة فحسب بل كانت مكانته الدينية العظمى هي الفتنة ذاتها !
ولكي تدرك مدى التضحية العظيمة التي قام بها هذا الرجل العظيم الإسلامي في سبيل الله، فما عليك إلا أن تسأل نفسك سؤالاً بسيطاً : هل أنت على إستعداد للتخلي عن وظيفتك إذا علمت أن فيها أمراً يغضب الله سبحانه وتعالى من قريب أو بعيد؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال لكل واحدٍ فينا كي يجيب بنفسه على نفسه بكل صدق، أما صاحبنا فلم يستغرق الكثير من الوقت ليقدم إستقالته من أعلى وظيفة في سلم الوظائف الرومانية، بل لم يستغرق الكثير من الوقت لكي يقدم روحه الطاهره لله سبحانه وتعالى، فهيا بنا لنسير أغوار هذا البطل الإسلامي العظيم صغاطر، من خلال حديث عجيب غاية في العجب، رواه الصحابي الجليل أبو سفيان، ليحفظه لنا محمود الذكر والسيرة : البخاري جزاه الله عن المسلمين كل خير.
فبعد أن إستطاع رسول الله إنتزاع صلح الحديبية من بين أنياب مشركي قريش، جاء الوقت للمسلمين لتنفيذ أهم مهمة على عاتق المسلمين في كل زمان ومكان، ألا وهي مهمة التبلغ! فلا القتال ولا المعارك كانت هدفاً لرسول الله، فوالله ماقاتل المسلمون إلا دفاعاً عن مهمة التبليغ، ولعل المشكلة التي تواجه الكثيرمن الحركات الإسلامية في هذا الزمان إنها تعتقد أن الإسلام بعث فقط للقتال، لذلك سخروا حياتهم للقتال هنا وهناك، أحياناً بهدف وكثيراً من الأحيان بدون هدف، أما محمد بن عبدالله فلم يكن كذلك، فما أن عقد صلح الحديبية حتى بعث برسله إلى أنحاء الأرض، وكان أحد هؤلاء الرسل هو الصحابي الجليل الجميل (دحية بن خليفة الكعبي) رضي الله عنه وأرضاه، صاحب الوجه المشرق والذي كان جبريل عليه السلام يأتي إلى الرسول على هيأته، حاملاً رسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أعظم إمبراطور على وجه الأض في ذلك الوقت ... هرقل!
فمن هو هرقل ؟
هرقل هو الإسم المختصر للإمبراطور (فلافيوس أغسطس هرقل)، وهو إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) التي تقاسم الفرس السيطرة على العالم القديم، وقد تسلم هذا الإمبراطور مقاليد الحكم في الإمبراطورية الرومانية في 610م، والحقيقة أن هرقل كان في بادئ الأمر رجل دين نصراني (تونس) فعندما غلبت الروم من الفرس في القصة المشهورة التي خلدها القرآن، قام أبوه البطريرق (هرقل) بتجهيز إبنه (هرقل بن هرقل) لينقذ الدولة قبل إنهيارها، فقام هرقل بمهاجمة (القسطنطينية) عاصمة الروم ليزيح الإمبراطور (فوكاس) من العرش، كمحاولة أخيرة لإنقاذ الدولة الرومانية من الإجتياح الفارسي ومن الفوضى التي تعصف داخل الدولى بعد مقتل القيصر (موريس)، فأبحر هرقل من تونس صوب القسطنطينية وإستولى على الحكم، ونصب نفسه قيصراً منقذاً للدولة، ليحارب بعدها الفرس وينتصر عليهم في معركة (نينوى) سنة 627م، ليصبح هرقل بذلك بطل قومياً ودينياً، فحج هرقل إلى القدس ماشياً على قدميه لكي يشكر ربه على الإنتصار، فصادف وجوده في القدس مجيئ رسول الله الصحابي دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فسلمه رسالة رسول الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبدالله إلى هرقل عظيم الروم
سلام على من إتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الآريسيين.
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) ﴾ آل عمران
وقف هرقل يتأمل هذه الرسالة العجيبة التي تأتي إلى قيصر أكبر إمبراطورية على الأرض من رجل لا يعرف عنه شيئاً في صحراء العرب، فأراد هرقل أن يتأكد من صحة ما فيها، وقد كان هرقل رجلاً متديناً يعرف من بقايا الإنجيل أن نبياً سوف يخرج في هذا الزمان، فبعث بقادته ليجلبوا له بعض العرب ليسألهم عن هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول الله، فشاء الله أن يتواجد في مدينة (غزة) الفلسطينية في هذا الوقت أبو سفيان بن حرب ونفر من قريش للتجارة بعد أن وضعت الحرب أوزارها مع المسلمين، وفرغوا لتجارتهم في الشام، فبعث إلى بلاط القيصر ليستفسر منهم حقيقة البعثة النبوية، فأحضر هرقل الترجمان ليترجم له، فسأل هرقل التجار العرب : أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟
فقال أبوسفيان : أنا أقربهم نسباً إليه (فالأمويين هم أبناء عمومة الهاشميين، حيث أن عبد شمس جد الأمويين هو الأخ التؤام لهاشم جد الرسول صلى الله عليه وسلم ).
فقال هرقل : أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره (أي اجعلوا أبا سفيان واقفاً و وراءه مجموعة من أصحابه)، ثم قال لترجمانه : قل لهم إني سائل – يعني أبا سفيان – فإن كذبني فكذبوه!
ويصف الباحث التاريخي الدكتور راغب السرجاني هذه النقطة بأنه تدل بصورة لا شك فيها أن هرقل يريد أن يعرف بجدية كل شئ عن هذا النبي، لذلك سأل أقرب الناس إليه نسباً، ليكون على معرفة تامة به، وفي نفس الوقت جعل وراء أبي سفيان مجموعة من التجار الآخرين كحكام على صدقه، وعند ذلك سيخاف أبوسفيان أن يكذب، ومن وراءه سوف يخافون أن يكذبوا، ولكن عامل الكذب هذا لم يكن وارداً في خاطر أبي سفيان على الإطلاق، فالعرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب هذه، وتعتبرها نوعاً من الضعف غير المقبول، وأبوسفيان في هذه اللحظه التي لم يسلم فيها بعد، مع أنه يكره الرسول صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة، ومتأكد من أن أصحابه لن يكذبوه أمام القيصر مهما قال ، إلا إنه لا يستطيع أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يحب أن يشوه صورته بالكذب لدرجة أن رواية كان يقول : (ولكني كنت امرأ أتكرم على الكذب، لا أكذب).
وبداء إستجواب هرقل لأبي سفيان أمام الجميع من العرب والرومان في حضور علية القوم من الأمراء والوزراء والعلماء من الرومان من أجل أن يتيقن من أمر هذه النبوة التي ظهرت في بلاد العرب، هل هي نبوة حقيقية أم كذب، ودار حوار عجيب بين (هرقل إمبراطور الروم) و (أبي سفيان سيد مكة) حول (محمد رسول الله).
وقد بدأ هرقل بالسؤال : كيف نسبه فيكم ؟
قال أبو سفيان : هو فينا ذو نسب .
قال هرقل : فهل قال هذا القول من قبلكم أحد قط قبله ؟
(أي هل إدعى أحد من العرب النبوة من قبله؟)
قال أبو سفيان : لا لم يدع أحد في تاريخ العرب النبوة.
فقال هرقل : هل كان من آبائه من ملك ؟
فقال أبو سفيان : لا .
فقال هرقل : فأشراف الناس إتبعوه أم ضعفاؤهم ؟
قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم .
قال هرقل : أيزيدون أم ينقصون ؟
قال أبو سفيان : بل يزيدون .
قال هرقل : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟
قال أبو سفيان : لا ، لا يرتد منهم أحد .
قال هرقل : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قال أبو سفيان : لا (فأبو سفيان يعرف جيداً أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يدعى بالصادق الأمين قبل الإسلام).
قال هرقل : فهل يغدر ؟
قال أبو سفيان : لا .
ثم قال : ونحن منه في مدة لا ندري ماهو فاعل فيها.
ثم قال هرقل : فهل قاتلتموه ؟
قال أبو سفيان : نعم.
فقال هرقل : فكيف كان قتالكم إياه ؟
قال أبو سفيان : الحرب بيننا وبينه سجال. أي ينال منا وننال منه (يقصد معركتي بدر و أحد) .
قال هرقل : بماذا يأمركم ؟
قال أبو سفيان : يقول إعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آبائكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وبعد هذا الإستجواب توصل هرقل إلى نتائج مذهلة، إتضح منها أنه كان يقصد كل سؤال يطرحه على أبي سفيان، فقال والترجمان يترجم لأبي سفيان :
قال هرقل : سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.
ثم قال سألتك إن قال أحد منكم هذا القول قبله ؟ فذكرت أن لا، قلت لو كان قال أحد هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله .
وسألتك هل كان من أبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه من ملك، فقلت : رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
وسألتك أشراف الناس إتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاؤهم إتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم.
وسألتك أيضاً أيرتد أحد منهم سخطاً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك هل يغدر ؟ فذكرت أن لا ، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك بماذا يأمر ؟ فذكرت أنه يأمركم ان تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
وبعد هذا الإستنتاج الذكي من هرقل قال لأبي سفيان بكل وضوح : فإن كان ما تقوله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين – أي الشام – وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم (فهو يستكثر أن يكون من العرب، وذلك للنظرة العنصرية التي ينظر بها الروم للعرب)، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقائه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه!
وفي أحدى الروايات العجيبة لهذه الحادثة ، قصة وردت فيها حكاية بطلنا العظيم صغاطر ، فقد ورد أن هرقل بعد توصله إلى إستنتاجه بصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التفت إلى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي رضي الله عنه وقال له ويحك ! والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي ،ولولا ذلك لاتبعته، فإذهب إلى صغاطر الأسقف فإذكر لهم أمر صاحبكم، فهو والله أعظم في الروم مني، وأجوز قولاً عندهم مني، فأنظر ما يقول لك .
فذهب دحية الكلبي رضي الله عنه إلى صغاطر كبير الأساقفة، فأخبره بما جاء به من رسول الله إلى هرقل، وبما يدعوه إليه، فقال صغاطر : صاحبك والله نبي مرسل، نعرفه بصفته، ونجده في كتبنا بإسمه.
ثم دخل صغاطر فألقى ثياباً كانت عليه سوداً، ولبس ثياباً بيضاء، ثم أخذ عصاه، يتوكأ بها بملابسه البيضاء، ولا شك أن هالة من نور الإيمان كانت تحيط بوجهه المشرق بالإيمان، فخرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال بصوتٍ عال : يا معشر الروم !
إنه قد جائنا كتابٌ من أحمد، يدعونا فيه إلى الله عز وجل، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
فما إن فرغ البطل صغاطر من قولته تلك حتى وثب عليه من كانوا يسجدون له من قبل وثبة رجل واحد، فضربوه حتى تحولت ثيابه البيضاء إلى حمراء من دمائه التي تدفقت كشلالٍ متفجرٍ من جبينه، ولا شك أنه كان ينادي وقتها بصوتٍ أنهكه الضرب:
أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمداً رسول الله
وإستمر الرومان بضربهم لكبير أساقفتهم صغاطر حتى فاضت روحه إلى بارئها، فرحم الله البطل صغاطر، وأسكنه الله فسيح جناته، وحشره مع حبيبه أحمد الذي آمن به من دون أن يراه.