" أبو بكر في الجنة وعمرُ في الجنة وعثمانُ في الجنة وعليٌ في الجنة وطلحةُ بن عبيدِ اللَّه في الجنة والزبيرُ بنُ العوامِ في الجنة وأبو عبيدةُ عامرُ بنُ الجراحِ في الجنة وسعدُ ابن أبي وقاصٍ في الجنة وسعيد بن زَيدٍ في الجنة وعبد الرحمنِ بنُ عوفٍ في الجنة"

(رسول اللَّه، صلى اللَّه عليه وسلم)

 

 جهاد الترباني :

 

ما عرفت إنسانًا عاديًا في تاريخ الدنيا نفع ابنًا له بدعاءٍ بمثل ما نفع به زيد بن عمرو ابنه سعيدًا! فأن يدعو لك أبوك ربَّه في أمر من أمور الدنيا أو الآخرة فهذا شيءٌ جميل، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إن كان ذلك الأب يمتلك في رصيده الإيماني ما يؤهله لكي يكون مستجابَ الدعوة كزيد بن عمرو! عندها يُطرح سؤالٌ آخر: ما هو الشيء الذي تعتقد أنه سيشغل تفكيرك وأنت على فراش الموت لكي توصي به أولادك وتدعو به ربك؟ لا شك أن الشيء الذي سيدور في ذهنك وأنت تموت هو نفس الشيء الذي كان يدور في ذهنك وأنت تعيش! فإن كنت قد عشت حياتك في جمع المال وكنزه، فلا شك أنك ستفكر بتلك الدراهم التي جمعتها طيلة حياتك، وكيف أن أولادك سينفقونها في ملذاتهم بعد دفنك أنت تحت التراب! وإن كنت مغرمًا في حياتك بالفن السابع ومشاهدة المسلسلات على الشاشة الصغيرة، فإنك حتمًا ستتذكر وقتَ موتك بطلة مسلسلك الجميلة وهي تودع حبيبها في الحلقة الأخيرة!

أما في حالة زيد بن عمرو بن نفيل رحمه اللَّه فقد كان الوضع مختلفًا تمامًا! فقد كان ما يشغل كيان هذا الرجل في حياته هو البحث عن توحيد اللَّه، لذلك رفع زيد يده إلى السماء والدماء تسيل منه داعيًا ربه:

"اللهم إن كُنتَ حرمتَني من هذا الخير فلا تحرم منه ابني سعيدًا"

وفعلًا، استجاب اللَّه لدعائه، فلم يُسلم سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فحسب، بل كان سعيدٌ سعيدًا بأن جعله اللَّه أحد أسعدِ عشرة سعداءٍ في تاريخ أمة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-! ولك أنتعلم أن أولئك العشرة هم أفضل بني البشر بعد الأنبياء مباشرة! هل علمت الآن ما صنعه دعاء زيدٍ الأب لسعيدٍ الابن؟

ولكن سعيدًا لم يكتفِ بكونه ابن عملاق التوحيد في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل، ولم يكتفِ بكونه من بين عشرة رجالٍ فيهم أبو بكر وابن عمه الخطاب وذو النورين عثمان بن عفان والبطل علي بن أبي طالب وطلحة الخير وابن عمة رسول اللَّه الزبير بن العوام وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح وخال رسول اللَّه سعد بن وقاص والبطل الإسلامي عبد الرحمن بن عوف، بل اختار رضي اللَّه عنه وأرضاه أن يكون أحد أبطال هذه الأمة الذين فتح اللَّه عز وجل عليهم ممالك الأرض وخزائنها، فكان سعيد بن زيد قائد سلاح الفرسان في معركة "أجنادين" الباسلة، أمّا في "اليرموك" فقد كان هذا البطل من بين البدريين المائة الذين فتح اللَّه عليهم بلاد الشام، ولنبقى قليلًا مع سعيد بن زيد رضي اللَّه عنه وأرضاه ليصف لنا يوم اليرموك والجيش الرومي بنفسه:

"سار الروم أمامهم الأساقفة والبطاركة والقسيسون يحملون الصلبان وهم يجهرون بالصلوات فيرددها الجيش من ورائهم وله هزيم كهزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون على حالهم هذه هالتهم كثرتهم وخالط قلوبهم شيء من خوفهم، عندها قام أبو عبيدة بن الجراح يصيح بأعلى صوته بالمسلمين: يا عباد اللَّه. . . . إن تنصروا اللَّه ينصركم ويثبت أقدامكم، اصبروا عباد اللَّه، فإن الصبر منجاة من الكفر، ولا تتكلموا إلا بذكر اللَّه عز وجل، وارفعوا الرماح، وتترسوا بالدروع، حتى آمركم إن شاء اللَّه تعالى، عند ذلك خرج جندي من صفوف المسلمين وقال لأبي عبيدة: يا أبا عبيدة. . . . يا أبا عبيدة. . . . . إني قد أزمعت على الشهادة، فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فبكى أبو عبيدة عند سماعه ذلك وقال له والدموع تبلل لحيته: نعم. إذا لقيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأقرئه مني ومن المسلمين السلام، وقل له: يا رسول اللَّه. . . . .
جزاك اللَّه عنا كل خير، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا

يقول سعيد بن زيد: فما إن سمعت كلامه ورأيته يمتشق حسامه ويمضي إلى لقاء أعداء اللَّه حتى قفزت من على فرسي، واقتحمت إلى الأرض، وجثوت على ركبتي،وأشرعت رمحي، وطعنت أول فارس أقبل علينا فقتلته، ثم وثبت على العدو وقد انتزع اللَّه كل ما في قلبي من الخوف، فثار الناس في وجوه الروم، وما زالوا يقاتلونهم حتى كتب اللَّه للمؤمنين النصر".

واللَّه إن الإنسان لتأخذه الرعدة وهو يستمع لمثل هذه الحكايات عن أولئك الأبطال الذين ما عرف تاريخ البشر زجالًا مثلهم أبدأ، فلقد انتصرت كتائب النور الإسلامية بفضل رجالٍ من أمثال سعيد بن زيد بن عمرو رضي اللَّه عنه وعن أبيه على إمبراطورية الروم الجبارة في كل المعارك التي خاضوها ضدهم، فجزى اللَّه سعيدًا كل خير عن المسلمين عامة وعن أهل "دمشق" خاصةُ، هذه المدينة الإسلامية العظيمة التي كان هو أول أمير إسلامي لها في تاريخها، قبل أن يعتذر هذا المجاهد العظيم لأبي عبيدة عن الإمارة، بعد أن اشتاق للجهاد مرة أخرى، ليترك هذا البطل بن البطل كرسي الإمارة ليتحول إلى جنديٍ بسيط في جيش المجاهدين العرب المسلمين، ليعلن للدنيا بان كتائب النور الإسلامية جاءت لتحرير بني الإنسان!

وإن كنا قد تحدثنا عن عمِّ وابن عمِّ عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهم أجمعين، فقد جاء الوقت لكي نذكر أخًا للفاروق ذا حظٍ عظيم بين عظماء أمة الإسلام المائة، فمن يا ترى يكون ابن الخطاب الذي لم يكن عمرًا؟ وما هي حكاية عمليته الفدائية في "حديقة الموت" يوم "اليمامة"؟ ولماذا كان المارد العملاق عمر ابن الخطاب يجهش في البكاء كالطفل كلما تذكره؟ وكيف قتل هذا العملاقُ الإسلامي العظيم خائنًا كان أشد خطرًا على الإسلام من (مسيلمة الكذاب) نفسه؟ وما هي حكاية حروب الردة؟ وهل ارتدت العرب فقط من أجل رفضهم دفع الأموال كما تعلمنا في مدارسنا؟!