لطالما ظل العقار ذا خصوصية في ذهن ونفسية المصريين على مدار عقود، باعتباره ملاذًا آمنًا، ووعاءً ادخاريًا محدود المخاطر، كما أنه يتميز باستدامة ارتفاع سعره، ولا يحتاج لكثير خبرة، مقارنة بالمشروعات الأخرى، ويظل العقار محتفظًا بمكانته القوية أمام الأوعية الادخارية الأخرى كالذهب أو العملات الأجنبية كالدولار، وذلك نظرًا للسمة الغالبة على هذين الوعاءين وهي التذبذب المستمر، والتأثر بحركة الاقتصاد العالمي. كما أنه لا يتأثر كثيرًا بالوضع السياسي القائم، بل إن الاضطرابات السياسية تعزز نمو القطاع العقاري في مصر.

وبعد ثورة يناير  2011، انخفض إجمالي الاستثمارات في القطاع العقاري، لينشط من جديد خلال عامي 2013 و2014، ليبدأ ما يمكن أن نطلق عليه طفرة عقارية خلال عام 2015، ومع ارتفاع أرباح الشركات العقارية والأفراد المستثمرين، نزحت كميات ضخمة من رؤوس الأموال إلى القطاع العقاري في مصر، لتزداد وتيرتها خلال العام الماضي 2016، ومن ثم ارتفع حجم الطلب العقاري بهدف الاستثمار إلى مستويات قياسية لا سيما قبيل الإجراءات الحكومية في شهر نوفمبر، حتى قدره بعض المطورين بـ60% من إجمالي حجم الطلب العقاري في مصر.

ما الفقاعة؟

هناك مصطلح اقتصادي شائع، من المحتمل أن نلجأ إليه بكثرة الفترة القادمة، ونوظفه في سياق القطاع العقاري المصري، وهو اقتصاد الفقاعة أو اقتصاد البالون، ويعني بشكل عام ارتفاع الطلب نسبيًا على أصل من الأصول، يعقبه ارتفاع في الأسعار، ومن ثم ينشط سوق هذا الأصل حتى يلفت انتباه المستثمرين، فيبدؤون في ضخ الأموال في هذا الأصل، ويتم اقتراض أغلب هذه الأموال من البنوك، ثم تزداد وتيرة ارتفاع أسعار هذا الأصل، ليتم جذب وإغراء المزيد من المستثمرين لاقتناء هذا الأصل، حتى تصل الأسعار إلى درجة خيالية غير حقيقية، ولا تلبي الطلب الحقيقي، وإنما ما حدث كان طلبًا مُصطنعًا أدى لمثل تلك الارتفاعات.

وفي تلك اللحظة تتشكل الفقاعة أو البالون، ليبدأ سوق هذا الأصل في الركود كمقدمة للكارثة التي توشك على الوقوع، ثم تقترب مواعيد أقساط البنوك على المستثمرين والشركات، لتسارع الأخيرة بالبيع بأسعار مخفضة حتى لا تتعثر وتعلن إفلاسها، وتبدأ موجة جماعية من البيع، ليزداد العرض، ويقل الطلب الذي تأثر سابقًا والأسعار المبالغ فيها. ومن ثم تنفجر فقاعة هذا الأصل، وينخفض سعره لمستويات كبيرة ربما تجاوز 50% من سعره السوقي. ولكن في نفس الوقت لا يوجد طلب حقيقي يستوعب هذا الانخفاض في الأسعار، فتحدث الأزمة، وربما ينهار قطاع ذلك الأصل برمته، وبالتالي يتعثر المستثمرون في السداد، وتتأثر البنوك بمثل ذلك التعثر، ليدخل الاقتصاد الكلي في أزمة اقتصادية ومالية طاحنة، تزداد حدتها مع كبِر حجم تمويل ذلك الأصل.

تهيئة الفقاعة

وبالعودة للقطاع العقاري المصري، نجد أن العام الماضي 2016، كان نقطة فاصلة في اندفاع شريحة كبيرة من الأفراد على اقتناء العقار بهدف الاستثمار فيه، وهربًا من معدلات التضخم المرتفعة، ولحفظ قيمة المدخرات بالجنيه المصري الذي شهد تراجعًا كبيرًا أمام الدولار، إلى أن تم التعويم الكامل لتتجاوز قيمته بعد التعويم 100% عن قيمته قبل التعويم.

كما اندفعت الشركات العقارية إلى الاستحواذ على الأراضي والشروع في بنائها، مع دخول شركات إماراتية وسعودية، وبيع الوحدات بأقساط على مدار سنوات، وفي أحيان كثيرة بدون مقدم، لتستغل بذلك طفرة الأراضي التي تطرحها وزارة الإسكان، وتوجهات الحكومة المصرية نحو زيادة الإسكان المتوسط، ومن ثم نشط التمويل العقاري إلى حد ربما لم يصل إليه من قبل.

ارتفع حجم الإسكان الفاخر لدرجات كبيرة، وارتفعت أسعار المساكن بسبب ارتفاع المدخلات، فوزارة الإسكان تطرح الأراضي بنظام المزايدة ومن ثم يزداد المضاربة عليها، فترتفع أسعارها، ويتم تمرير هذه الزيادة إلى المستهلك النهائي، الذي ربما يُقبل عليها بهدف الاستثمار أيضًا، كما حدث في طرح وحدات مشروع آي سيتي التابع لشركة ماونتن في شهر أغسطس2016، والمشاهد التي عبرت بوضوح عن الوضع من تكالب الأفراد لحجز الوحدات التي بلغت قيمتها ملايين الجنيهات.

يقوم الناس بالشراء ومن ثم يقومون بإغلاق الوحدة، في انتظار المزيد من الارتفاعات، وبالتالي كانت شهية الجميع مفتوحة، لتدفع الأسعار للارتفاع بشكل خادع، ففي مشروع لشركة إيست تاون في السادس من أكتوبر على سبيل المثال، ارتفعت أسعار وحداتها إلى الضعف تقريبًا خلال العامين الماضيين، فمن سعر 5500 جنيه للمتر الواحد، إلى 11000 للمتر.


طفرة عقارية بطلب وهمي

وتشير مبيعات الشركات العقارية إلى حجم الطفرة العقارية التي حدثت خلال عامي 2015، و2016، ففي الربع الأول وحده من عام 2015 نما القطاع العقاري بمعدل 30%، ومن ثم ارتفعت أسعار مبيعات الوحدات السكنية بنسبة تصل إلى 20%، كما ارتفعت أسعار الأراضي بمعدل 35%، واستمر الارتفاع في الربع الثاني من ذلك العام، وزادت أسعار الوحدات السكنية بنسبة 26% للشقق والفيلات في القاهرة الجديدة، و23% في السادس من أكتوبر.

وفي العام 2016، وتحديدًا في فترة ما قبل تعويم الجنيه المصري، بلغ معدل النمو في قطاع الأنشطة العقارية حوالي 4.6% في العام المالي 2015/2016، ليرتفع هذا المعدل في الربع الثاني من العام الماضي إلى 6.2%. فعلى سبيل المثال، قالت مجموعة طلعت مصطفى إنها حققت نموًا في مبيعاتها بنسبة 107% خلال أول تسعة أشهر من العام الماضي 2016، وبلغت تلك المبيعات 5.5 مليار جنيه، لترتفع أرباح الشركة بنسبة 15.7% عن العام الذي يسبقه، ليبلغ صافي الأرباح خلال الأشهر التسعة حوالي 616 مليون جنيه، مقارنةً بـ532 مليون جنيه عام 2015.

وتشير أرقام الهيئة العامة للاستثمار والمناطق الحرة، أن هناك زيادة بمقدار عشرة أضعاف في الاستثمارات الأجنبية في السوق العقاري المصري عام 2016، مع زيادة الشركات الأجنبية العاملة في مصر بمقدار ستة أضعاف.


نمو قطاعي معاكس للنمو الكلي

وما يثير القلق والريبة في الوقت نفسه لذلك النمو، هو عدم وجود ما يقابله على مستوى النمو الاقتصادي الكلي، بل على العكس، يشهد الاقتصاد المصري تراجعًا ملحوظًا في معدلات النمو الاقتصادي.

وتشهد الفترة الحالية منذ بداية تعويم الجنيه المصري، والارتفاع المضطرد لمعدل التضخم، تراجعًا حادًا في الطلب الحقيقي، بسبب التراجع الكبير في القوة الشرائية، على مستوى كافة القطاعات، لينال القطاع العقاري النصيب الأكبر من هذا التراجع بسبب وجود الفقاعة السعرية التي تشكلت على مدار العامين الماضيين، والتي لن تتوقف عند ذلك الحد أيضًا، لارتفاع مدخلات الإنتاج العقاري كالحديد والأسمنت، واستمرار جنوح أسعار الأراضي، الذي تعززه الدولة نفسها من خلال المتاجرة في الأراضي الجديدة المطروحة كما هو مبين من طروحات العاصمة الإدارية الجديدة.

ركود ما قبل العاصفة

وبناء على ما تقدم وغيره، فالمشهد الحالي عبارة عن سوق عقاري بأسعار سوقية مُبالغ فيها، مدفوعة بإقبال ومضاربة العديد من الأفراد على الاستثمار في العقارات ظنًا منهم بتواصل ارتفاع أسعارها ومن ثم جني الأرباح. ويزداد هذا الإقبال بسبب الوضع الاقتصادي الحالي الذي يبدو معه أن ترك المدخرات سواء بالجنيه أو بالدولار لا يعد خيارًا آمنًا لدرجة التذبذب الكبيرة بينهم، ومن ثم فالعقار هو الوعاء الاستثماري الأنسب، وبالتالي فهو طلب خادع غير حقيقي، مع تراجع للطلب الحقيقي، ونتيجة لذلك فشبح الركود ربما يبدأ في الظهور خلال الأشهر القليلة القادمة، وهو مقدمة انفجار الفقاعة.

لا يجب التغاضي عن حقيقة أنه بعد التعويم وارتفاع أسعار مواد البناء، خسرت العديد من الشركات أموالًا طائلة لتعاقدها مع المشترين وتأجيل تسليم الوحدات في المستقبل، وذلك بأسعار ما قبل التعويم. تلك الشركات اضطرت إلى اللجوء إلى الاقتراض بكثرة للوفاء بالتزاماتها، والعودة من جديد للمشروعات الجديدة التي تمكنها من سداد القروض وتحقيق الأرباح، ويعد هذا الأمر بمثابة المادة التي تُلقى على الأزمة وتفاقمها وتعجل بها.

تأثير انفجار الفقاعة

ويقفز هنا سؤال محوري مفاده: ماذا بعد انفجار الفقاعة؟ كليًا؛ يتوقف أثر وقع هذا الأمر على حجم التمويل العقاري خلال الفترة التي سبقت هذا الانفجار، فكلما ارتفعت ديون المستثمرين الأفراد وكذلك الشركات، زادت حدة الأزمة، وتعمقت آثارها لتضرب قطاعات أخرى كالبنوك، ليتبعها هزات عنيفة تنسحب على الاستثمار بشكل عام، ومن ثم يسقط الاقتصاد الكلي في شرك الركود الذي يتبعه ضعف في النمو الاقتصادي، المتراجع بالأساس.

وجزئيًا، بعد انفجار الفقاعة؛ تتراجع أسعار العقارات بشدة لتصل إلى مستوياتها الطبيعية، وتفاقم الركود بشكل أكبر، ظنًا من قوى الطلب الحقيقية باستمرار الانخفاض، حتى تصل الأسعار إلى دون المستويات الطبيعية، وبالتالي تقع خسائر مهولة، تؤدي لإفلاس العديد من الشركات العقارية المتوسطة والصغيرة.

أما الرابح الأكبر من جراء تلك الأزمة فهو المشتري النهائي الذي يقوم بالشراء عند نقطة الانخفاض الكبرى، ليحوز العقار ربما بنصف ثمنه السوقي، وكذلك الشركات الكبرى التي لديها مديونيات منخفضة ولم تتأثر كثيرًا بالأزمة، ولديها وفرة في السيولة، فتقوم بشراء والاستحواذ على الكثير من تلك العقارات التي انخفضت أسعارها، ويتمنى أصحابها التخلص منها في أسرع وقت خوفًا من مزيد من الانخفاضات.

فماذا يمكن عمله من أجل تفادي هذا الطوفان المحتمل؟ يُفضل الابتعاد عن الاستثمار في العقارات الفاخرة التي تبلغ الوحدة الواحدة منها ملايين الجنيهات، والاتجاه إلى الاستثمار في وحدات متوسطة يسهل بيعها وقتما تشاء لكِبَر شريحة المشترين لمثل تلك الوحدات، أو التحول للوعاء الاستثماري المناسب لتلك المرحلة وهو الذهب. وفي جميع الأحوال؛ ينبغي عدم الانجرار وراء عروض الشركات العقارية المغرية بطول مُدد السداد، كما لا ينبغي اللجوء للاقتراض من أجل شراء عقار في الوقت الراهن.