طالع ما سبق نشره :
(1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) (8)
 
بقلم : الشيخ عبد الله علوان
 

الفصل الرابع - مسؤولية التربية العقلية
مسؤولية الواجب التعليمي
المقصود بالتربية العقلية تكوين فكر الولد بكل ما هو نافع من العلوم الشرعية، والثقافة العلمية والعصرية، والتوعية الفكرية والحضارية.. حتى ينضج الولد فكرياً ويتكوّن علميّاً وثقافيّاً...
وهذه المسؤولية لا تقل خطورة وأهمية عن المسؤوليات التي سبق ذكرها: الإيمانية، والخلقية، والجسمية، فالتربية الإيمانية تأسيس، والتربية الجسمية إعداد وتكوين، والتربية الخلقية تخليق وتعويد.. أما التربية العقلية فإنها توعية وتثقيف وتعليم..
وهذه المسؤوليات الأربعة، ومسؤوليات غيرها مما سنأتي على ذكره، متضافرة مترابطة متساندة في تكوين الولد الشامل، وتربيته المتكاملة ليكون إنساناً سويّاً يقوم بواجب، ويؤدي رسالة، وينهض بمسؤولية.. فما أحسن الإيمان حين يؤاخي الفكر، وما أجمل الأخلاق حين تواكب الصحة!!.. وما أعظم الولد حين ينطلق للحياة العملية وقد اعتنى به المربون من كل جانب، وأحاطوا بتوجيهه وتربيته وإعداده من كل ناحية!!..
وإن كان لا بد من بيان المراحل التي يجب أن يسلكها المربون في كل مسؤولية يقومون بها نحو الولد.. فأرى أن مسؤوليتهم في التربية العقلية تتركز في الأمور التالية:
أ- الواجب التعليمي.
ب- التوعية الفكرية.
جـ- الصحة العقلية
أ‌- مسؤولية الواجب التعليمي:
لا شك أن هذه المسؤولية بالغة الأهمية والخطورة في نظر الإسلام، لأن الإسلام حمّل الآباء والمربين مسؤولية كبرى في تعليم الأولاد، وتنشئتهم على الاغتراف من معين الثقافة والعلم، وتركيز أذهانهم على الفهم المستوعب، والمعرفة المجردة، والمحاكمة المتّزنة، والإدراك الناضج الصحيح.. وبهذا تتفتح المواهب، ويبرز النبوغ، وتنضج العقول، وتظهر العبقرية.. ومن المعلوم تاريخيّاً أن أول آية نزلت على قلب الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه هذه الآيات: {اقرأ باسم ربك الذي خلق. خَلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم} العلق: 01-05.
وما ذاك إلا تمجيد لحقيقة القراءة والعلم، وإيذان لرفع منار الفكر والعقل، وفتح لباب الحضارة على مصراعيه.
وإذا أردنا أن نستعرض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على العلم، وترفع من منزلة العلماء، نجدها كثيرة ومستفيضة يستظهرها الصغير والكبير، ويرويها العالم والمتعلم..
فمن هذه الآيات قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر: 09.
- وقوله: {وقل ربِّ زدني علماً} طه: 114.
- وقوله: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} المجادلة: 11.
- وقوله: {ن. والقلم وما يسطرون} القلم: 01.
ومن هذه الأحاديث:
- روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة".
- وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى، وما والاه[1] وعالماً أو متعلماً".
- وروى الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.. إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناسِ الخير".
- وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
انطلاقاً من هذا التوجيه القرآني والإرشاد النبوي انكبّ المسلمون في عصر الرسالة، والعصور التي تلت على مدارسة العلوم الكونية، واعتبروا تعلم كل علم نافع من قبيل الفرض والواجب، واستفادوا من حضارات الأمم الأخرى في العالم فجدّدوا فيها وهضموها، وطبعوها بطابع الإسلام المتميز، وظل العالم قروناً طويلة يقتبس من علومهم، ويستفيد من حضارتهم.. وما تألقت الحضارة المادية في العصر الحديث شرقاً ولا غرباً إلا بفضل ما أخذوه من حضارة المسلمين وعلومهم عن طريق صقلية، والأندلس، والحروب الصليبية... فكانت الدولة الإسلامية بحق أستاذاً وإماماً للعالم الضال، والإنسانية الحائرة..
وإليكم شهادة المنصفين من فلاسفة الغرب على عظمة المجد العلمي والحضاري الذي أحرزه المسلمون في فترات طويلة من التاريخ:
- يقول (شريستي) في حديثه عن الفن الإسلامي: (ظلت أوربا نحو ألف سنة تنظر إلى الفن الإسلامي كأنه أعجوبة من الأعاجيب).
- ويقول (دوزي) المستشرق الهولندي: (إن في كل الأندلس لم يكن يوجد رجل أمّي بينما لم يكن يعرف القراءة والكتابة في أوروبا معرفة أولية إلا الطبقة العليا من القسس).
- ويقول (لين بول) في كتابه (العرب وأسبانيا): (فكانت أوربا الأمية تزخر بالجهل والحرمان بينما كانت الأندلس تحمل إمامة العلم وراية الثقافة).
- ويقول (بريفولت) في كتابه (تكوين الإنسانية): (العلم هو أعظم ما قدمت الحضارة العربية إلى العالم الحديث، ومع أنه لا توجد ناحية واحدة من نواحي النمو الأوربي إلا ويلحظ فيها أثر الثقافة الإسلامية النافذ، إلا أن أعظم أثر وأخطره هو ذلك الذي أوجد القوة التي تؤلف العامل البارز الدائم في العالم الحديث، والمصدر الأعلى لانتصاره أعني العلم الطبيعى والروح العلمية.. وهذه الحقائق مؤداها أن الإسلام دين بناء حضاري).
- ويقول (أبو شبكة) في كتابه (روابط الفكر والروح بين العرب والفرنجة): (إن زوال الحضارة العربية كان شؤما على أسبانيا وأوروبا، فالأندلس لم تعرف السعادة إلا في ظل العرب، وحالما ذهب العرب حلّ الدمار محل الثراء والجمال والخصب..).
- ويقول (هـ.ر. جب) في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) في معرض المذهب التجريبي الذي قام عليه كل العالم الأوروبي، والذي هو تراث إسلامي أصيل.. يقول ما نصه: (أعتقد أنه من المتّفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوروبا في العصور الوسطى).
- يقول (فكتور روبنصن) بعد كلام طويل في موازنته بين الحضارة الإسلامية في الأندلس، وحضارة أوروبا في القرون الوسطىة: (... وكان أشراف أوروبا لا يستطيعون توقيع أسمائهم بينما كان أطفال المسلمين في قرطبة يذهبون إلى المدارس، وكان رهبان أوروبا يلحنون في تلاوة سِفْر الكنيسة بينما كان معلمو قرطبة قد أسسوا مكتبة تضارع في ضخامتها مكتبة الإسكندرية العظيمة...).
إن هذه الأقوال وأقوالا كثيرة غيرها تؤكد لنا بوضوح ما انطوى عليه الإسلام من قوة دفع حضارية، ومن إشراقة نور علمية.. بينما كان العلماء في أوروبا – في القرون الوسطى – يقتلون في الساحات العامة جهاراً نهاراً لجرأتهم العلمية والفكرية!!!...
ولكن ما هو السر في هذا الدفع الحضاري، والإشراقة العلمية؟
السر كامن في المبادئ التي انطوت عليها شريعة الإسلام الخالدة:
(أ) ذلك لأن الإسلام روح ومادة، ودين ودنيا فلعباداته، ومعاملاته، وتشريعاته الاجتماعية، وأحكامه الدنيوية.. آثار واضحة في بناء الحضارة الإنسانية، وشعاره في ذلك قوله تعالى:
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} القصص: 77.
وقوله: {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} الجمعة: 10.
(ب) ولأنه يدعو إلى المساواة والإنسانية، ليساهم في بناء الحضارة الإنسانية كل من ينضوي تحت راية الإسلام بغض النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم...
وشعاره في ذلك قوله تبارك وتعالى:
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} الحجرات: 13.
(ج) ولأنه دين الانفتاح والتعارف إلى كل الأمم والشعوب، وشعاره في ذلك قوله تبارك وتعالى:
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} الحجرات: 13.
وبناء على هذا النداء انفتح المسلمون على غيرهم، واستفادوا من حضارات الأمم، فتكونت لديهم خبرات واسعة في شتى المجالات الصناعية والتجارية والزراعية والفنية.. فصهروها في بوتقة الإسلام، فجاءت الحضارة فيما بعد مطبوعة بطابعه، وممهورة بخاتمه.
(د) ولأنه دين مستمر متجدد على أرقى ما يكون من النظم والأحكام والمبادئ.. وحسبه شرفاً وخلوداً أنه تنزيل رب العالمين، وتشريع أحكم الحاكمين، وأنه يفي بحاجات البشرية في كل زمان ومكان، ويمد الإنسانية بتشريعات حيوية راقية متكاملة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وشعاره في ذلك قوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} المائدة: 50.
ويكفي هذا الإسلام فخراً وخلوداً أن يشهد عظماء الغرب على عظمته وحيوية تشريعه.. وإليكم ما قاله الفيلسوف الإنكليزي (برناردشو): (لقد كان دين محمد موضع تقدير سام، لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة.. أرى واجباً أن يُدعى محمد منقذ الإنسانية، وإنّ رجلا كشاكلته لو تولّى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته).
ويقول الدكتور (ايزكو انساباتو): (إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية، بل هي التي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً).
ويقول العلامة (شبرل) عميد كلية الحقوق بجامعة (فينا) في مؤتمر الحقوق سنة (1927م): (إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد (صلى الله عليه وسلم) إليها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون، لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة)!!..
جاء النبيون بالآيات فانصرفت
وجئتنا بجديد غير منصرم
آياته كلما طال المدى جُدُد
يزينهن جمال العِتْقِ والقِدم
(هـ) ولأنه دين يجعل التعليم منذ الصغر إلزاميّاً ومجانيّاً دون أن يكون تمييز بين العلوم الشرعية والعلوم الكونية إلا من ناحية الحاجة والكفاية والاختصاص..
أما أن الإسلام دين يجعل التعليم إجباريّاً وإلزاميّاً فللأحاديث التالية:
- روى ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم"، ولفظ المسلم في الحديث عام يشمل الذكر والأنثى على السواء.
- وروى الطبراني في الكبير عن علقمة عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيراً ثم قال: "ما بال أقوام لا يفُقِّهونَ جيرانهم ولا يعلمونهم، ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتعظون، والله ليعلمنّ قوم جيرانهم، ويفقهونهم، ويعظونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلمنّ قوم من جيرانهم، ويتفقهون، ويتعظون، أو لأعاجلنّهم العقوبة".
- وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كتم علماً ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
فإذا كان طلب العلم – في نظر الإسلام – فريضة على المسلم والمسلمة.. وإذا كان المستنكف عن تعلم العلم أو تعليمه مهددا – من قبل الشرع – بالعقوبة.. وإذا كان من يكتم العلم النافع ملجماً بلجام من نار يوم القيامة.. أفلا يدل كل هذا على أن الإسلام دين يجعل تعلم العلم أو تعليمه واجباً إلزامياً؟!..
أما أن الإسلام دين يجعل التعليم بكل اختصاصاته مجانيّاً فللمواقف التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم في مجانية التعليم، وتحذيره الشديد من أخذ الأجر على التعليم لأصحابه.
فقد ثبت تاريخيّاً أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يتقاضى على دعوته وتعليمه من أحد أجراً، ومبدأه ومبدأ الرسل من قبله قوله تعالى:
{وما أسألكم عليه من أجر إنْ أجري إلا على رب العالمين} الشعراء: 109.
وثبت تاريخيّاً كذلك أن مصعب بن عمير الذي أرسله عليه الصلاة والسلام داعياً ومعلماً إلى المدينة، ومعاذ بن جبل الذي أرسله إلى اليمن، وجعفر بن أبي طالب الذي أرسله إلى الحبشة.. وعشرات غيرهم كانوا لا يتقاضون من أحد أجراً.
ومن تحذيره عن أخذ الأجر أن عبادة بن الصامت رضي الله عنه – كما روى أبو داود عن أبي شيبة – قال: "علّمْتُ ناساً من أهل الصُفّة الكتاب والقرآن، فأهدى لي رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتينّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنّه، فأتيته، فقلت: يا رسول الله! رجل أهدى لي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب أن تكون طوقاً من النار فاقبلها".
وثبت تاريخيّاً أيضاً أن أبناء المسلمين الذين كانوا يؤمّون المساجد، والمدارس.. للعلم والتعلم كانوا لا يبذلون في سبيل تعليمهم أجراً!!، بل كانوا يدرسون في بعض العصور على حساب الدولة.. ولقد كان علماء السلف يحذّرون من يتصدى للإرشاد والتعليم في أن يأخذ على تعليمه أجراً، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (على المعلم أن يقتدي بصاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه، فلا يطلب على إفادة العلم أجراً، ولا يقصد به جزاء ولا شكوراً، بل يُعلّمُه لوجه الله تعالى وطلباً للتقرب إليه)، قال سبحانه على لسان أحد أنبيائه:
{ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله} هود: 29.
نستنتج من ذلك كله أن الإسلام سنّ مجانية التعليم سواء على صعيد الدولة، أو على صعيد الأفراد حيث يقصد من يتصدى للتعليم في عمله وجه الله، والتقرب إليه، ابتغاء مرضاته.. وكان من نتيجة ذلك أن أقبل الناس على العلم والتعلم بشكل لا نظير له في تاريخ البشرية.. يقول أحد المفكرين: (إن الدولة الإسلامية سبقت العالم كله في نشر التعليم مجاناً للمواطنين جميعاً بلا تمييز أو محاباة، فكانت المدارس مفتوحة على مصاريعها للشعب جميعاً في المسجد، ودور العلم، والأماكن العامة.. في كل البلاد التي دخلت الإسلام، ومن بقايا ذلك التعليم الحر المباح التعليم المجاني القائم بالأزهر الشريف، وبكلية دار العلوم، وجميع المدارس الشرعية.. فالطلاب يمنحون فيها إعانات مالية لتوفير الغذاء لهم مما تعمل الدول الآن على تعميمه في أرجائها)[2].
بقي السؤال إذا كان المعلم متفرغاً للتعليم، وليس عنده مورد آخر يتكسّب منه هل يجوز له أن يأخذ أجراً على تعليمه؟ لاشك أن المعلم حينما يكون متفرغاً للعلم والتعليم، وحينما لا تتيسر له الأسباب في الحصول على بُلْغة العيش، وحينما تتساهل الدولة، أو يتساهل المجتمع في كفايته وكفالته.. فإنه يجوز أن يأخذ على تعليمه أجراً يحقق له كرامة النفس، وبُلْغة الحياة.. وإلى هذا يشير الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: (وكذلك للمدرس أن يأخذ ما يكفيه ليفرّغ قلبه عن المعيشة، وليتجرد لنشر العلم، فيكون مقصوده نشر العلم، وثواب الآخرة، ويأخذ الرزق بُلْغة ميسِّرة للمقصود).
قال أبو الحسن – كما روى القابسي - : وقد مرت بي حكاية تذكر عن ابن وهب أنه قال: كنت جالساً عند مالك فأقبل إليه معلم الكُتّاب، فقال له: يا أبا عبد الله! إني رجل مؤدّب الصبيان، وإنه بلغني شيء، فكرهت أن أشارط (أي على الأجر) وقد امتنع الناس عليّ، وليسوا يعطونني كما كانوا يعطون، وقد اضطررت بعيالي وليس لي حيلة إلا التعليم. فقال له مالك: اذهب وشارِطْ، فانصرف الرجل، فقال له بعض جلسائه: يا أبا عبد الله! تأمره أن يشترط على التعليم؟ فقال لهم مالك: نعم فَمَن يُمَحِّطُ (أي يصلح) لنا صبياننا؟ ومن يؤدبهم لنا؟ لولا المعلمون أي شيء كنا نكون نحن؟
ويزيد الأمر تأكيداً، هذا العصر الذي كثر شره، وتضافرت المخططات الاستعمارية فيه لطمس معالم الإسلام!!.. لذا وجب على الآباء والمربين أن يحرصوا على تعليم أولادهم ولا سيما علم التوحيد والعقيدة، وتلاوة القرآن، وسائر العلوم الشرعية لأنه مالا يتمّ الواجب إلا به فهو واجب، وإذا لم يختاروا لأولادهم المعلمين – ولو بالأجر – فإن الأولاد سينشؤون على الإلحاد والجهل والتحلل والإباحية..
وقديماً قال ابن مسعود رضي الله عنه – كما روى ابن سحنون عن سفيان الثوري – "ثلاث لابد للناس منهم: من أمير يحكم بينهم، ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضاً، ولابد للناس من شراء المصاحف وبيعها، ولولا ذلك لبطل كتاب الله، ولابد للناس من معلم يعلم أولادهم، ويأخذ على ذلك أجراً، ولولا ذلك كان الناس أميين...".
ونضيف شيئاً آخر يتماشى مع هذا الزمن الذي نعيشه، لابد للناس من معلم يعلم أولادهم مسائل العقيدة، ومبادئ الأخلاق، ووقائع التاريخ، وتلاوة القرآن.. ولولا ذلك لكان الأولاد ملحدين ضالين، سواء أكان هذا التعليم بأجر أم بغير آجر!!..
ويشهد لهذه الملابسة الضرورية في أخذ الأجر ملابسة وقعت لبعض الصحابة في سفرة سافروها، فنزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد ذلك الحي، فسعوا إليه بكل شيء فقال بعضهم: لو أتيتم هذا الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لُدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم، فلم تضيفونا، فما أنا براقٍ حتى تجعلوا لنا جُعْلاً (أي أجراً)، فصالحهم على قطيع من الغنم، فانطلق ينْقُل عليه ويقرأ: الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عِقال، فانقلب يمشي وما به قُلْبَة (أي مرض)، فقال: فأوفوهم جُعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقسِموا. قال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له فقال: "وما يدريك أنها رقية.. ثم قال: قد أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم، قال البخاري: وقال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"[3].
فالملابسة على جواز أخذ الأجر في هذا الحديث تتعلق بعدة وجوه:
1- الصحابة في سفرهم هذا كانوا جياعاً وبحاجة إلى الطعام، بدليل أنهم استضافوا الحي من العرب فلم يضيفوهم.
2- سياق الحديث يدل على أن الحي من العرب لم يكن مسلماً بدليل أنهم لم يضيفوهم، وأحكام دار الحرب[4] تختلف عن أحكام دار الإسلام.
3- الأجر الذي صالح عليه الصحابة هو مقابل ما طلبه رجال الحي لسيدهم من العلاج والاستشفاء لا أخذاً للأجرة على تعليم القرآن.
لهذه الملابسات جميعها أجاز لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الأجر، وقد قال لهم تلطيفاً وتكريماً: "أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله" أي أحق ما أخذتم عليه أجراً في معالجة الملدوغ هو الرقية بكتاب الله عز وجل.
والذي نخلص إليه بعد ما تقدم أن الشريعة الإسلامية لا تجيز في الأصل أخذ الأجرة على التعليم، اللهم إلا إذا كانت هناك ملابسة ضرورية على أخذ الأجرة، كأن يكون المعلم متفرغاً للعلم، ولم يكن له مورد من الكسب سوى التعليم، أو كانت حالة الأولاد تستدعي أن يُفرّغ لهم أولياؤهم مؤدبين يحْفظونهم من عقائد الإلحاد والكفر، وينشِّؤونهم على مبادئ الإسلام والتربية الفاضلة، فلهذه الملابسات وغيرها أجازت الشريعة أخذ الأجرة على التعليم سواء أكان التعليم شرعيّاً أو كان كونيّاً والله أعلم.
(و) ولأنه دين يقسم فريضة التعليم إلى فريضة عينية وفريضة كفائية، وفي ذلك تفصيل:
- فإن كان تحصيل العلم مما له علاقة في تكوين الفرد المسلم روحياً، وعقلياً، وجسمياً وخلقياً.. فهو من قبيل فرض العين بالمقدار الذي يحتاج إليه، ويندرج تحت شعار هذه الفريضة المرأة والرجل، والصغير والكبير، والعامل والموظف.. وجميع طبقات الأمة المسلمة...
وبناء على هذا فإن تعلم تلاوة القرآن، وأحكام العبادات، ومبادئ الأخلاق الأساسية، ومسائل الحلال والحرام، وقواعد الصحة العامة، وكل ما يحتاجه المسلم في أمر دينه ودنياه هو فرض عيني على كل مسلم ومسلمة في هذه الحياة.
- فإن كان تحصيل العلم مما له علاقة بالزراعة، والصناعة، والتجارة، والطب، والهندسة، والكهرباء، والذرة، ووسائل الدفاع، وغيرها من العلوم النافعة.. فهو من قبيل فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الجميع، وإذا لم يقم به أحد فالمجتمع الإسلامي كله آثم ومسؤول.
هذا هو السر في قوة الدفع الحضارية والعلمية في بناء الحضارة الإنسانية، وهذا مما يؤكد عظمة الإسلام، ومنافسته لروح العصر والتطور، واختصاصه بمقومات الخلود والتجدد والاستمرار..
وأما ما نراه اليوم من ضعف علمي وتخلف حضاري.. فيعود إلى جهل المسلمين بحقيقة الإسلام العظيم، وإلى إبعاد الإسلام عن تطبيق أنظمته في كل مجالات الحياة، وإلى تآمر أعداء الإسلام في طمس معالم الإسلام، وفصل الدين عن الدولة، وحصر النظام الإسلامي في أمور العبادة، وقضايا الأخلاق!!..
ويوم يفهم المسلمون حقيقة الإسلام، ويوم يطبقون نظامه الشامل في شتى مجالات الحياة، ويوم ينتبهون إلى المؤامرات التي يحيكها الأعداء والعملاء.. فعندئذ يستعيدون مكانتهم تحت الشمس، ويرجعون هداة مرشدين، بل خير أمة أخرجت للناس..
{وأنَّ هذا صِراطي مستقيماً فاتبعون ولا تتبعوا السُبُل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون} الأنعام: 153.
ومن الواجب التعليمي الذي يجب أن يحرص عليه المربون والمعلمون والآباء.. هو التركيز في الدرجة الأولى على تعليم الأولاد – وهم في سن التمييز – تلاوة القرآن الكريم، والسيرة النبوية، وكل ما يحتاجون إليه من العلوم الشرعية، وبعض القصائد الأدبية، وأمثال العرب.. امتثالاً لأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبراني: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظلّ عرش الله يوم لا ظلّ إلا ظلّه".
فانطلاقاً من هذا الأمر النبوي حرص المسلمون في كل العصور عبر التاريخ على تعليم أبنائهم هذه العلوم الأساسية، والمواد الضرورية..
وإليكم طرفاً من أقوالهم، وطاقات تدلّ على حرصهم وعنايتهم:
- وصى عتبة بن أبي سفيان عبد الصمد مؤدب ولده بأن يعلمه كتاب الله، ويروّيه من الشعر أعفّه، ومن الحديث أشرفه.
- وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الولاة ما يلي: (أما بعد فعلّموا أولادكم السباحة والفروسية، وروّوهم ما سار من المثل، وحَسُن من الشعر).
وذات مرة رأى المفضل بن زيد.. ابن أعرابية مسلمة، فأعجب بمنظره، فسألها عنه فقالت: (إذا أتمّ خمس سنوات أسلمتُه إلى المؤدّب، فحفّظه القرآن فتلاه، وعلمه الشعر فرواه، ورغب في مفاخرة قومه، وطلب مآثر آبائه وأجداده، فلما بلغ الحلُم حملته على أعناق الخيل فتمرّس وتفرّس، ولبس السلاح، ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ).
- وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (من تعلم القرآن الكريم عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في اللغة رقّ طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه).
- وقد أوصى الإمام الغزالي في إحيائه: (بتعليم الطفل القرآن الكريم، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم، ثم بعض الأحكام الدينية، والشعر الخالي من ذكر العشق وأهله).
- وقد ذكر ابن سينا في كتاب السياسة آراء ثمينة في تربية الأولاد ونصح بالبدء بتعليم الطفل القرآن الكريم بمجرد استعداده جسميّاً وعقليّاً للتعليم، وفي الوقت نفسه يتعلم حروف الهجاء والقراءة والكتابة، ويدرس قواعد الدين، ثم يروي الشعر، ويبتدئ بالرجز ثم القصيدة..
- وقد أشار ابن خلدون إلى أهمية تحفيظ القرآن الكريم، وأوضح أن تعليم القرآن هو أساس التعليم في جميع المناهج الدراسية في مختلف البلاد الإسلامية، لأنه شعار من شعائر الدين الذي يؤدي إلى رسوخ الإيمان.
ومن طريف ما يروى – كما جاء في كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة - : (أن رجلا من ثقيف دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال له الوليد: أقرأت القرآن؟ قال الأعرابي: لا يا أمير المؤمنين شغلتني عنه أمور وهنات.
قال الوليد: أفتعرف الفقه؟ قال الأعرابي: لا. قال الوليد: أفرويت من الشعر شيئاً؟ قال الأعرابي: لا.
فأعرض الوليد عن الأعرابي، فقال أحد الجالسين – وهو عبد الله بن معاوية - : يا أمير المؤمنين – وأشار إلى الرجل - . قال الوليد: اسكت فما معنا أحد[5].
ويقصد الوليد من كلامه (اسكت فما معنا أحد) أن الذي لم يقرأ القرآن، ولم يعرف الفقه، ولم يرو الشعر، ولم يدرس الدين.. يكون كالعدم لا وجود له ولا اعتبار، وإن كان موجوداً بشخصه وحاضراً بذاته!!..
ومن القواعد التي وضعها الإسلام في تعليم الولد.. البدء بتعليمه في مراحل الطفولة الأولى حيث يكون الولد أصفى ذهناً، وأقوى ذاكرة، وأنشَط تعليماً..
وإلى هذا أشار المعلم الأول صلوات الله وسلامه عليه بقوله في الحديث الذي رواه البيهقي والطبراني في الأوسط عن أبي الدرداء مرفوعا: "العلم في الصّغر كالنقش في الحجر"، وقد أثبت علم التربية الحديث هذه الظاهرة وأكدها.
وما أحسن ما قال بعضهم:
أرانيَ أنسى ما تعلمت في الكِبَرْ
ولست بناسٍ ما تعلّمُت في الصِّغرْ
وما العلم إلا بالتعلّم في الصبا
وما الحلم إلا بالتحلّم في الكبر
ولو فُلق القلب المعلَّم في الصبا
لأصبح فيه العلم كالنقش على الحجر
وما العلم بعد الشيب إلا تعسّف
إذا كَلَّ قلب المرء والسمع والبصر
وما المرء إلا اثنان عقل ومنطق
فمَنْ فاتَه هذا وهذا فقد دَمَرْ
فما حظ المرأة من تعلم هذه العلوم؟
لقد أجمع العلماء والفقهاء سلفاً وخلفاً أن ما يجب تعلمه على سبيل فرض العين فالمرأة فيه كالرجل على حد سواء وذلك لسببين:
الأول: المرأة كالرجل في التكاليف الشرعية.
والثاني: المرأة كالرجل في نيل الجزاء الأخروي.
o أما أن المرأة كالرجل في التكاليف الشرعية فلأن الإسلام كلفها بكل التكاليف التي كلف بها الرجل من صلاة وصيام، وزكاة وحج، وبرّ وعدل وإحسان.. وبيع وشراء ورهن وتوكيل.. وأمر بمعروف ونهي عن منكر.. وغير ذلك من هذه الأعباء والمسؤوليات اللهم إلا في بعض حالات خاصة أعفاها منها:
- إما لوجود المشقة والإخلال بالصحة كإعفائها من الصوم والصلاة في أيام الحيض والنفاس.
- وإما لكون الأعباء والأعمال لا تتفق مع تكوينها الجسماني وطبيعة أنوثتها كأن تمارس عمليات القتال أو تكون بنّاءة وحدّادة..
- وإما أن يكون العمل الذي تزاوله يتعارض مع وظيفتها الطبيعية التي خلقت من أجلها كالقيام بمسؤوليات الأسرة، وتربية الأولاد، والإشراف على البيت..
- وإما أن يترتب على عملها فساد اجتماعي خطير كأن توجد في وظائف وأعمال يختلط فيها الرجال بالنساء..
أما ما عدا ذلك من الأعمال والتكاليف والواجبات فهي كالرجال سوءا بسواء.
وفي تقديري وتقدير ذوي البصائر النيرة أن هذه الإعفاءات للمرأة تقدير لها ورفع لكرامتها ومنزلتها.
وإلا فمن يرضى أن يزجَّ المرأة بأعمال تقعدها عن واجباتها تجاه زوجها وبيتها وأولادها؟
ورحم الله شوقي حين قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هوالذي تلقى له
أمّاً تخلّت أو أباً مشغولا
ومن منا يرضى أن يزجّ المرأة بأعمال شاقة ترهق جسمها، وتفقدها أنوثتها، وتسبب لها الأمراض والعاهات؟
ومن منا يرضى أن يزج المرأة في وظائف مختلطة تكون سبباً في تلوث عرضها، وتدنيس شرفها؟
وهل شيء أغلى على المرأة من العرض والشرف، وكيف تكون تربية الأولاد إذا درجت المرأة في الفساد، وسارت في طريق الفحشاء؟.. رحم الله من قال:
وليس النبتُ ينبت في جنانٍ
كمثل النبت ينبت في الفلاة
وهل يُرجى لأطفال كمال
إذا ارتضعوا ثُدَيَّ الناقصات
وإليكم ما يقوله فلاسفة الغرب حول خروج المرأة، وعملها خارج المنزل:
v قال العلامة الإنكليزي (سامويل سمايلس) في كتابه (الأخلاق): (إن النظام الذي يقضي بأن تشتغل المرأة في المعامل ودور الصناعات مهما نشأ عنه من الثروة. فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل، وقوّض أركان العائلة، ومزق الروابط الاجتماعية.. لأن وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية: كترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام بالاحتياجات العائلية.. ولكن المعامل سلختها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير المنازل، وأضحى الأولاد يشبّون على غير التربية الحقيقية لكونهم يُلقون في زوايا الإهمال، وأطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة، والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق، وباتت عرضة للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والخُلقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة..).
v وجاء في مجلة (شجرة الدر) في الجزء السادس من السنة الأولى عن الكاتبة الإنكليزية (مس أني رود) ما نصه: (إذا اشتغلت بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم فهو خير، وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد.. ياليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث فيها الحشمة والعفاف والطُّهر.. وحيث المرأة تنعم بأرغد عيش، وبصيانة العِرض والشرف..
نعم إنه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مُثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية – كما قضت بذلك الديانات السماوية – من ملازمة البيت، وترك أعمال الرجال للرجال، وفي ذلك سلامة لشرفها..).
o أما أن المرأة كالرجل في نيل الجزاء الأخروي فحسبنا أن نتصفح القرآن العظيم، لننظر الآيات المستفيضة التي تسوي المرأة بالرجل في نيل الأجر والثواب.. وإليكم طرفاً من هذه الآيات:
- {فاستجاب لهم ربُّهم أني لا أُضيع عملَ عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض، فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقُتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهارُ ثواباً من عند الله والله عنده حُسْنُ الثواب} آل عمران: 195.
- {ومن يعلم من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً} النساء: 124.
- {إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيما} الأحزاب: 35.
ومما يدل على أن المرأة كالرجل في نيل الأجر والمثوبة لا تتميز عنه بشيء، ما رواه عبد البر في الاستيعاب ومسلم في صحيحه أن أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رسولُ مَن ورائي من جماعة نساء المسلمين، كلهن يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي: إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنّا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات مخدّرات قواعد بيوت، وأن الرجال فُضِّلوا بالجُمعات وشهود الجنائز والجهاد، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم وربَّينا أولادهم، أفنشاركهم في الأجر يا رسول الله؟
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه إلى أصحابه فقال: "هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالا عن دينها من هذه؟"، فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصرفي يا أسماء، وأعلمي مَن وراءك من النساء أن حُسْنَ تبعّل إحداكنّ لزوجها، وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته يعدل كل ما ذكرت"، فانصرفت أسماء وهي تهلّل وتكبِّر، استبشاراً بما قال لها عليه الصلاة والسلام.
فتبين من هذا الحديث النبوي الشريف أن الأجر الذي تناله المرأة في ترتيب مسكنها، وطاعة زوجها، وتربية أولادها.. يعدل أجر الرجل في جهاده واختصاصه..
ومما يدل على أن الإسلام اعتنى بالبنت من ناحية تعليمها هذه الأحاديث النبوية الصحيحة:
- روى الترمذي وأبو داود واللفظ له أنه عليه الصلاة والسلام قال: "من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات، أو بنتان أو أختان فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة"، وفي رواية: "وأيما رجل كانت عنده وليدة (أي أمة) فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران".
وقد ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص النساء بأيام يعلمهن فيها مما علمه الله، وذلك لما جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتي فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "اجتمعن يوم كذا وكذا"، فاجتمعن فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله.
- وجاء في فتوح البلدان للبلاذري أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب – رضي الله عنهما – كانت تتعلم الكتابة في الجاهلية على يد امرأة كاتبة تدعى (الشفاء العدوية) فلما تزوجها عليه الصلاة والسلام طلب إلى الشفاء أن تعلمها تحسين الخط وتزيينه كما علمتها أصل الكتابة.
والذي نخلص إليه من هذه النصوص أن الإسلام أمر بتعليم الفتاة العلم النافع، والثقافة المفيدة.. وإذا وجد من العلماء قديماً من يمنع تعليم المرأة، فيكون المنع منصبّاً على تعلم الشعر الفاحش، والكلام الفارغ، والأدب الرخيص، والعلم الضار.. أما أن تتعلم العلوم التي تنفعها في دينها ودنياها، وأن تقول الشعر الحكيم الرصين، والكلام المحكم المجيد.. فلا يوجد من يَنْهى عن ذلك ويمنعه!!..
جاء في مقدمة كتاب المعلمين لابن سحنون: (أن القاضي الورع عيسى بن مسكين كان يُقرئ بناته وحفيداته.. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله فاتح صقيلة (أسد بن الفرات) بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.. وروى الخُشني أن مؤدباً كان بقصر الأمير محمد بن الأغلب، وكان يعلم الأطفال بالنهار، والبنات في الليل..).
وقد ثبت تاريخيّاً أن المرأة في ظل الإسلام وصلت إلى أسمى درجات العلم والثقافة، ونالت أكبر قسط من التربية والتعليم في العصور الإسلامية الأولى..
فكان من النساء المسلمات الكاتبة والشاعرة كأمثال عُلَيّة بنت المهدي وعائشة بنت أحمد بن قادم، وولاّدة بنت الخليفة المستكفي بالله..
وكان منهن الطبيبة كأمثال زينب طبيبة بني أوَد التي عرفت بعلاج أمراض العيون، وأم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي وقد كانت طبيبة شهيرة مبرزة في الطب..
وكان منهن المحدّثات كأمثال كريمة المروزية، والسيدة نفيسة ابنة محمد، وقد ذكر الحافظ ابن عساكر – وهو أحد رواة الحديث – أن عدد شيوخه وأساتذته من النساء كان بضعاً وثمانين أستاذة.
وبلغت كثيرات منهن منزلة علمية رفيعة فكان منهن الأستاذات والمدرسات للإمام الشافعي، والإمام البخاري، وابن خلكان، وابن حبان.. وجميعهم من الفقهاء والعلماء والأدباء المشهورين.. وهذا أكبر دليل على ما تمتاز به التربية الإسلامية من العناية بالعلم والنبوغ الفكري، والثقافة الإسلامية المتنوعة..
وإذا كان الشرع أذن للمرأة أن تتعلم ما ينفعها في أمر دينها ودنياها.. فيجب أن يكون هذا التعليم بمعزل عن الذكور، وبمنأى عنهم.. حتى يسلم للبنت عرضها وشرفها، وحتى تكون دائماً حسنة السمعة، كريمة الخلق، كثيرة الاحترام..
ولعل أول كاتب تربوي نادى بالفصل بين الجنسين في حقل التعليم وغيره هو الإمام القابسي، فقد ذكر في رسالته عن التعليم (أن من حسن النظر ألاّ يخلط بين الذكران والإناث)، ولما سئل (ابن سحنون) عن التعليم المختلط ذكوراً وإناثاً فقال: (أكره أن يُعلّم الجواري مع الغلمان لأن ذلك فساد لهن).. وإذا كان ابن سحنون والقابسي يريان أن تُفصل البنات عن الصبيان خشية الفساد – فرأيهما هذا في الحقيقة – مستمد من حكم الشرع، وحكم الشرع مقدم على كل أمر وحكم في هذه الحياة لقوله تعالى:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} الأحزاب: 36.
قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهُنّ من وراء حجاب} الأحزاب: 53.
وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين.. فالعبرة – كما يقول الأصوليون – لعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب، فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولى، وهذا ما يسمى بالمفهوم الأولوي عند الفقهاء وعلماء الأصول.
- وقال عز من قائل: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضُضْن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن..} النور: 31. فإذا كان الأمر – في هذه الآية – يشمل غضّ البصر، ووضع الخمار على الرأس وفتحة الصدر، وعدم إبداء الزينة والمفاتن إلا للمحارم.. أفليس يدل هذا الشمول على أن المرأة المسلمة مأمورة بالستر والحشمة والعفة وعدم الاختلاط بالأجانب؟
- وقال سبحانه: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً} الأحزاب: 59.
فكيف نتصور اختلاط المرأة بالأجنبي والمرأة المسلمة في هذه الآية مأمورة بالحجاب، وارتداء الجلباب؟
- وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما خلا رجل بامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما.. وروى البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله! أفرأيت الحمو (أي أقارب الزوج)؟، قال الحمو الموت".
فهذه النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية تحرم اختلاط الرجال بالنساء بشكل قاطع جازم لا يحتمل الشك ولا الجدل!!..
فالذين يبيحون الاختلاط، ويبررونه بتعويدات اجتماعية، ومعالجات نفسية وحجج شرعية، فإنهم في الواقع يفترون على الشرع، ويتجاهلون الفطرة الغريزية، ويتجاهلون الواقع المرير الذي آلت إليه المجتمعات الإنسانية قاطبة..
• أما أنهم يفترون على الشرع – في دعواهم إلى الاختلاط - .. فللنصوص الكثيرة التي سبق ذكرها قبل قليل.
• أما أنهم يتجاهلون الفطرة الغريزية.. فلأن الله سبحانه لما خلق الرجل والمرأة ركّب في كل منهم الميل الجنسي إلى الآخر.
{فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} الروم: 30.
فهل يريد دعاة الاختلاط والسفور أن يغيّروا نواميس الكون، وأن يبدلوا فطرة الإنسان، وأن يحوّلوا سنن الحياة، ولا سيما إذا كان كل من الرجل والمرأة – في حال اختلاطهما – جائعين جنسيّاً، وما ئعين خلقيّاً، فإن الفتنة – لا شك – أشد، والانجذاب إلى الفاحشة أبلغ وأقوى!!..
ولو كان الاختلاط منذ الصغر، وفي جميع مراحل العمر يجعل النظر إلى المرأة أمراً مألوفاً عاديّاً لا يحرك في نفسي الرجل والمرأة غريزة ولا شهوة.. لانقلبت المودة بين الزوجين إلى عداوة، والرحمة بينهما إلى ظلم، والاتصال الجنسي إلى برود.. ولما رضي أحدهما البقاء مع الآخر في ظلال الزوجية، وهذا خلاف المُشاهَد والواقع!!..
• أما أنهم يتجاهلون الواقع المرير الذي آلت إليه المجتمعات الإنسانية في تجربتها للاختلاط.. فليسألوا مجتمعات الدول الغربية والشرقية عما وصلت إليه المرأة من تحلل وفساد، وإباحية وفجور.. علما أن الاختلاط أمر شائع في كل الطبقات وعلى مختلف المستويات: في الشارع، في المدرسة، في المتجر، في الدائرة، في الجامعة، في المنتزّهات.. في كل مكان..
وإليكم شيئاً من واقعهم: ونتائج من تجاربهم بالواقع والأرقام:
فمن هذه الوقائع:
• جاء في كتاب (الإسلام والسلام العالمي) للشهيد سيد قطب: (أن نسبة الحُبالى من تلميذات المدارس الثانوية في أمريكا بلغت في إحدى المدن (48) في المائة).
• ونقلت جريدة الأحد اللبنانية في العدد ذي الرقم (650) عن الفضائح الجنسية في الجامعات والكليات الأمريكية ما يلي:
- (الفضائح الجنسية في الجامعات والكليات الأمريكية بين الطلاب والطالبات تتجدد وتزداد كل عام).
- (الطلاب يقومون بمظاهرة في جامعات أمريكا يهتفون فيها نريد فتيات.. نريد أن نرفه عن أنفسنا).
- هجوم ليلي من الطلاب على غرف نوم الطالبات، وسرقة ثيابهن الداخلية).
- وقال عميد الجامعة معقباً على الحدَث: (إن معظم الطلاب والطالبات يعانون جوعاً جنسيّاً رهيباً، ولاشك أن الحياة العصرية الراهنة لها أكبر الأثر في تصرفات الطلاب الشاذة).
- ومما ذكرته الجريدة كذلك: (ودلت الإحصائيات في العام الماضي على أن (120) ألف طفل أنجبتهم فتيات بصورة غير شرعية لا تزيد أعمارهن على العشرين، وأن كثيرات منهن من طالبات الجامعات والكليات..).
- واستطردت الجريدة قائلة: (وقال تقرير للشرطة في ولاية (بروفيدنس) أن (66) طالباً وطالبة قضوا في أيار الماضي عطلة نهاية الأسبوع في (رودايلند) ولم يعد الطلاب إلى الجامعة، بل إلى سجن الولاية، حيث اعتقلوا وهم في أوضاع مريبة وبعضهم كان يتعاطى المخدرات..).
- ونقلت الجريدة عن المربية الاجتماعية (مرغريت سميث) حديثاً قالت فيه: (أن الطالبة لا تفكر إلا بعواطفها، والوسائل التي تتجاوب مع هذه العاطفة.. إن أكثر من ستين بالمائة من الطالبات سقطن في الامتحانات، وتعود أسباب الفشل إلى أنهن يفكرن في الجنس أكثر من دروسهن وحتى مستقبلهن.. وإن (10) بالمائة منهن فقط مازلن محافظات..).
• وذكر (جورج بالوشي) في كتابه (الثورة الجنسية) ما يلي: (وفي سنة 1962م صرح (كيندي) بأن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات لا يقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين، لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية). وفي سنة 1962 صرّح (خروشوف) – كما صرح كيندي – بأن مستقبل روسيا في خطر، وأن شباب روسيا لا يؤتمن على مستقبلها، لأنه مائع منحل غارق في الشهوات).
• ويقول (ديل دورانت) في كتابه (منهاج الفلسفة).
- (إننا نواجه مرة أخرى تلك المشكلة التي أقلقت بال (سقراط) نعني كيف نهتدي إلى أخلاق طبيعية تحل محل الزواجر العلوية التي بطل أثرها في سلوك الناس؟ إننا نبدد تراثنا الاجتماعي بهذا الفساد الماجن).
- (واختراع موانع الحمل وذيوعها هو السبب المباشر في تغير أخلاقنا، فقد كان القانون الأخلاقي قديماً يقيد الصلة الجنسية بالزواج.. لأن النكاح يؤدي إلى الأبوة بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولم يكن الوالد مسؤولا عن ولده إلا بطريق الزواج.. أما اليوم فقد انحلت الرابطة بين الصلة الجنسية وبين التناسل، وخلقت موقفاً لم يكن آباؤنا يتوقعونه، لأن جميع العلاقات بين النساء والرجال آخذة في التغير نتيجة هذا العامل..).
- (.. غير أنه من المخجل أن نرضي في سرور نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، وهي تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوف، تلك التي تحاول كسب المال باستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين من (حصن) الزواج ورعايته للصحة).
- (.. فكل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر، ويجد الرجل لإرضاء غرائزه الخاصة في هذه الفترة من التأجيل، نظاماً دوليّاً مجهزاً بأحدث التحسينات، ومنظماً بأسمى ضروب الإدارة العلمية، ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها..).
- (وأكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم دارون على المعتقدات الدينية، وحين اكتشف الشبان والفتيات أن الدين يشهّر بملاذهم التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين..).
- (... ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة (الجنسية)، وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم، وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعاً للسخرية، ويختفي الحياء الذي كان يضفي على الجمال جمالا، ويفاخر الرجال بتعداد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة على قدم المساواة مع الرجال ويصبح الاتصال قبل الزواج أمراً مألوفاً، وتختفي البغايا (أي الزانيات بأجر) من الشوارع بمنافسة الهاويات (أي الزانيات بدافع الهوى) لا برقابة البوليس..)[6].
• ونقلت أخبار اليوم القاهرية في 24/01/1965م هذا الخبر: (خرجت النساء السويديات في مظاهرة عامة تشمل أنحاء السويد احتجاجاً على إطلاق الحريات الجنسية في السويد.. اشتركت في المظاهرات مائة ألف امرأة).
ونقلت كذلك أنه في شهر نيسان عام (1964) (أثيرت في السويد ضجة كبرى عندما وجه (140) طبيباً من الأطباء المرموقين مذكرة إلى الملك والبرلمان يطلبون فيها اتخاذ إجراءات للحد من الفوضى الجنسية التي تهدد حقّاً حيوية الأمة وصحتها، وطالب الأطباء بسّن قوانين ضد الانحلال الجنسي..).
- يكتب القاضي (بن لندسي) في كتابه (تمرد النشء الجديد): (أن الصبية في أمريكا قد أصبحوا يراهقون قبل الأوان، ومن السن الباكرة جداً يشتد فيهم الشعور الجنسي..). وبحث هذا القاضي عن أحوال /312/ صبية على سبيل النموذج، فعلم أن /255/ صبية منهن كن أدركن البلوغ فيما بين الحادية عشرة، والثالثة عشرة من سني أعمارهن، يوجد فيهن من أمارات الشهوة الجنسية، والمطالب الجسدية ما لا يكون عادة إلا في بنات الثامنة عشر فما فوق.
- ويذكر الدكتور (أديث هوكر) في كتابه (القوانين الجنسية): (أنه ليس من الغريب الشاذ حتى في الطبقات المثقفة أن بنات سبع أو ثماني سنين يخادن الصبية، وربما تلوثن معهم بالفاحشة..) وذكر أمثلة كثيرة على دعواه!!.
- ومما نشرته الصحف البريطانية أن مدرسة شابة في الخامسة والعشرين من عمرها كانت تدرس لمجموعة من الطلاب المراهقين ممارسة الجنس عمليا، وقد شوهدت وهي تخلع ثيابها قطعة قطعة أمام طلابها.. وهكذا حتى انتهت من عمليتها الإباحية الفاجرة!!.
- ونشرت صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية في عددها الصادر 15/07/1979 أن (75%) من الأزواج يخونون زوجاتهم في أوروبا، وأن نسبة أقل من المتزوجات يفعلن الشيء ذاته، وفي كثير من الحالات يعلم الزوج بخيانة زوجته، وتعلم الزوجة بخيانة زوجها، ومع هذا قد تستمر العلاقات الزوجية الشكلية دون أن يطرأ عليها أي انفصام!!.
أما العلاقات قبل الزواج فإن (80 إلى 85%) من الرجال البالغين لهم خليلات، وأن لكل واحد منهم خليلة واحدة فقط.. وأن ما بقي من أفراد المجتمع غير المتزوجين والذين ليس لهم خليلات من الزناة فهم ينتقلون من امرأة لأخرى اشباعاً لغرائزهم ووطرهم!!..
- ومما نشرته مجلة (الأمان) اللبنانية في عددها 30/11/1979 أن شاباً من شباب العرب المتفلتين ذهب إلى الدينمارك، وفي أحد المسارح هناك فوجئ بالفنانة (هكذا يسمونها)، وهي تخلع ثيابها قطعة قطعة.. حتى وقفت عارية تماماً في وسط المسرح.. ثم دعت كلبها ليقارف معها الفاحشة أمام الناس، ثم لم تلبث بعد ذلك أن طلبت من الحاضرين متحدية إياهم أن يفعلوا بها مثل ما فعل الكلب أمام الأضواء الباهرة، والموسيقى الصاخبة.. ورأى بأم عينيه أحد الأفارقة المخمورين وهو يصعد إلى خشبة المسرح يحاول دون جدوى أن يقلد الكلب في عمليته فلم يفلح!!.
- هل أتاكم حديث (لوتروكيه) رئيس الجمعية الوطنية في فرنسا؟ الرجل العجوز الذي اقتحم الرابعة والسبعين من عمره، فلم يمنعه وقار الشيخوخة أن يغوص إلى أذنيه في مستنقعات العهر، والفوضى الجنسية.. لقد اعترف شرطيه الخاص أن جند عدداً من الفتيات تترواح أعمارهن بين 14 – 18 سنة لإحياء حفلات عارية في مسكن حكومي بباريس، وفي بيوت أنيقة لشخصيات باريسية كبيرة.. وهي مشكلة لا تزال بين يدي القضاء الفرنسي!!..
- وجاء في تقارير (البوليس السري الأمريكي بشيكاغو)، وقد نشرت في ثلاثة عشر مجلداً ما يلي: (إن هذه الحرية الفاسدة، وحضارة الخنافس لم تفسد فقط نظام الأسرة في أمريكا، لكنها أيضاً قد جلبت لأمريكا ثقافة لا يمكن معالجتها بالبوليس والقضاء..).
- ومما نشرته صحيفة (الهيرالدتربيون) الأمريكية في عددها 29/06/1979 ملخصاً لأبحاث قام بها مجموعة من الاختصاصيين الأمريكيين حول ظاهرة غريبة ابتدأت في الانتشار في المجتمعات الغربية بصورة عامة، وفي المجتمع الأمريكي بصورة خاصة، وهي ظاهرة اقتراف الفاحشة مع المحرمات كالبنت والأخت..
ويقول الباحثون: (إن هذا الأمر لم يعد نادر الحدوث، وإنما هو لدرجة يصعب تصديقها، فهناك عائلة من كل عشر عائلات يمارس فيها هذا الشذوذ)!!..
هذا مع المحارم فكيف إذا اجتمع الشاب والشابة مع بعضهما في دراسة أو عمل أو وظيفة.. ولم يكن بينهما رابطة من نسب، ولا صلة من قرابة..؟ فلا شك أن اقترافهما للفاحشة يكون من باب أولى!!..
فهذه الوقائع التي سردناها عن واقع الأمم الغريبة وتجربتهم للاختلاط ما هو إلا غيض من فيض، ونقطة من بحر للانحرافات الجنسية والخلقية التي آلت إليها المجتمعات العالمية قاطبة كنتيجة أليمة للعنة التبرج والسفور والاختلاط في عصور الانتكاس والضلال.. علماً بأن الاختلاط عند الغربيين والشرقيين يبدأ من الروضة إلى الابتدائي إلى الإعدادي إلى الثانوي إلى الجامعي.. بل الاختلاط – كما نوهنا – شائع وموجود ومطبق في سائر حياتهم الاجتماعية على الإطلاق.
فهل يصدق عاقل ذو بصيرة – بعد الذي أوضحناه – أن الاختلاط بين الجنسين – كما يدعي دعاة الاختلاط اليوم – يحد من ثورة الغريزة، ويخفف من هياج الشهوة، ويجعل اجتماع الرجال بالنساء أمراً مألوفاً وعاديّاً؟
ومن طرائف ما ذكره الشيخ زاهد الكوثري رحمه الله في مقالاته: (أن سفير الدولة العثمانية في بلاد الإنكليز اجتمع مرة مع كبراء الدولة البريطانية، فقال له أحد الكبراء الموجودين: لماذا تصرون أن تبقى المرأة المسلمة في الشرق متخلفة، معزولة عن الرجال، محجوبة عن النور؟!! فقال له السفير العثماني: لأن نساءنا في الشرق لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن، فخجل الرجل ولم يُحْرِ جواباً).
فبأي حديث بعد هذا يؤمنون؟
وفي الحديث عن الاختلاط ونتائجه أريد أن أضع بين يدي الآباء والمربين هذه الحقيقة: إن مخططات الاستعمار والصهيونية، والمذاهب المادية والإباحية.. تستهدف أول ما تستهدف إفساد المجتمع المسلم، وتهديم كيانه، وفصم عراه..
وذلك بتمزيق القيم الأخلاقية، والمفاهيم الدينية بين الشباب والشابات، وإشاعة الميوعة والانحلال في كل ناحية من نواحي المجتمع المسلم.. فالمرأة عند هؤلاء هي أول الأهداف في هذه الدعوة الإباحية، والميدان الماكر، فهي العنصر الضعيف والعاطفي لتنفيذ أي مخطط لدعوة إباحية، ومنهج استعماري..
- يقول أحد أقطاب المستعمرين: (كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حب المادة والشهوات).
- ويقول كبير من كبراء الماسونية الفجرة: (يجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا يدها فزنا بالحرام، وتبدّد جيش المنتصرين للدين).
- وجاء في (بروتوكولات حكماء صهيون) ما يلي: (يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتسهل سيطرتنا.. إن (فرويد) منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيء مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غريزته الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه).
فالذين يدعون إلى اختلاط الأنثى بالذكر في بلاد الإسلام، ويريدون أن يكون شائعاً مطبقاً في سائر حياتنا الاجتماعية.. ما هم في الحقيقة إلا أداة دعاية وتنفيذ لمخططات أعداء الإسلام من أصحاب مذاهب مادية وإلحادية وإباحية ودعاة أفكار استعمارية وصهيونية وماسونية.. من حيث يعلمون أو لا يعلمون، ومن حيث يشعرون أو لا يشعرون.
فما على الآباء والمربين والمسؤولين إذن أن يجنّبوا الإناث عن الذكور في التعليم وغير التعليم حتى ينشأ البنات على الفضيلة والعفاف، ويسلم المجتمع من المفاسد والانحلال، ويتحقق للشباب والشابات لياقاتهم الطبية والنفسية.. وحتى تحرر الأمة الإسلامية كذلك من مخططات أعداء الإسلام في إفساد المرأة المسلمة..
وما أحسن ما قالته عائشة التيمورية في الافتخار بعلمها وعفافها وحجابها:
بيد العفاف أصون عِزّ حجابي
وبهمتي أسمو على أترابي
ما ضرّني أدبي وحسن تعلّمي
إلا بكوني زهرة الألباب
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
سَدْل الخمار بلمّتي ونقابي
[1] وما والاه: أي أطاع الله.
[2] عن مجلة التمدن الإسلامي من مقال (التربية الإسلامية) للأستاذ محمود مهدي استالبولى ص 422.
[3] الحديث بطوله رواه البخاري.
[4] فيجوز في ديار الحرب أن نأخذ مال الكفار بأي وسيلة بشرط أن يكون برضاهم.
[5] اختصرت القصة وتصرفت فيها بعض التصرف.
[6] الجزء الأول من كتاب (منهاج الفلسفة): ص 6-134.
مسؤولية التوعية الفكرية
ومن المسؤوليات الكبرى التي جعلها الإسلام أمانة في عنق الآباء والمربين جميعاً توعية الولد فكريّاً منذ حداثة سنه، ونعومة أظفاره.. إلى أن يصل سن الرشد والنضج.. والمقصود بالتوعية الفكرية ارتباط الولد:
بالإسلام ديناً ودولة.. وبالقرآن العظيم نظاماً وتشريعاً.. وبالتاريخ الإسلامي عزاً ومجداً.. وبالثقافة الإسلامية العامة روحاً وفكراً..
وبالارتباط الحركي للدعوة الإسلامية اندفاعاً وحماسة..
إذن على المربين أن يُعرّفوا الولد منذ أن يعي ويميز على الحقائق التالية:
(أ) خلود هذا الإسلام، وصلاحيته لكل الأزمنة والأمكنة، لما يمتاز به من مقومات الشمول والخلود والتجدد والاستمرار.
(ب) آباؤنا الأولون ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من عز وقوة وحضارة.. إلا بفضل اعتزازهم بهذا الإسلام، وتطبيقهم لأنظمة القرآن.
(جـ) الكشف للولد عن المخططات التي يرسمها أعداء الإسلام:
المخططات الصهيونية الماكرة.
والمخططات الاستعمارية الغاشمة.
والمخططات الشيوعية الملحدة.
والمخططات الصليبية الحاقدة.
هذه المخططات التي تستهدف بجملتها محو العقيدة الإسلامية في الأرض، وغرس بذور الإلحاد في الجيل المسلم، وإشاعة الميوعة والانحلال في الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم.. والهدف البعيد والقريب من ذلك إخماد روح المقاومة والجهاد في شباب الإسلام، واستغلال ثروات البلاد الإسلامية لمصالحهم الذاتية، ثم بالتالي طمس معالم الإسلام في كل أرجاء المجتمعات التي ينتمي أهلها إلى الإسلام!!.
(د) الكشف عن الحضارة الإسلامية التي كانت الدنيا بأسرها ترتشف من معينها حيناً من الدهر عبر التاريخ.
(هـ) وأخيراً يجب أن يعرف الولد (أننا أمة لم ندخل التاريخ بأبي جهل، وأبي لهب، وأُبيّ بن خلف.. ولكن دخلناه بالرسول العربي صلوات الله عليه وأبي بكر وعمر..
ولم نفتح الفتوح بحرب البسوس وداحس والغبراء، ولكن فتحناها ببدر والقادسية واليرموك..
ولم نحكم الدنيا بالمعلقات السبع ولكن حكمناها بالقرآن المجيد.
ولم نحمل إلى الناس رسالة اللات والعزّى، ولكن حملنا إليهم رسالة الإسلام، ومبادئ القرآن)[1].
والأصل في هذه التوعية الفكرية ما رواه الطبراني عن علي كرم الله وجهه مرفوعاً: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن..".
ولقد كان السلف الصالح يهتمون كل الاهتمام لهذه التوعية، ويوجبون تلقين الولد منذ الصغر تعليم القرآن الكريم، ومغازي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومآثر الجدود والأمجاد..
وإليكم ما قالوه وأوصوا به في هذا الصدد:
• يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "كنا نُعلّم أولادنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلمهم السورة من القرآن الكريم".
• وأوصى الإمام الغزالي في إحيائه: "بتعليم الطفل القرآن الكريم، وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار، ثم بعض الأحكام الدينية".
• وأشار ابن خلدون في مقدمته إلى أهمية تعليم القرآن الكريم للأطفال وتحفيظه، وأوضح أن تعليم القرآن الكريم هو أساس التعليم في جميع المناهج الدراسية في مختلف البلاد الإسلامية لأنه شعار من شعائر الدين الذي يؤدي إلى رسوخ الإيمان..
• وقد نصح هشام بن عبد الملك مؤدب ولده أن يعلمه كتاب الله، والشعر الجيد، والخطابة، وتاريخ الملاحم، ويُعْني بتعليمه الأخلاق، ويروضه على مخالطة الناس..
فهذه الأقوال وأقوال غيرها تعطينا صورة صادقة عن التوعية الكاملة التي كان عليها المجتمع المسلم في الماضي حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، معلمين ومتعلمين!!..
ولكن ما السبيل إلى هذه التوعية؟
السبيل إليها يتصل بعدة وجوه:
1- التلقين الواعي.
2- القدوة الواعية.
3- المطالعة الواعية.
4- الرفقة الواعية.
• والمقصود من التلقين الواعي.. أن يلقن الولد من قبل أبويه ومربيه حقيقة الإسلام وما ينطوي عليه من مبادئ وتشريعات وأحكام، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الخلود، ومقومات البقاء، وطبيعة الاستمرار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعلى المربي – ولا سيما الأب – أن يحرص على إفهام الولد أنْ لا عز إلا بالإسلام، ولا نصر إلا بتعاليم القرآن، ولا قوة ولا حضارة ولا نهوض إلا بشريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعليه كذلك أن يبصره بكل المخططات اليهودية، والاستعمارية، والشيوعية، والصليبية.. التي تستهدف القضاء على الإسلام، وتشويه حقائقه الناصعة، ومعالمه المشرقة.. وتستهدف كذلك إجتثثاث روح المقاومة والجهاد في نفوس المسلمين، وتربية الجيل الحاضر على الإلحاد والضلال والإباحية..
كما عليه أن يلقنه حضارة الإسلام الزاهية التي بقيت مئات السنين تشع على الإنسانية نور الحق والمدنية والعرفان، والتي ظلت أوروبا عبر القرون تستقي من معينها، وتستهدي بنورها وضيائها!!..
ولا شك أن الولد بفضل هذا التلقين الواعي المستمر يرتبط بالإسلام ديناً ودولة، وبالقرآن الكريم نظاماً وتشريعاً، وبالتاريخ الإسلامي اعتزازاً وقدوة، وبالعمل الحركي والجهادي اندفاعاً وإقداماً!!..
فما أحوج الأولاد إلى مثل هذا التوجيه السامي، والتلقين الواعي، والتربية الهادفة!!..
• والمقصود من القدوة الواعية: أن يرتبط الولد بمرشد مخلص واع فاهم للإسلام، مندفع له، مجاهد في سبيله، مطبق لحدوده، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وآفة من يتصدون للإرشاد اليوم أنهم يعطون لتلاميذتهم ومريديهم الصورة المقلوبة المشوهة عن الإسلام إلا من رحم ربك وقليل ماهم.
فمنهم من يركز توجيهه وعنايته على إصلاح النفس وتزكيتها.. ويهمل واجب الأمر بالمعروف والني عن المنكر، والمناصحة للحكام، والوقوف أمام الظلم والظالمين..
ومنهم من يجعل جُلّ اهتمامه للمظاهر التي أمر الإسلام بها من لحية وجلباب ولباس رأس.. ويهمل جانب العمل الحركي، والتجمع الإسلامي لإقامة حكم الله في الأرض..
ومنهم من يولي كل عنايته بالعلم الشرعي، ويهمل جانب التوجيه الدعَوي، والتحرك الجهادي.. وهو يظن أنه ينصر الإسلام.. ومنهم.. ومنهم...
علماً بأن الإسلام كلُّ لا يتجزأ، فلا يجوز لمرشد ولا لعالم، ولا لمن يتخذه الناس قدوة أن يكتموا واجباً أمر الله به، أو أن يتغاضوا عن منكر نهى الله عنه.. لعموم قوله تبارك وتعالى:
{إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوبُ عليهم وأنا التواب الرحيم} البقرة: 159-160.
ولإنذار ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام فيما رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخُدري: "من كتم علماً مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار".
ومن ملامح انحراف بعض من يتصدون للإرشاد اليوم أنهم يدّعون العصمة لأنفسهم ويربطون الحق بأشخاصهم الفانية، غير مكترثين بما يحكم الشرع لهم أو عليهم، ظناً منهم أنهم وصلوا المرتبة التي تنزههم عن الخطأ، والمقام الذي يجنبهم الوقوع في الزلل.. فلا يجوز لأحد من الناس أن ينتقدهم إذا أخطأوا، ولا يصح لمريد أن يراجعهم إذا أمروا.. لوصولهم إلى مرتبة الحفظ والعصمة.. علماً بأن العصمة خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام!.. فهذا الإمام مالك رحمه الله وقف مرة أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "ما منا إلا من رَدّ ورُدّ عليه إلا صاحب هذا القبر"، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المواقف الخالدة التي كان يقفها العلماء الواعون المخلصون موقف عالم العصر ومرشده الشيخ (سعيد النورسي) التركي، والملقب بـ "بديع الزمان" رحمه الله وأجزل مثوبته، هذا الموقف يتلخص أنه حين أحس ذات مرة أن من بين طلابه ومريديه من يذهب في تقديسه وتظيمه حدّاً عظيماً، ويربط معالم الحق بشخصه الفاني، قال لهم موصياً وموجهاً وناصحاً: "إياكم أن تربطوا الحق الذي أدعوكم إليه بشخصي المذنب الفاني، ولكن عليكم أن تبادروا فتربطوه بينبوعه الأقدس: كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتعلموا أنني لست أكثر من دلاّل على بضاعة الرحمن جل جلاله، ولتعلموا أنني غير معصوم، وقد يفرط مني ذنب أو يبدو مني انحراف، فيتشوّه مظهر الحق (الذي ربطتموه بي) بذلك الذنب أو الانحراف، فإما أن أكون بذلك قدوة للناس في هذا الانحراف، وارتكاب الآثام، أو صارفاً لهم عن الحق بما شوّهه واختلط به من انحرافي وآثامي".
فما على المربين إذن إلا أن يربطوا أولادهم بمرشد عالم واعٍ مخلص يعطيهم الإسلام منهاجاً شاملاً عامّاً سواء ما يتعلق في العقيدة والتشريع، أو ما يتصل بالدين والدولة، أو ما يرتبط بالتزكية والجهاد، أو ما يختص بالعبادة والسياسة..
ويعطيهم التلقين التربوي والإصلاح النفسي توجيهاً سليماً واعياً يربطهم بالحق والشرع وتوجيهات السلف.. لا بوجوده الفاني، وشخصه المذنب..
ولا شك أن الأولاد حين يرتبطون بالقدوة الواعية – بهذا الشكل الذي بيناه – فيتربون على التقوى والجهاد، وينشؤون على الإخبات لله، والجرأة في الحق، ويدرجون على التعبد في المحراب، وعلى مقارعة الأعداء في ميادين القتال، عندئذ يكونون من النمط الذي قال عنهم الشاعر الإسلامي:
شباب ذلّلوا سبل المعاني
وما عرفوا سوى الإسلام دينا
تعهدهم فأثبتهم نباتاً
كريماً طاب في الدنيا غصونا
إذا شهدوا الوغى كانوا كُماة
يدكّون المعاقل والحصونا
وإنْ جَنّ المساء فلا تراهم
من الإشفاق إلا ساجدينا
كذلك أخرج الإسلام قومي
شباباً مخلصاً حرّاً أمينا
وعلّمه الكرامة كيف تُبنى
فيأبى أن يُقيّد أو يهونا
وحين يكونون على هذه الشاكلة يتحقق على أيديهم كل عزة ونصر وسيادة للإسلام والمسلمين.
• والمقصود من المطالعة الواعية أن يضع المربي بين يدي الولد منذ أن يعقل ويميز مكتبة – ولو صغيرة – تشمل مجموعة من القصص الإسلامية تتكلم عن سيرة الأبطال، وحكايات الأبرار، وأخبار الصالحين..
وتشمل كذلك مجموعة من الكتب الفكرية تتحدث عن كل ما يتعلق بالنظم الإسلامية سواء كانت عقَديّة أو أخلاقية أو اقتصادية أو سياسية..
وعن كل ما يتعلق في توضيح المؤامرات التي تحيكها الصهيونية والماسونية والشيوعية والصليبية، والمذاهب المادية ضد الإسلام والمسلمين..
وتشمل أيضاً مجموعة من المجلات الإسلامية الواعية التي تعرض الإسلام، وتنقل الأخبار، وتعالج المشكلات، وتكتب المواضيع بعَرْض شيّق وأسلوب جذّاب..
وعلى المربي أن يختار للولد من هذه الكتب والمجلات والقصص ما يتناسب مع سِنّه وثقافته حتى تكون الفائدة أنفع، والثمرة التي يجنيها أجدى وأحسن.. تحقيقاً لإشارات الرسول صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري عن علي كرم الله وجهه: "حدثوا الناس بما يعرفون..."، وفيما رواه الديلمي، والحسن بن سفيان عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم".
ولا شك أن المربين حينما ينهجون بأولادهم هذا النهج، ويسلكون معهم هذه السبيل فإنهم يتثقفون بالثقافة الإسلامية الكاملة، ويدرجون على الوعي الناضج الصحيح.
• والمقصود من الرفقة الواعية أن يختار المربون لأولادهم رفقاء صالحين مأمونين متميزين عن غيرهم بالفهم الإسلامي الناضج، والوعي الفكري النابه، والثقافة الإسلامية الشاملة.
ولا شك أن الولد منذ أن يعقل ويدرك، حينما يصاحب البليدين ذهنياً وفكرياً فإنه يكتسب منهم البلادة، وحينما يخالط القاصرين عن إدراك حقيقة الإسلام ونظرته الكلية إلى الكون والحياة والإنسان فإنه يكتسب منهم القصور والمحدودية..
فلا يكفي أن يكون الرفيق صالحاً قانتاً مصلياً.. ولا أن يكون مثقفاً ذكياً عبقرياً.. بل ينبغي أن يجمع مع فضيلة الصلاح والتقوى فضيلة النضج العقلي، والوعي الاجتماعي والفهم الإسلامي.. حتى يكون رفيقاً سويّاً، وصاحباً ناضجاً تقيّاً..
وقد قالوا قديماً: (الصاحب ساحب).
وقال أهل المعرفة: لا تقل لي: من أنا؟ بل قل لي: من أصاحب؟ فتعرف من أنا.
وما أحسن ما قاله الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يَقتدي
وما أصدق ما قاله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الترمذي: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".
فما على المربين إلا أن يهيئوا لأولادهم وهم في سن التمييز الرفقة الصالحة الواعية التي تُبصّرهم حقيقة الإسلام، وتعرفهم مبادئه الشاملة، وتعاليمه الخالدة، وتعطيهم الصورة الصادقة عن هذا الدين الذي حمل لواءه أبطال كرام، وجدود أمجاد..
فكانوا بحق خير أمة أخرجت للناس..
وأخيراً أزيد أن أهمس في أذن المربين والأولياء والآباء بهذه الحقيقة!!..
أليس من المؤسف المؤلم أن يصل شبابنا إلى سن التكليف ولم يعلموا أن الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف، وعبادة وسياسة.. وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الشمول والخلود والبقاء للزمن المتحضّر، والحياة المتطورة؟!..
أليس من المؤسف المؤلم أن يتعلم أبناؤنا في المدارس كل شيء عن رجالات الغرب، وفلاسفة الشرق، وعن أفكارهم وآرائهم، وتاريخ حياتهم، ومآثر أعمالهم.. ولم يعرفوا عن حياة أبطالنا وعظمائنا في التاريخ، وأخبار الفاتحين.. سوى النذر القليل؟!..
ثم أليس من العار والشنار أن يتخرج أولادنا من المدارس وقد مسختهم الثقافات الأجنبية، والمبادئ الغربية أو الشرقية.. حتى أصبح الكثير منهم أعداء لدينهم وتاريخهم وحضارتهم؟..
ثم بالتالي أليس مما يفتت القلب والكبد أن تنساق الفئة المؤمنة من الشباب وراء أدعياء الإرشاد يعطلون لهم تفكيرهم، ويقطعونهم من كل صلة ثقافية إسلامية واعية، ويمنعونهم من كل مشرد عالم مخلص، يوضح لهم حقيقة الإسلام ونظرته الكلية الشاملة؟!..
وأخيراً أليس من المخزي المؤسف أن يقتني أبناء هذا الجيل الكتب الإلحادية، والمجلات الخلاعية، والقصص الغرامية.. ولم يكن عندهم أدنى اهتمام بالكتب الفكرية التي توضح نظم الإسلام، وترد على شبهات الأعداء، وتعرفهم بمفاخر التاريخ؟!.
فما عليكم – أيها المربون والآباء – إلا أن تقوموا بواجب المسؤولية تجاه أفلاذ أكبادهم، وأن تسعوا جاهدين في تصحيح أفهامهم وأفكارهم إن كانت مشوبة بأفكار دخيلة، وآراء ضالة!!.. كما عليكم أن تلقنوهم صباح مساء الردّ على دسائس الملحدين والمبشرين، وافتراءات الماديين والمستشرقين..
وفي هذا – لا شك – توعية لأفكارهم، وصيانة لعقيدتهم من أن تتأثر بالدسائس المغرضة، والمبادئ الهدامة، والعقائد المنحرفة..
فإن نهجتم هذا النهج، وسلكتم هذه السبيل اعتز أبناؤكم بدينهم، وافتخروا بأمجادهم وتاريخهم، وما عرفوا سوى الإسلام عقيدة وشريعة، ومصحفاً وسيفاً، وديناً ودولة، وعبادة وسياسة.. وكانوا من الجيل الأول الذي قال عنهم الشاعر:
خلّفت جيلا من الأصحاب سيرتهم
تضوع بين الورى روْحاً وريْحانا
كانت فتوحهُمو بِرّاً ومرحمة
كانت سياستهم عدلا وإحسانا
لم يعرفوا الدين أوراداً ومسبحة
بل أُشْبِعُوا الدين محراباً وميدانا
[1] من خطبة للأستاذ عصام العطار حفظه الله وشفاه.
مسؤولية الصحة العقلية
ومن المسؤوليات التي جعلها الله أمانة في عنق الآباء والمربين جميعاً: الاعتناء بصحة عقول أبنائهم وتلامذتهم.. فما عليهم إلا أن يقدروها حق قدرها، ويرعوها حق رعايتها، حتى يبقى تفكيرهم سليماً، وذاكرتهم قوية، وأذهانهم صافية وعقولهم ناضجة..
ولكن ما هي حدود مسؤولية الآباء والمربين في صحة الأولاد العقلية؟
المسؤولية تتركز في تجنيبهم المفاسد المنتشرة في المجتمع هنا وهناك لما لها من تأثير على العقل والذاكرة والجسم الإنساني بشكل عام.
وقد أفضنا في الحديث عنها في فصل (مسؤولية التربية الجسمية) من هذا الكتاب، والآن نلخصها، ونشير إليها ليكون – كل من له في عنقه حق التربية – على بينة وهدى وذكرى.
مما أجمع عليه الأطباء، وحذر منه علماء الصحة أن المفاسد التي تؤثر على العقل والذاكرة، وتخمل الذهن، وتشلّ عملية التفكير في الإنسان، وتحدث أضراراً بالغة في الجسم هي ما يلي:
1- مفسدة تناول الخمور بشتّى أشكالها وأنواعها، فإنها تقتل الصحة وتورث الجنون..
2- مفسدة العادة السرية فإن الإدمان عليها يورث السل، ويضعف الذاكرة، ويسبب الخمول الذهني، والشرود العقلي..
3- مفسدة التدخين فإن من تأثيره على العقل: أن يهيج الأعصاب، ويؤثر على الذاكرة، ويضعف ملكة إحضار الذهن والتفكير..
4- مفسدة الإثارات الجنسية كمشاهدة الأفلام الخلاعية، والتمثيليات الماجنة، والصور العارية.. فإنها تعطل وظيفة العقل، وتسبب الشرود، وتقضي على ملكة الاستذكار الذهني.. فضلا عن الإلهاء، وإضاعة الوقت الثمين.
يقول الدكتور (أليكس كارليل) في كتابه (الإنسان ذلك المجهول): (عندما تتحرك الغريزة الجنسية لدى الإنسان تفرز غدده نوعاً من المادة التي تتسرب بالدم إلى دماغه وتخدّره فلا يعود قادراً على التفكير الصافي).
إلى غير ذلك من المفاسد الخطيرة الضارة التي تضر بعقول الأولاد، وتسبب لهم الآفات والأخطار..
والذي نخلص إليه بعد ما تقدم من بحوث هذا الفصل أن:
- الواجب التعليمي.
- والتوعية الفكرية.
- والصحة العقلية.
هي أبرز المسؤوليات في تربية الأولاد العقلية، فإن قصّر الآباء والمربون والمعلمون في القيام بهذه الواجبات، وفرطوا في هاتيك المسؤوليات.. فإن الله سبحانه سيحاسبهم على تقصيرهم، ويسألهم عن نتائج إهمالهم.. فيا خجلهم من الله إذا وقع عليهم الحق وكانوا من المفرّطين.
ويا ويلهم من مشهد يوم عظيم إذا كان جوابهم أمام رب العالمين:
{ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والْعنهم لعناً كبيراً} الأحزاب: 67-68.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما رواه ابن حبان: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حَفِظَ أم ضيّع". اللهم اجعلنا ممّن يطيعون الله ورسوله، وممّن تبيض وجوههم يوم الحساب، وممّن أدّوا مسؤولية أولادهم وأهليهم خير أداء.. إنك خير مأمول، وأكرم مسؤول.

يتبع