مقدمة
سيظل اسم الشهيد جمال حبال خالداً في العالمين كأسماء الشيخ ياسين وعياش والرنتيسى وغيرهم من شهداء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
فيعود الفضل بعد الله سبحانه وتعالى إلى الشهيد جمال حبال في إنشاء فكرة المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني عندما اجتاح لبنان عام 1982 فكما يروى الأستاذ إبراهيم المصري الأمين العام الحالي الجماعة الإسلامية بلبنان في تأسيس قوات الفجر؛
أنه عندما بدأ الاجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 كانت قيادة الجماعة بالخارج وتؤخر قرار الجماعة بالسماح لعناصرها فى الجنوب ببدء المقاومة المسلحة حوالي 16 يوماً ولكن خلال هذه الفترة بالفعل كانت عناصر من الجماعة بدأت المقاومة؛
وكان على رأسها الشهيد جمال حبال وارتأت قيادة الجماعة عدم الإعلان عن ارتباط قوات الفجر بالجماعة لظروف أمنية حينها ولم يتم اكتشاف العلاقة إلا بعد استشهاد الشهيد جمال حبال هو ومجموعة من إخوانه أثناء التصدي لفرقة جولاني الصهيونية.
نشأته
نشا الشهيد جمال حبال، ابن مدينة صيدا والمولود سنة 1958 في أسرة ملتزمة ومحافظة في حي الست النفيسة. ثم انتقلت للعيش في منطقة الفيلات سنة 1970وهناك تعرف إلى شباب المنطقة واندمج معهم اجتماعيا، فكان يلعب ويلهو معهم ويساعدهم في حرث البساتين وجمع المحاصيل، وكان الشهيد رحمه الله تعالى يوظف علاقته ووقته لينصح رفاقه ويقربهم إلى الله سبحانه وتعالى ويعمل على إبعادهم عن مفاسد مرحلة السبعينيات الفكرية والأخلاقية.
ويذكر عبد الحكيم حبال شقيق الشهيد جمال أن أكثر ما كان يغيظ الشهيد سماع الكلام البذيء وكل ما يمس القيم الإسلامية والأخلاقية.
حياته الدراسية والمهنية
تميز الشهيد جمال حبال بتفوقه الدراسي في ثانوية صيدا الرسمية للبنين (المعروفة بثانوية الزعتري) حيث نال بتميز شهادة البروفية التي خولته الدخول إلى دار المعلمين وقد اختارها ليكون قريباً من الأجيال الصاعدة فيوجهها علمياً وتربوياً ورسالياً.
وبالرغم من أعباء الدعوة والتدريس تابع الشهيد تحصيله العلمي في جامعة بيروت العربية في فرع التجارة إلا أن ظروف الحرب الأهلية وانغماسه في الدفاع عن مدينته صيدا حالت بينه وبين إتمام الدراسة فيها.
نشاطه الديني والاجتماعي
شهد العام 1972 تبلور الصحوة الدينية بظهور نجم الجماعة الإسلامية فسارع الشهيد وإخوته إلى الاندماج مع محيطها وأجوائها، وشاركوا في معظم النشاطات والحلقات الدينية والأعمال الاجتماعية والثقافية التي قامت بها الجماعة آنذاك.
جهاده
لعب والد الشهيد دوراً كبيراً في زرع الروح والنظام العسكري في نفوس أولاده، حيث أن مهنته كرجل أمن كانت تتطلب منه أن يحمل مسدسه الشخصي الذي استطاع ابنه جمال أن يفكه ويجمعه بعد ان دربه والده على استخدامه، وبرز الشهيد منذ نعومة أظافره في هواية الرماية.
وعند بدء الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 بدأ الشهيد بتلقي دروسه وتدريباته العسكرية وقام بدوره في تلقينها لإخوانه في الجماعة الإسلامية، وبرزت مواهبه القيادية والتنظيمية، وشكل فرقة من إخوانه عرفت باسم (المجاهدون)، اهتم الشهيد بتدريبها وإعدادها وابتكر أسلوب التراتبية التعليمية والتدريبية داخل هذه المجموعة بحيث يقوم المتقدم من أفرادها في تدريب المبتدئ، وكان الداعي لذلك ضيق الوقت وسرعة امتداد الحرب الغادرة إلى صيدا، ولم يقف في احتضانه لهذه المجموعة عند حدود التدريب والتنظيم بل اهتم كذلك بتجهيزه أفرادها بأحدث وأفضل ما وصل إليه من الثياب والتجهيزات اللازمة.
شخصيته القيادية
تولى الشهيد جمال حبال منصب المسؤول العسكري للجماعة الإسلامية في الجنوب وعمره لا يتعدى الـ22 سنة. وبرز بشجاعته وقوة مواقفه تجاه الأزمات التي كانت تواجه المدينة والوطن حتى أصبح رمزا للقوة والشجاعة بين الشباب.
ومما يذكره الشيخ صلاح الدين أرقه دان، المسؤول السياسي الأسبق للجماعة الإسلامية في الجنوب، تميز شخصية الشهيد جمال حبال، لاسيما تواضعه الجم أمام إخوانه كباراً وصغاراً وشفافيته ورقته في التعامل مع الأفراد الذين يعملون تحت إمرته، فكان يشاركهم المهمات ويبادر إلى خدمتهم وتقديم كل عون ونصيحة ممكنة، بعيداً عن التشنج والاستعلاء متمثلاً في ذلك سيرة الصحابة رضي الله عنهم، ولم يميز نفسه يوماً عنهم، فهو عند المهمات والملمات واحداً منهم، تراه في أول الصف لا في آخره دون أن يخل ذلك في متابعته لأعباء المسؤولية ومتطلباتها الإدارية والتنظيمية وسواها...
من مواقفه رحمه الله عليه
يروي إخوانه والمقربون منه روايات عن خلقه يوم حمل البندقية وقاد المجاهدين للثأر لله وحده لتحرير صيدا التي وقعت في براثن الاحتلال الإسرائيلي.
كان ذات ليلة يتجول متخفياً ومستطلعاً في صيدا القديمة معقل القادة المجاهدين والشهداء وهو يحمل مسدسه بيده، فمر أمامه بعض العملاء الذين كانوا يزرعون الرعب في قلوب الناس، وأصبحوا على مقربة منه حتى كان بمقدوره أن يقتلهم واحداً واحداً، ولكنه استعصم بالصمت والسكينة حتى مروا، وحينما عاد إلى مكمنه سأله إخوانه: لماذا لم تقتلهم؟ فقال: لعله يأتي يوم يتوبون فيه إلى الله فيدخلون الجنة.
وفي إحدى عملياته في سوق الخضار الفوقاني ضد دوريات الاحتلال الإسرائيلي في صيدا تضررت عربة خضار لأحد الباعة المساكين الذين لا يجدون ما يأكلونه إلا من عمل يومهم.
في اليوم التالي أمر جمال أحد إخوانه أن يذهب إلى بيت ذلك الرجل، فدق عليه الباب وقال له: إن إخوانك في المقاومة يهدونك مبلغاً من المال جمعوه فيما بينهم نرجو أن يعوضك عن الضرر الذي لحق بعربتك. يومها بكى الرجل لأن رجال المقاومة أوفياء وشرفاء لم يقبلوا أن يلحق الضرر بائع خضار...
تفاصيل استشهاده
شهد العام 1983 تطورات لم تكن في حساب الصهاينة وعملائهم. نعم لقد استطاعت الآلة العسكرية الصهيونية أن تجتاح لبنان مروراً بجنوبه ووصولاً إلى العاصمة بيروت. كما تمكن هذا الجيش الجرار –الذي حقق توسعاً خطيراً كهذا من سحق المقاومة التي تصدت له أيام الإجتياح صيف عام 1982... لكن ومع حلول العام 1983 كانت المعطيات قد تغيرت، لقد ظهر بشكل جلي أن الآلة العسكرية الجبارة يقودها جنود سمتهم الأساسية الجبن والخوف.
بالمقابل كانت هناك ثلة من المؤمنين لا يملكون من العتاد والعدة الشيء الكثير...لكنهم كانوا يملكون إيماناً يخفق في قلوبهم، ونفساً تحدثهم بالشهادة في سبيل الله، حتى أن الواحد منهم لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه...
وكانت البداية على يد الشهيد جمال حبال رحمه الله تعالى. لقد أراد الشهيد القائد أن يؤسس نواة العمل الجهادي في مدينة صيدا، فعمل مع إخوانه على شن حرب عصابات طالت دوريات الصهاينة وعناصرها.
لقد اتخذ الشهيد جمال حبال من بيروت مركزا للتخطيط والتحضير لتلك العمليات. ومع تنفيذ كل ضربة من تلك الضربات الموجعة التي آلمت الصهاينة، كان الشهيد القائد يدخل إلى مدينة صيدا خلسة، فيتصل بإخوانه سراً...عندها تحدد الأهداف وتوزع الأدوار والمهام، فالبعض يرصد، والبعض يهاجم...أما المبدأ المعتمد فهو الكر والفر، وبعد انتهاء الهجوم كان المجاهدون يلوذون إلى أماكن سرية بعيدة عن الشبهات، تاركين الصهاينة منشغلين بقتلاهم وجرحاهم.
وتكررت العملية فأثخن العدو، وأربك إرباكاً شديداً، ولم يغن عنه شيئاً، لا أسلحته المتطورة ولا تفوقه العددي فضلاً عن تعامل الخونة معه.
وهكذا بقيت عناصر جيش الاحتلال فريسة لصور "قوات الفجر". هذه القوات التي عزمت مستعينة بالله على تبديد دجى الاحتلال، ليطلع فجر النصر، وتعلو في سماء الوطن آيات النصر والعزة المسطرة بدماء المجاهدين...
وفي شهر كانون الأول من العام 1983، وبعد سلسلة عمليات بطولية آلمت العدو وأربكته، تمكنت أجهزة الصهاينة من رصد القائد المجاهد جمال حبال بعد تنفيذه لإحدى العمليات. فقد لجأ مع أخيه المجاهد محمود زهرة إلى منزل الشهيد محمد علي الشريف الكائن في منطقة القياعة. وما كان من العدو إلا أن سارع بتطويق المنطقة وتضييق الخناق عليها ظناً منهم أن المجاهدين الثلاثة فريسة يسهل اقتناصها.
لكن الأمر كان خلاف المتوقع حيث بادر المجاهدون بالتصدي للعدو المحتشد، وهناك دارت رحى المعركة التي استمرت طوال الليل إلى أن انتهت مع ساعات الفجر الأولى قرابة الثانية من فجر يوم الثلاثاء 27/12/1983، هناك استبسل المجاهدون وثبتوا حتى قضوا شهداء، ومضوا نحو الجنان، بعد أن خطفوا أرواح عدد من جنود العدو بينهم ضابط برتبة ميجور جنرال من قوات المظليين. هذا فضلاً عن الجرحى والخسائر التي طالت الآليات والعتاد..
قالوا عن الشهيد جمال
يقول الشيخ جمال الدين شبيب فى مقال له تحت عنوان (في ذكرى استشهاد القائد المؤسس الشهيد جمال الحبال وإخوانه):
أن يكتب الشهداء الأحياء عن إخوانهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمضوا وسبقوا على درب الشهادة, فهذا لطف إلهي يستوجب شكر المنعم سبحانه الذي منّ علينا بتدوين تاريخ إخواننا وحفظه أن ينتهبه البعض أو يدّعيه من ليس أهله ولا يسير مسيرتهم.
في مثل هذا التاريخ العظيم ارتقى ثلاثة من المجاهدين شهداء, بعد معركة طاحنة مع جيش الاحتلال بمنطقة القيّاعة في صيدا, كانوا يستعدون للمواجهة بصبر وإيمان في منزل أحدهم الشهيد محمد على الشريف كان أشبه الناس بالشيخ محرم العارفي مربي الشهداء وأسد أنصار وعتليت والجورة..
أما الثاني، فكان في عمر الورود «محمود زهرة», الله يا محمود أتذكر يوم كنت إلى جواري تقود سيارة واصطدمت بسيارة أخرى عند تقاطع كورنيش المزرعة في بيروت، حزنت يومها لأن السيارة لم تكن سيارتك, واستسمحت صاحب السيارة المصدومة بخجل وصدمتني بشبابك الغض المسلح صاحب الأخلاق مع الناس, ألست تربية جمال الحبال.
آه ياجمال من طول السفر وقلة الزاد, إخوانك على العهد ما غيّروا وما بدّلوا, رحمك الله يوم قلت للأخ بدر الدين في ملحمة أبيه, يوم قال لك: نحن نجاهد ونسجن ونستشهد وغيرنا سيضيّع جهادنا هباءًًُ, فأجبته: جهادنا لله، وفي سبيل الله، نقوم بواجبنا الإلهي, أما الأخرون فلو كان جهادنا لأجلهم لما كان جهاد..
اليوم، بعد 26 عاماً، ماذا بقي من معركة القياعة, العميل الذي وشى بكم فر مع جيش الاحتلال في 16 شباط 1985 بعد أقل من سنة على شهادتكم..
وموشيه أرينز وزير دفاع العدو الذي جاء بالطوافة ليكحل عينيه بشهادتكم، طواه سجل الهزائم ونسيه الحاضر والماضي.
وقوات الفجر ما زالت شامخة، مقاومة إسلامية وجدت لتبقى، وستبقى ولن تضيع البوصلة, طليعة في الجماعة الإسلامية إلى من يحمل الراية ويتابع المسيرة, ويقوم بواجب الجهاد.
دمكم أزهر مؤسسات اجتماعية وسياسية، نواباً وقادة..
لم يختلف الناس عليكم في حياتكم، فرقتهم الدروب بعد استشهادكم، لكننا على عهدكم باقون ولشهادتكم حافظون، وستبقى الجماعة وطليعتها «قوات الفجر» تياراً نهضوياً يسري في روح هذا الشعب يحييه بالقرآن العظيم ويقود نحو العزة والكرامة والتحرير.
سلام الله عليكم في يوم استشهادكم.
قائدي وأخي جمال، «البندقية» التي استلمتها منك صيف عام 1979 أعدتها لكم صيف عام 1981 قبل سفري لطلب العلم الشرعي في بلاد الحجاز..
ويوم أنتهيت وحملت الاجازة في الدعوة والإعلام ورغبت في متابعة دراستي، خاطبني عميد القبول في جامعتي الحبيبة.. ماذا تريد من الدراسات (العليا)! اذهب إلى جنوب لبنان، خذ «كلاشن» وقاتل مع إخوانك..
وكان للعميد ما أراد، ولئن طالت الرحلة 22 عاماًُ من عام 1986 حتى 2009.. فليهنأ صديقنا العميد، فقد عملت بنصيحته، وها أنا أبحث عن «كلاشن» لأتابع مسيرتكم يا جمال, فمن يملكه ليخوض به غمار الذود عن حياض المقاومة وسلاحها وشعبها, في وجه الغدة السرطانية وتوابعها، فأنا جاهز لاستلامه من جديد..(5)
كما أصدرت الجماعة الإسلامية في الجنوب في ذكرى الاجتياح الصهيوني لمدينة صيدا, البيان التالي وجاء فيه:
ثمانية وعشرون عاماً مضت على الاجتياح الصهيوني الغاشم للبنان وصولاً إلى بيروت ومروراً بصيدا، تبدّلت خلالها مفاهيم وقناعات كثيرة ليس أقلها أن ما كان يعرف بالجيش الذي لا يقهر أضحى نمراً من ورق لا يقوى سوى على العزّل من النساء والأطفال والشيوخ وفي مسعى فاشل لإعادة الهيبة إلى صورته المقيتة التي بناها على الدماء والتدمير والمجازر.
إن صيدا الجهاد والمقاومة التي وقفت في وجه الاحتلال منذ يومه الأول وفجرت الأرض بركاناً تحت أقدامه وآلياته بجهاد أبنائها ومواقف علمائها وعلى رأسهم شيخ المجاهدين الشيخ محرم عارفي قدمت نموذجاً في الجهاد والتضحية والشهادة من خلال مجاهديها في قوات الفجر "الجناح المقاوم للجماعة الإسلامية"بقيادة رمز المقاومة وقائدها الشهيد جمال الحبال وإخوانه الميامين عندما قدّموا النفس والجهد والمال في سبيل الله دفاعاً عن الأرض والعرض، فكانوا بحق عنوان المرحلة ورموزها بعيداً عن الحسابات الضيقة والشعارات البالية.
إن صيدا التي قدمت الشهداء على امتداد تاريخها الحديث نصرة للحق وبعيداً عن أي مشروع سياسي إقليمي أو دولي وكانعكاس طبيعي للصراع مع العدو الصهيوني الذي تخوضه الأمة جمعاء من أجل تحرير الأرض والمقدسات من نير الاحتلال، تدعو إلى الارتقاء بالخطاب السياسي إلى لغة توازي وتحترم تضحيات شعبنا وشهدائنا جميعاً، وإبقاء البندقية موجهة نحو العدو الصهيوني وحده ومواجهة المشروع الأمريكي كله ابتداء في لبنان وفلسطين حتى العراقوأفغانستان وعلى مساحة الوطن العربي والإسلامي.
إن صيدا وفي ذكرى اجتياحها إذ تستذكر شهدائها الذين سقطوا نتيجة الهمجية الصهيونية تؤكد أن تاريخها الجهادي الناصع الذي كتبته بسواعد ودماء أبنائها وجهاد رجالاتها وعلمائها، لم يكن إلا ترجمة فعلية لعقيدتها وإيمانها الذي نشأت عليه والذي يشكل امتدادا لجهاد الحركة الإسلامية منذ اغتصاب فلسطين عام 1948 والذي لا زال مستمراً بجهاد أهل فلسطين وعلى رأسهم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وكافة المجاهدين.
إننا وفي ذكرى الاجتياح الصهيوني للبنان نؤكد أن الجهاد ماضٍ حتى تحرير الأرض والإنسان من الاحتلال والظلم والاضطهاد...