بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتي الكرام.. أخواتي الفضليات.. أبنائي وبناتي الأعزاء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد؛ تمر مصرنا الحبيبة بلحظات فارقة وبأحداث خطيرة، لا نملك معها إلا التواصل والمصارحة والمصداقية في حديث من القلب والعقل، لعلنا ننتقل من القلق والخوف والاضطراب إلى الطمأنينة والأمن والاستقرار. إن الصورة الآن شديدة الضبابية، والمفاهيم شديد الالتباس، وواجبنا أن نجلي الصورة، ونوضح الحقائق، ومن ثم قررت أن أتحدث إليكم حديثًا مباشرًا، ورغم أن الأحداث كثيرة على مدى الشهور العشرة الأخيرة إلا أنني سأركز على الأحداث الأخيرة. إن الإخوان المسلمين باعتبارهم جزءًا أصيلاً من الشعب المصري، فإنهم انحازوا من أول لحظة إلى الشعب في ثورته المجيدة في 25 يناير 2011م، وأبلوا بلاءً حسنًا في حمايتها– نسأل الله أن يكون في ميزاننا يوم القيامة– ووقفوا مع خيار الشعب في استفتاء مارس 2011م، وطالبوا المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالانصياع لمطالب الشعب فيْ محاكمة رموز النظام البائد، وتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين، وتكريم أهالي الشهداء وتعويضهم، وكذلك العناية بالمصابين في الثورة، كما تصدوا لمطالبات عديد من القوى السياسية باستمرار بقاء المجلس العسكري في الحكم لمدة طويلة، ولمحاولات الالتفاف على إرادة الشعب التي تجلت في نتيجة استفتاء مارس الماضي؛ مرة بالمطالبة بالدستور أولاً، ومرة بوضع مبادئ حاكمة للدستور أو مواد فوق دستورية، ومرة في محاولة تعيين اللجنة التأسيسية المنوط بها كتابة مشروع الدستور بالمخالفة لنص المادة (60) من الإعلان الدستوري التي وافق عليها الشعب في الاستفتاء المذكور آنفًا، والتي تجعل تكوين هذه اللجنة بالانتخاب المباشر، والذي يمارسه الأعضاء المنتخبون من مجلسي الشعب والشورى دون المعينين، ومن البدهي أن الانتخاب إنما هو إجراء ديمقراطي بعكس التعيين. ثم طرحت وثيقة سميت وثيقة السلمي أُريد فرضها فرضًا على الدستور المقبل، تتضمن مواد كارثية تمنح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات تعلو على البرلمان والشعب والدستور، وتقحمه في السياسة بجعله حاميًا للشرعية الدستورية، إضافة لفرض تعتيم تام على ميزانية الجيش وتحصنه من الرقابة والمراجعة، ولذلك رفضنا هذه المواد ونزلنا في مليونية حاشدة يوم الجمعة 18/11/2011م، وكانت سلمية حضارية راقية، لم تقع خلالها حادثة واحدة. وهذا الموقف إنما كان حرصًا منا على أن يأتي الدستور مقررًا لسيادة الشعب، وأنه مصدر السلطات، وحماية للحقوق والحريات العامة، وحماية الشعب والبلاد من أي انقلابات عسكرية يمكن أن تتم بدعوى حماية الدستور مثلما حدث عدة مرات في تركيا. وهذا الموقف أيضًا يكذب كل الزاعمين بأن هناك صفقة بين الإخوان والمجلس العسكري، إذًا.. لو كانت هناك صفقة لتجاوزنا له عن هذا المطلب ولوافقنا على إمرار المادتين (9، 10) من وثيقة السلمي، ولكننا نقدم مصلحة الوطن والشعب وأجياله وحقه في دستور ديمقراطي سليم على كل المصالح، وهو ما أكده الأستاذ عبد العظيم حماد، رئيس تحرير الأهرام، في مقال له؛ حيث قال ما معناه: "إن موقف الإخوان المسلمين من وثيقة السلمي يقطع بما لا يدع مجالاً للشك ألا صفقة بينهم وبين المجلس العسكري؛ خلافًا لما كان يتردد من قبل". في يوم السبت 19/11/2011م وقع عدوان غاشم من الشرطة على مجموعة من المواطنين المعتصمين بميدان التحرير اعتصامًا سلميًّا، وكان منهم مجموعة من مصابي ثورة 25 يناير، واستفز هذا العدوان كل من رآه على شاشات التلفزيون فتنادى الشباب بالنزول لمناصرة المعتدى عليهم، ورفض هذا السلوك الإجرامي في التعامل مع المواطنين المصريين، وحدثت اشتباكات بينهم وبين قوات الشرطة، والعجيب أن دعوات وجهت إلى الإخوان المسلمين من بعض المسئولين إلى النزول إلى الميدان؛ بل النزول في بعض عواصم المحافظات، وبتدارس الموقف واستعراض المشهد العام تجلى لنا يقينًا أن هناك رغبة في استدراجنا إلى الشوارع، ثم حدوث صدام ضخم بين قوات الأمن وكتلة الإخوان المسلمين الكبيرة، ينتج عنه خسائر ضخمة في الأرواح والممتلكات؛ ليُستغل ذلك في التحلل من الالتزامات الديمقراطية وعدم إجراء الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يعرض البلاد والثورة والشعب إلى خطر جسيم، ومن ثم اتخذنا قرارنا بعدم المشاركة في هذه الأحداث لتفويت الفرصة على هذا التدبير، ومما يؤكد تحليلنا: * مطالبة بعض المسئولين لنا بالنزول إلى الميادين على خلاف المرات السابقة؛ حيث كان طلبهم باستمرار عدم النزول إلى الميادين. * توقيت هذه الأحداث قبيل البدء بالانتخابات بفترة قصيرة. * العدوان الوحشي الذي وقع على المعتصمين في الميدان يوم الأحد من قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية، والمناظر البشعة غير الإنسانية التي رأيناها على شاشات التليفزيون. إن قلوبنا تفطرت لسقوط القتلى والجرحى من المواطنين، وكانت الصدمة فادحة أن يقع هذا العدوان من المجلس العسكري الذي اعتبره الشعب شريكًا له في الثورة، وائتمنه على السلطة وإدارة البلاد في الفترة الانتقالية، وعلى رأسها حماية الأرواح والأموال والأعراض والدماء والحريات، وكنا في صراع بين نداء العاطفة وصوت العقل، وبين مصالحنا الخاصة ومصلحة الوطن والشعب، كنا نعلم أن عدم مشاركتنا في هذه التظاهرات سوف يخصم من شعبيتنا ويدفع البعض إلى سوء الظن بنا، ولكننا آثرنا تقديم صوت العقل ومصلحة الوطن والشعب على نداء العاطفة والمصالح الخاصة. وحسبنا في هذا الموقف أن نتذكر موقف النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وهو يرى أصحابه بلالاً وياسرًا وسمية يعذبون حتى يستشهد بعضهم تحت التعذيب، وهو لا يزيد عن أن يقول لهم: "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، وقد يقول قائل: إنه لم يكن يستطيع حمايتهم، والرد على ذلك أنه كان يستطيع أن يأمر أحد أصحابه أو أحد المعذبين أن يقتل من يعذبه، ولكنه نظر إلى النتائج التي كان من الممكن أن تترتب على ذلك فآثر الصبر رغم الألم النفسي والقلبي اللذين كان يعانيهما جراء إزهاق الأرواح وإسالة الدماء. إننا لو كنا انتهازيين –كما يزعم المفترون– لانتهزنا هذه الفرصة لتدعيم شعبيتنا والنزول مع المتظاهرين، ولو على حساب الوطن والشعب، ولكننا بفضل الله لسنا كذلك. إن الانتخابات ليست أثمن لدينا من الدماء والأرواح– كما يزعم الزاعمون– ولكننا نرى أنها الطريق الوحيد السليم لتكوين المؤسسات الدستورية التي يمكنها تسليم السلطة من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية منتخبة في أسرع وقت؛ حتى تصبح السيادة للشعب، وتتحقق مطالبه دون تعويق، ونتخلص من التباطؤ والمماطلة اللتين نعاني منهما الآن، ونتلافى المشكلات كلها وكذلك العدوان الذي يمارس ضد المواطنين. إخوتي الكرام.. أخواتي الفضليات.. أبنائي وبناتي الأعزاء.. هذا هو موقفنا بمنتهى الصدق والأمانة، ولا نبغي من ورائه إلا وجه الله تعالى ثم مصلحة الوطن والشعب، ولعلكم تلاحظون الآن حملة إعلامية شرسة تشنها علينا وسائل إعلام كثيرة، مقروءة ومرئية، كلها افتراءات وادعاءات باطلة، تذكرنا بتلك الحملات التي كان يقودها الحزب الوطني المنحل وأجهزة إعلامه، ولعلكم تذكرون البرامج التي أنشئت خصيصًا لذلك، وعلى رأسها برنامج (حالة حوار)، وليعلم الجميع أننا لن نرد على السيئة بمثلها، ولكن سنرد عليها بالحسنة؛ التزامًا بقوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)( (المؤمنون)؛ ولكنني سأشكو إلى الله تعالى ثم أشكو إلى الشعب المصري الكريم ظلم أهلنا وافتراءاتهم علينا: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد (44)) (غافر). وفي الختام، أود أن أهنئكم جميعًا بذكرى الهجرة النبوية العظيمة، وأستخلص منها معنًى عزيزًا، وهو أن الهجرة باقية ومستمرة ليست بمعنى هجرة الأوطان ولكن بمعنى هجرة المنهيات؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ".. والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"، فالأفراد تهاجر من الأفكار الرديئة إلى الأفكار الصحيحة، ومن الأخلاق السيئة إلى مكارم الأخلاق، ومن المعاملات الظالمة إلى المعاملات العادلة الكريمة، والشعوب تهاجر من الاستبداد والفساد والتخلف والظلم والجهل والتفرق إلى الحرية والشورى والصلاح والنهضة والعدل والعلم والاتحاد. حفظ الله مصر من كل سوء، ووفقنا جميعًا إلى الهجرة إلى ما يرضي الله، ثم يرضينا جميعًا من خير وبر وسلام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أ.د. محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين القاهرة في: 1 من المحرم 1433هـ الموافق 26 من نوفمبر 2011م