14/04/2011
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيد خلق الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد..
حرب غزة وجس النبض العربي
في تحدٍّ سافر ومعتاد لكل المواثيق والأعراف الدولية واصل الكيان الصهيوني تصعيده لهجماته العسكرية الشرسة والظالمة ضد إخواننا الفلسطينيين داخل قطاع غزة؛ ما أسفر عن قتل ما يزيد عن 19 شهيدًا وجرح العشرات خلال الغارات المتواصلة، في وقتٍ من التهدئة التي وفَّرتها حركة حماس طوال الفترة السابقة ووسط تحركات الفصائل الفلسطينية نحو المصالحة الوطنية وسرعة إنهاء الانقسام، مما يعد رغبةً لجس النبض العربي وبيان ما إذا كان الشارع العربي منشغلاً عن قضية فلسطين وأهلها.
وهنا نؤكد أن قضية فلسطين تمثل لنا عقيدةً ثابتةً وعمقًا راسخًا لا يمكننا أن نحيد عنه، وهي قضية محورية لكل العرب والمسلمين، ويخطئ مَن يظن أن الشعوب ستنساها وهي في طريقها لنيل الحرية الحقيقية. ففلسطين تجري منا مجرى الدم في العروق ولا يمكننا أن ننساها أو نتوانى عن نصرتها ودعمها والدفاع عنها، وعن كل حقوقها المشروعة، وفي القلب منها حق مقاومة المحتل الغاصب.
إن شعوب "الثورة" تدرك أن الصهاينة كيان غاصب محتل وعنصري، وأن الشعب الفلسطيني شعب عربي مقاوم يحتاج إلى كل أشكال الدعم والمساندة، كما يجب على دبلوماسية "الثورة " أن تنطلق من ثوابت ومصالح الشعب الفلسطيني أولاً، ومن عمق الرؤية الوطنية والعربية والإسلامية تجاه القضية الفلسطينية، وينبغي التصدي الحازم لأي تصعيدٍ صهيوني ضد أهلنا وإخواننا في فلسطين الحبيبة.
إن الصهاينة الآن يصطادون في الماء العكر ويستغلون وضع الشعوب العربية الراهنة والمنشغلة بأوضاعها الداخلية ومقاومة الأنظمة الاستبدادية، ولكن الشعوب سوف تظل يقظةً وليس أدل على ذلك من تلك المسيرات التي انطلقت من ميادين التظاهر للمطالبة بقطع العلاقات مع العدو الصهيوني ووقف تصدير الغاز له، حاملةً الأعلام الفلسطينية والمصرية واليمنية والسورية، في إشارةٍ إلى حلم الوحدة العربية ودعم واضح لخيار المقاومة الفلسطينية.
سقوط الكنز الإستراتيجي
إن ما قاله وزير الصناعة والتجارة الصهيوني في تصريحه الشهير العام الماضي من أن مبارك "كنز إستراتيجي لإسرائيل" كان بمثابة المسمار الأول في نعش النظام المنهار، لقد انهار السد الذي حمى إسرائيل من ردَّات الفعل العربي، وفقد الكيان الصهيوني الشرطي "والحارس الأمين" لحدوده، واستولى شعب مصر الآن على "الكنز الإستراتيجي"، وأصبح ملكًا للأمة، ولم ولن تعود مصر مرتعًا للصهاينة، فقد ذهب رجلهم إلى الأبد.
قانون التدافع والثورة المضادة
يقول الحق تبارك وتعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية 251).
لقد قامت الدنيا على وجود ليل ونهار، خير وشر، يسر وعسر.. إلخ، ولولا تنافسات البشر لتجمَّدت الحياة على الأرض، ولولا وجود الجانب الشرير في حياتنا لما كانت الحياة على الأرض ولكُنَّا في الجنة، إذن فالشر موجود على الأرض ولا نستطيع اجتثاثه من جذوره والقضاء عليه تمامًا، ولكن مهمة الشعوب أن تحاصره وأن تكون متيقظةً كالديدبان لا يطرف لها جفن، وإذا غفلت الشعوب أو تراخت فإن أعوان الشر وبقايا الفساد سيجتاحونهم كالطوفان، سواء جاء هذا الفساد من خارج البلاد أو داخلها.
إن عدم مقاومة الشعوب للشر وأعوانه هو الذي يُرسِّخ الفساد ويُسهِّل عودته وتوحشه مرةً أخرى، لا شك أن هناك جهدًا ملموسًا في القضاء على الفساد وأجهزة رقابية تعمل إلى حدٍّ كبير، ولكن دورها ما زال حتى الآن كمن ينزح مستنقعًا واسعًا للفساد بدلو صغير.
إن الشعوب تحتاج إلى بناء سد منيع في وجه الفاسدين والمفسدين ليمنعهم من الإغارة والإفساد والقضاء على مكتسبات الثورة، والواقع أن قانون التدافع يعمل ولكن بوتيرةٍ خافتة وغير منتظمة وغير كافية، وتسريع تلك الوتيرة هو مهمة الشعوب في تلك المرحلة حتى تنهض البلاد وتقف على قدميها وتستعيد قوتها وعافيتها.
القصاص من المفسدين واجب الوقت
لم نكن نستطيع مقاومة الصهاينة والتصدي لهم؛ لأن الفساد الداخلي كان قد بلغ مداه وسرى في شرايين الأمة فأضعفها وتخلل أجهزتها فتوقفت وتخلَّفت واتسع الخرق على الراقع، ووقعنا بين شقِّي الرحى، فساد داخلي يحتاج إلى علاج وفساد أكبر يحيط بنا من الخارج، ومؤامرات بالليل والنهار للنيل من الأمة يحيكها الصهاينة والأمريكان.
كما أن بعض الذيول يدفعون الأموال من أجل إعادة الفساد وضياع الكرامة والعزة، ولكن أموال الدنيا جميعًا لا توزن أمام دماء الشهداء التي سالت على أرض مصر، فهل تبيع الشعوب دماء أبنائها من أجل حفنة من الدولارات؟
لقد كانت كلمة بليغة تلك التي قالتها أم شهيد من الشهداء في حفل تكريم ابنها: "لا أريد تعويضًا ماليًّا ولا أن يُكتب اسم ابني على أحد الشوارع إنما تكريم ابني هو أن أرى قاتله يُقتص منه حتى ترتاح نفسي وآخذ بثأره، وصدق الله العظيم (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 179).
فهذا هو مطلبنا جميعًا أن يُقتص من جميع القتلة والمجرمين في حق شعوبهم وأوطانهم، وأن يحاكموا محاكمة عادلة وعلنية أمام الجميع ليظهر الله الحق ويبطل الباطل وعندها يعلم الذين ظلموا وقتلوا ونهبوا أي منقلبٍ ينقلبون.
العدو الصهيوني وبداية النهاية
يأتي الصهاينة اليوم مؤيدين من أمريكا والغرب ومُسَلحين حتى أسنانهم ليضعوا المسمار الأخير في نعش العلو والاستكبار على مشهدٍ من الملأ العالمي وعلى مسرح التاريخ.
يقول ربنا جل وعلا: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًا كَبِيرًا..) (الإسراء: 4)، وهو سبحانه الذي قال أيضًا (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسراء: من الآية 7)، وهو أيضًا الذي قال: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ) (الأعراف: من الآية 167).
وما فعلوه في جولتهم الإفسادية الثانية هو عين ما فعلوه في الإفسادة الأولى بقصد تشويه الإسلام ووصمه بالإرهاب والدموية وتأليب الغرب كله وحشده ضد الإسلام، كما فعلوا بقبائل الجزيرة قبيل غزوة الخندق، وهذه المرة أثاروها فتنةً شعواء في كل دولة، وفي كل بؤرة مشتعلة من لبنان وأفغانستان إلى الصومال والسودان سعيًا بالفتن وإشعالاً للحروب؛ تمهيدًا لمعركة فاصلة لإخضاع المنطقة العربية واقتلاع الإسلام من جذوره.
لقد دخل الصهاينة في العلو الذي ذكره القرآن والعلو الصغير صائر إلى العلو الكبير، كما أنهم لن يظلوا يوجهون ويسيطرون على الإدارات الأمريكية مدى الحياة، وسوف تأتي اللحظة الفاصلة التي تتصادم فيها المصالح.. وستكون آيات ومعجزات يضعها مالك الملك ومالك القوى والقدر الذي لا يحسب له الماديون أي حساب، ووفقًا لمشيئته سبحانه وتعالى لا بد أن يكون لهذا الليل آخر، ولا بد أن يكون لدين الحق انتصار رغم كل ما نرى من مكر وكيد ورغم ما نرى من ترسانات السلاح، ولكن القصة ربما تطول لأجيال، وربما تقصر، ولا يعلم الغيب إلا الله، المهم أن الشعوب لا تقصِّر بل تعمل وتجتهد وتقاوم، فالمقاومة هي صناعة الأمة وتأخذ بالأسباب وتتوكل على رب الألباب، وتعلم أن الله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.