03/09/2009
الإخوة المسلمون..
تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمدُ اللهَ تعالى، واسعَ العفو، غزيرَ الإحسان، وأصلِّي وأسلمُ على رسوله الأكرمِ، ورحمتِه للعالمين، وختامِه للرسالات والنبيِّين، وعلى آلِه وصحبِه والتابعين، وبعد..
فيسعدُني أن أتقدمَ بخالصِ التهنئةِ لكم جميعًا بالشهرِ الكريمِ، شهرِ رمضانَ، الذي أُنزل فيه القرآنُ، هدًى للناسِ، وبدأت به الرسالةُ العامةُ الكاملةُ الخاتمةُ من اللهِ ربِّ العالمين للبشرِ كافةً، في كلِّ الأصقاعِ والبقاع، ولكلِّ الأممِ والأجيالِ ما بقيت على ظهرِ هذه الأرض حياةٌ.
لقد اقتضت حكمةُ الله ورحمتُه أن تتصل السماءُ بالأرض، وأن يتنزَّل الوحيُ بالهدايةِ والمنهاجِ؛ ليسعدَ الناسُ في الدنيا والآخرة.. (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ*يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: من الآيتين 15-16).
لذلك جعل الله تعالى هذا الشهرَ ظرفًا لفريضةِ الصيامِ (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: من الآية 183).. الصيامِ عن ضروراتِ الحياةِ وشهواتِها المباحةِ، ومن باب أولى عن المعاصي والشهواتِ المحرَّمةِ، ماديةً كانت أو معنويةً؛ لتهذيبِ النفسِ، وتقويةِ العزيمةِ، وشحذِ الإرادةِ؛ ليكون المسلمُ سيدَ نفسِه، ومن ثمَّ سيدَ الكون، كما أراده اللهُ، يعمُره بالخيرِ، ويتصدَّى للشرِّ، كما شرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قيامَ الليل في الصلاة، والتهجدَ، والذكرَ، وتلاوةَ القرآن، وشرَعَ زكاةَ الفطر، وكما كرَّم الله تعالى هذا الشهرَ لنزول القرآن فيه، فقد رفعَ قدرَ الليلةِ التي بدأ نزولُ الوحيِ فيها أيَّما رفعةٍ، وجعلها خيرًا من ألفِ شهرٍ، فهلاَّ استوعبْنا الدرسَ، وقدرْنا القرآن قدرَه، واتخذناه لنا إمامًا ونبراسًا ومنهاجًا، ولم نقفْ عند حدِّ القراءةِ والتبرُّكِ فحسب.
أيها الإخوة المسلمون الكرام..
إنني أسعدُ كلَّ السعادةِ حينما أرَى إقبالَ المسلمين على الطاعاتِ، والمنافسةِ في الخيراتِ، ولكني أشعرُ أن هذه المسارعةَ إنما تبتغي الخلاصَ الفرديَّ أو الشخصيَّ دون كبيرِ اكتراثٍ بهمومِ الأمةِ وأزماتِ العالمِ.. إنني حين أتلفَّت حولي فأرى أمتَنا- المفروضُ فيها أنها خيرُ أمةٍ أخرجت للناس، تأمرُ بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمنُ بالله- أراها تتقاتلُ بلا عقلٍ ولا ضميرٍ، تسيل فيها الدماءُ أنهارًا، تحكمُها مجموعاتٌ من المستبدِّين بالحديدِ والنارِ، تصادِرُ الحرياتُ، وتستبيحُ الحرمات، وتزوِّر الانتخاباتِ، وتملأُ السجونَ بالمخلصين والمصلحين، وتعذِّب الأبرياءَ، وتحتقرُ القانونَ، وتتلاعب بالقضاءِ، وتكمِّمُ الأفواهَ، وتنهبُ الثرواتِ، وتقرِّب المفسدين، حتى سقطت غالبيةُ الشعوبِ في هوَّةِ الفقرِ والعوزِ والبطالةِ والمرضِ؛ حتى وصلت دولنا- للأسف الشديد- إلى مؤخرةِ الدولِ المتخلِّفةِ في مجالاتِ الحريةِ، وحقوقِ الإنسانِ، واحترامِ القانونِ والشفافيةِ، والعلمِ والجامعاتِ والاختراعِ، والتنميةِ والصحةِ، والاستثمارِ، حتى غدا زمامُ قراراتها في أيدي أعدائها، يسوقونها إلى حيث يريدون، على حساب أمنِها وشعوبِها ومقدساتِها وثرواتِها واستقلالِها واستقرارِها وتقدمِها.
وهذا يدلُّ على أننا فقدنا البوصلةَ، وجهلنا حقيقةَ دورِنا ورسالتِنا في هذه الحياة، المتمثلة في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: من الآية 143) وقوله عز وجل: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) فالدعوةُ إلى اللهِ والشهادةِ على الناسِ بلسانِ الحالِ (الواقع) المُشَخِّصِ لحقيقةِ الإسلامِ والمجسِّمِ لحضارتِه التي عاشت البشريةُ في ظلالِها قرونًا عديدةً؛ هما الواجبان المفروضان لردِّ المسلمين إلى صحيحِ دينِهم وهدايةِ البشريةِ إلى طريقِ السعادةِ والسلامِ، فلم تكن البشريةُ أحوجَ إلى الإسلام منها في هذا الوقت.
إننا نعيش في ظل هيمنة الحضارة الغربية التي قامت على استعمار الدول وإذلال الشعوب واستنزاف الثروات، والتي أبادت أممًا وشعوبًا من على وجه الأرض، وقتلت ما يزيدُ على سبعين مليونًا من البشرِ في حربيْن عالميتيْن غير الجرحى، واستخدمت القنابلَ النوويةَ على اليابانِ بلا مبرِّرٍ، وقتلت الملايينَ في فيتنام والعراقِ وأفغانستانَ، ولا تزال تنشرُ القلاقلَ والفتنَ في أنحاءِ الأرضِ؛ لإشباع الجشعِ الماديِّ والرغبةِ في السيطرةِ والتسلطِ.
إن هذه الحضارةَ تبدو كعملاقٍ ضخمٍ في مجالِ التقدمِ الماديٍّ، وقزمٍ ضئيلٍ في مجالِ القيمِ والأخلاقِ، ولذلك ما إن انهار الاتحادُ السوفيتيُّ حتى ظهرت نظرياتُ معاداةِ الإسلامِ وصراعِ الحضاراتِ ونهايةِ التاريخِ، وما درَوا أن الإسلامَ الذي يعادونه ويحاربونه هو خلاصُهم ونجاتُهم من وهدةِ الطينِ وظلامِ المادةِ الذي يعيشون فيه.
قد يتساءل كثيرون: هل للإسلامِ طاقةٌ بالتصدِّي لهم، فضلاً عن اجتذابِهم، وأقول بكل الثقةِ: إن الإسلامَ تصدَّى لمحنٍ قاسيةٍ، تصدَّى للتتارِ وانهزمَ المسلمون أمامَهم، وانتهى الأمرُ بدخولِ المنتصرين في دينِ المغلوبين؛ لِمَا رأوه فيه من رقيٍّ وكمالٍ، وكانت هذه أولَ مرةٍ في التاريخِ.
ونحن إن لم نملكْ جزءًا ضئيلاً من القوةِ الماديةِ التي يملكون؛ فإننا نملكُ رسالةَ اللهِ للعالمين.. نملكُ رصيدَ الفطرةِ المكنونَ في نفوسِ البشرِ أجمعين، نملكُ الإيمانَ والقيمَ والمبادئَ والأخلاقَ التي يحتاجها الناسُ.
أيها المسلمون الكرام..
لا تهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ولو كنتم ضعفاءَ وفقراءَ؛ شريطةَ أن تعرفوا قيمةَ ما تملكون، وأن تعتزُّوا به، وأن تعملوا وأن تدْعُوا له.
إنكم تملكون عقيدةً في الله جاءت بها كلُّ الرسلِ.. أرقى عقيدة عرفها البشر، تقوم على التوحيدِ الخالصِ الذي لا تشوبه شائبةُ شرك قط.. اللهُ فيها هو الخالقُ البارئُ المصوِّرُ، الرازقُ الحكيمُ الخبيرُ، الرحمنُ الرحيمُ، هو الكمالُ والجلالُ المطلقُ، صاحبُ العزة والجمال، مالكُ الملكِ ربُّ العالمين، وتؤمنون بالأنبياء جميعًا، لا تفرقون بين أحدٍ منهم؛ باعتبارهم قمةَ الكمالِ البشريِّ وتنزِّهونهم عن كل نقصٍ وخطيئةٍ نُسبت إليهم، وتتخذونهم قدوةً وأئمةً وضياءً.
وتؤمنون بالكتبِ السماويةِ كلِّها، وأنها في أصلِها من مشكاةٍ واحدةٍ تهدي إلى الرشدِ وإلى صراطٍ مستقيمٍ، وتحقِّق السعادةَ في الدنيا والآخرةِ، وأنَّ القرآنَ الكريمَ مصدقٌ لها ومهيمنٌ عليها، وكلمةُ الله الخاتمةُ للعالمين.
وتؤمنون بيوم القيامة.. يومَ يقوم الناس لرب العالمين، ويُنصَب فيه الميزانُ بالقسط، ويُجزَى كلٌّ بما قدمت يداه؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47).
وتؤمنون بأن الناس جميعًا لآدمَ، وآدمُ من ترابٍ، لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ إلا بالتقوى والعملِ الصالحِ النافعِ للناسِ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
واللهُ عزَّ وجلَّ هو ربُّ العالمين، وليس ربَّ قوم دون قوم، أو قبيلة دون أخرى، أو مجموعة من الناس دون غيرهم، والناس متساوون كأسنان المشط.
واللهُ تعالى سخَّرَ للإنسانِ ما في السماوات وما في الأرض (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية: من الآية 13)، وأمرَه أن يستكشفَ أسرارَها، ويستخرجَ كنوزَها، ويطوِّعَها لخدمتِه (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: من الآية 15).
وكرَّم هذا الإنسانَ على العالمين (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الإسراء:70)، ومن ثمَّ حرَّمَ العدوانَ على حياتِه أو على بدنِه أو عِرضِه أو مالِه أو كرامتِه، واعتبرَ قتْلَ فردٍ واحدٍ كقتلِ الناسِ جميعًا (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: من الآية 32).
وخلق الناسَ أحرارا "متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، ومن ثمَّ كفلَ لهم حريةَ العقيدةِ والعبادةِ والرأيِ والتعبيرِ والتجمعِ والعملِ والانتقالِ.
كما فرضَ اللهُ تعالى عباداتٍ تزكي النفوسَ، وتُطهرُ القلوبَ، وتُحيِى الضمائرَ، وتُحلِّقُ بالأرواحِ، وتصلُ الإنسانَ برب العالمين، فترتقي مشاعرُه وتتهذبُ أحاسيسُه وتنضحُ بالخيرِ على سلوكه نحوَ الناس، إضافةً إلى آثارِها الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ، فالصلاةُ والزكاةُ والصيامُ والحجُ هي الأركانُ الخمسةُ بعد الشهادتين لهذا البناء الروحاني العظيم.
وكذلك فرضَ أخلاقًا ساميةً جعلَها محورَ الرسالةِ وجوهرَها "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فالصدقُ والأمانةُ والوفاءُ والبرُّ والكرمُ والتسامحُ والعفوُ والصفحُ والتضحيةُ والبذلُ.. إلى آخر الأخلاقِ الكريمةِ؛ كلُّها أمورٌ مفروضةٌ، وهي ترتبطُ ارتباطًا لا فكاكَ منه بكلِّ المعاملات بشتَّى أنواعِها حتى يعدَّها الرسولُ صلى الله عليه وسلم هي الدين.. "الدين المعاملة".
كما شرع اللهُ تعالى شريعةً تنظِّم أمور الحياة، وتحدِّد العلاقات بين الناس، شرع فيها أحكامًا ثابتةً في الأمور التي لا تتغير بتغير الأزمان والأماكن، وترك للمجتهدين أن يستنبطوا الأحكام المناسبة لأجيالهم وأزمانهم في إطار المبادئ والقيم والأخلاق الإسلامية.
ونظَّم الإسلامُ العلاقةَ بين الرجل والمرأة في إطار الأسرة، وسوَّى بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية وأسس الأسرة على التكامل بين الزوجين، في سبيل توفير مقوِّمات الحياة، وتحقيق السعادة لجميع أفراد الأسرة.
ونظَّم العلاقة بين الأفراد، في المعاملات المالية، في البيع والشراء، والرهن والإجارة، والمزارعة والاستثمار، والهبة والوكالة وسائر العقود.
ونظَّم العلاقة بين الحاكم والشعب، على أساس حقِّ الأفراد في تولِّي هذا المنصب وغيرِه من المناصب، وأن ولاية هذا المنصب لا تكون إلا برضا الشعب (الأمة مصدر السلطات) أي بالانتخاب الحر النزيه، وأن هذا هو طريقُ اكتساب الشرعية، وأن المركزَ القانونيَّ للحاكم إنما هو النيابةُ عن الأمة أو الوكالة عنها في تنفيذ الأحكام والسياسات الشرعية النصيَّة والاجتهادية التي تسنُّها الهيئة التشريعية، وأن الأخيرة هذه إنما تتبوَّأ مناصبَها بالانتخابِ الحرِّ النزيهِ أيضًا.
وبيَّن الإسلام أن سيادةَ القانون تسري على الكبير والصغير والحاكم والمحكوم، ولا سلطانَ لأحد على القاضي إلا ضميرُه والقانونُ الذي يحكمُ به، وحسبُنا حديثُ الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما أهلك من كان قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
كما حرَّم الموبقاتِ والخبائثَ؛ فحرَّم الزنا والربا والخمرَ والمخدراتِ والغشَّ والاختلاسَ والنهبَ، ولهذا جاء في الحديث الشريف: "إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة" وجاء فيه أيضًا: "هدايا الأمراء غلول"؛ أي الهدايا التي تقدَّم للحكام إنما هي سرقةٌ لو أخذوها لأنفسهم.
ويحكم كلَّ هذا تقوى اللهِ عزَّ وجل، ويحرُسه الضميرُ قبل أن يحرسَه القانونُ.
أيها المسلمون الأفاضل..
هذه بعضُ معالم إسلامنا التي نحتاجها ويحتاجها العالمُ كله، لا سيما في هذا الزمان، فضلاً عن أنها تؤسِّسُ لنهضة عظيمة وحضارة عملاقة للعالم العربي والإسلامي؛ إنْ هو سار على دربها وأخذ بها، والتزم منهاجها، انتفعَ بها الناسُ جميعًا على اختلاف عقائدهم وأجناسهم.
إذًا فنحن نملكُ ما نقدمُه للبشرية، وهو أغلى بكثير مما نحتاجُه منهم، من سلعٍ وأدواتٍ ومحاصيلَ؛ فهل نغيِّرُ ما بأنفسنا حتى يغيِّرَ الله ما بنا، وحتى نكون شهداءَ على الناسِ بحقٍّ؟!
إننا نستطيع- بفضل الله- أن نفتح قلوبَ الناس في العالم كلِّه بالكلمة الطيبةِ والدعوةِ المخلصةِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والحوارِ العقليِّ البنَّاء؛ حتى نعيدَ الروحَ والإنسانيةَ والاعتدالَ إلى الحضارةِ الغربيةِ، ومن فضلِ الله أن وسائلَ الاتصالِ والإعلامِ ذلَّلت هذه المهمة، كما أن ما وهبنا الله من ثرواتٍ يُتيح لنا كمسلمين القيامَ بهذه الرسالةِ؛ فهل نستطيع تبنِّيها حكوماتٍ وشعوبًا من أجل سعادة البشرية؟!
إنني وأنا أفتح باب الأمل على مصراعيه إنما أتمثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبشِّر أصحابه بانتشار الإسلام في العالم، يبشرهم بذلك وهم في قلب المحنة والأحزاب يحيطون بهم من كل جانب ليستأصلوا شأفتهم ويبيدوا خضراءهم.
وأقول هذا الكلام بينما الألم يعتصرُ قلبي، والمرارةُ تملأ نفسي مما يحدث في مصر، من قمعٍ واعتقالٍ وتلفيقٍ للاتهاماتِ، وترويعٍ للآمنين، وتضييقٍ على الجميع، ونهشٍ للأعراض في وسائل الإعلام، ومصادرةٍ للأموال، واحتقارٍ لأحكام القضاء، وأذكِّر من يفعل ذلك بقولي: أما آن لكم أن تصوموا عن حرماتِ الناس وحرياتِهم وحقوقِهم وكرامتِهم وأموالِهم وأعراضِهم؟ إنكم بما تفعلون إنما تظلمون أنفسَكم قبل أن تظلمونا، وتظلمونَ وطنكم وشعبكم بحرمانه من أسباب النهضة والتقدم، وتظلمون دينَكم بحرمانِ البشريةِ منه، وهي أحوجُ ما تكون إليه، وتخدمون- دون أن تدروا- الصهاينةَ أعداءَ الأمةِ في مشروعِهم الإجراميِّ للسيطرةِ عليها.
وأقول أيضًا لناهبي أموال الأمة.. أما آن لكم أن تتوبوا عن الحرام، وتُعيدوا للفقراء والمعدَمين حقوقَهم؛ ليجدوا الكفافَ قبل أن تنفجر ثورةُ الجياع والمحرومين، أو قبل أن ترحلوا إلى الله بلا درهمٍ ولا دينارٍ، وإنما بالجرائم والأوزارِ؟!
وأنتم أيها المستبيحون لدماء المسلمين في العراق وأفغانستان وباكستان والصومال والسودان.. أما آن لكم أن توقفوا شلالَ الدماءِ وتنشروا السلامَ والوئامَ، وتشعروا بمسئوليتكم أمام الله عن الشعوبِ وعن الإسلامِ وحضارته وعن البشريةِ وحاجتِها.
وأنتم أيها الحكام الذين تشاركون في حصار إخوانكم الصامدين في غزة، طاعةً للمتكبِّرين والغاصبين من الأمريكان والصهاينة.. أما آن لكم أن ترفعوا الحبلَ عن أعناقِ إخوانِكم، وأن توفوا بوعودِكم في إعمارِ ما دمَّره العدوانُ الصهيونيُّ عليهم، وألا تخذلوهم في موقفٍ هم محتاجون فيه إلى نصرتِكم؟ قبل أن تحتاجوا إلى نصيرٍ أو شهيدٍ عند اللهِ فلا تجدوا إلا الخذلان؟
وأنتم أيها الأحرارُ الشرفاءُ المجاهدون، يا من تقبعون في غياهبِ السجونِ.. في مصر وفلسطين والعراق وفي كلِّ مكان.. ظلمًا وعدوانًا، وتُحرمون من أهليكم وإخوانِكم في هذا الشهرِ الفضيلِ، يا من تأمرون بالقسط، وتبتغون الإصلاحَ، وتعزُفون عن المناصبِ والمصالح، وتضحُّون في سبيل الله؛ اعلموا أن الله معكم ولن يتركم أعمالكم، وأن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكرْب، وأن مع العسرِ يسرًا، وأننا على العهدِ باقون، وعلى الطريق ثابتون، وأن العاقبة للمتقين (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: من الآية 227).
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف: من الآية21).