22/05/2009
بسم الله، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه إلى يوم الدين.
لقد أصبح واضحًا للشعوب الإسلامية مدى الحاجة إلى الإسلام،بمفهومه الشامل وتطبيقه العملي الصحيح، الذي يضمن لها الاستقرار، والأمان في ظل راية الربانية؛ ولذا فدعوتنا ليست دعوةً أرضيةً تحكمها المصالح، لكنها تسير على قواعد الإيمان بالله، التي بدأ بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعوته، محققًا ربانية الدعوة وإسلامية الرسالة.
فالإيمان العميق لا يتم إلا بمعرفة الله تعالى، التي تحقق الحب له سبحانه، حبًّا لا يعدله أي حب آخر: ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) البقرة: من الآية 165)؛ ولذلك يقول الإمام البنا- عليه رحمة الله-: "فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح، حياة القلوب، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر، نحن نريد نفوسًا حيةً قويةً فتيةً، قلوبًا جديدةً خفَّاقةً، مشاعر غيورة ملتهبة مضطرمة، أرواحًا طموحة متطلعة متوثبة، تتخيل مُثُلاً عليا، وأهدافًا ساميةً لتسمو نحوها..".
والإيمان بالرسالة وعظمتها، والأمل في انتصارها، هو الذي يرفع من شأن الأمة: ( كنتم خير أمة أخرجت للنا تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) آل عمران: من الآية 110), وساعتئذٍ فالله مع أبناء دعوته، يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم، ويمدهم من قوته: ( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز ) الحج: من الآية 40).
ونعني بالربانية: أن أي عمل إصلاحي نقوم به إنما نقوم به منمنطلقاتٍ ربانيةٍ، وتحكمنا ربانية الدعوة التي ننتمي إليها، ومن ميزة الربانية التيتتسم بها دعوتنا أنها ربانية المصدر، بمعنى أنها تتلقَّى أوامرها من كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وتسير وفْق مراده سبحانه، وما أوجبه الله علينا، وربانية الوجهة: ومعناها أننا نبتغي بكل عمل نقوم به وجه الله وابتغاء مرضاته، ومنهنا فإننا محكومون بأن نجعلَ الوسيلةَ ربانيةً أيضًا ؛ فلا ننهج في التغيير أي وسيلةٍ مرفوضة شرعًا، ولو كانت مؤدية لتحقيق الغاية الربانية.
ووفق هذه القواعد:
- يتعلم أصحاب الدعوة الربانية: عندما يختارون طريقها، ويقدمون في سبيلها التضحيات، أنهم في فريضةٍ شاقةٍ وصعبة ولكنها واجبة، فهي الطريق الذي اختاره الله لعباده : ( وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) البقرة: من الآية 216).
_ ويترسخ عند أصحاب الدعوةالربانية:أن من علامات نجاح الدعوات أن تنميها المحن، وتقويها الضربات من خصومها، وهذه دعوة الإخوان المسلمين تمضي في طريقها، وتزداد يومًا بعد يوم قوةً،بفضل من الله تعالى، ثم ثبات أبنائها، وقوة منهجها.
- ويتأكد لدى أصحاب الدعوةالربانية:أن من علامات تقدم الدعوات البذل والتضحية والفداء، بالمال والنفس، بل والحرية، في سبيل عقيدتهم وأمتهم ورفعة شأن أوطانهم، بل والرقي بالإنسانية كلها؛ لأنهم يحملون رسالةَ الإسلام إلى العالم مهما كان الثمن، ثم هذه سنة الدعوات والرسالات، من الكيد والآلام والجراح، من أجل أن تعود العزة المفقودة،وترجع الأمجاد المسروقة.
- ووفق هذه الدعوة الربانية: احتسب الإخوان هذه السنة في منهجهم كمرحلةٍ أساسيةٍ في طريق الإصلاح والتغيير، واستقر في فهمهم أن الإسلام توعد الله بحفظه إلى أن تقوم الساعة، فالذين يقدمونه على أموالهم وأنفسهم وأسرهم وعملهم، هم المعرضون لامتحان الثبات على المنهج الرباني، حاملين عبء الأمانة التي أشفقت مَن حملها السماوات والأرض والجبال، وتعمق في قلوبهم أن هذه الابتلاءات ما تزيدهم إلا يقينًا بأنهم على الصراط المستقيم: ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً ) الإسراء: من الآية 74)، وبأنهم ثابتو الخطى على دعوتهم: ( فلا تطع المكذبين (8) ودوا لو تدهن فيدهنون (9)) القلم).
يقول الإمام البنا عن آثار المحن الربانية: "وصادف ذلك امتحان لدعوة الإخوان كشف عن جوهرها ولفت أنظار الناس إليها، وجمع كثيرًا من القلوب النافرة حولها، وبذلك انتقلت الدعوة إلى القلوب المؤمنة والعقول المفكرة، وأصبحت قاعدةً مسلمًّا بها بعد أن كانت عاطفةً متحمسةً، ونظر إليها كثيرٌ من الناس على أنها مبادئ ممكنة التحقيق صالحة للتطبيق، فلم تعد حلمًا في الرءوس أو وجدانًا في النفوس فقط".
فيا قومنا:
إن كنتم تعتبرون إصلاحنا للمجتمع ومناشدتنا للتغيير، ووقف هذا التردي في جميع الأحوال، وإزالة هذا الاحتقان والانسداد في الحياة السياسية،بأنه عملٌ محظور، فلتعلموا بأنكم قد أخطأتم التقدير، وتجنبتم الحقيقة، فما ننشده هوأمل الأمة، وملتقى الفكر، وما أجمعت عليه الأحزاب، والتقت عليه التيارات بكافةأطيافها.
الربانية طريقنا للإصلاح
إن الربانية هي إصلاحٌ للنفس والمجتمع، فالربانيون استحفظوا كتاب الله، فهم المسئولون أمام الله عن حفظ الشريعة، وعن نقلها وتعليمها لعباد الله: ( بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ) المائدة: من 44)، فالرباني يشعر أن الله سيسأله عن الشريعةِ كلها، وعن هذه البشرية جمعاء؛ إن أولى خطوات خلاص العالم كله مما يداهمه يكمن في عودتنا للربانية الجادة والحقيقية والعمل الجاد لنصرة الإسلام ورفعة شأنه، ومن هنا وجب على كلِّ الغيورين والمخلصين للإسلام العجلة والفرار إلى الله: ( ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين ) الذاريات: من 50)، وليكن شعارنا: ( وعجلت إليك رب لترضى ) طه: من الآية 84).
وقد دلنا الإمام الشهيد أننا إذا رأينا العقبات على الطريق، نتذكر بجوارها عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة، وهي:
- أننا ندعو بدعوةِ الله، وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرةالإسلام وهي أقوى الفكر، ونُقدِّم للناس شريعة الله، وهي أعدل الشرائع.
- وأن العالم كله في حاجةٍ إلى هذه الدعوة وكل ما فيه يُمهِّد لها ويهيئ سبيلها.
- وأننا بحمد الله براء من المطامع الشخصية بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته.
- وأننا نرقب تأييد الله ونصرته، ومن نصره الله فلا غالب له،فقوة دعوتنا وحاجة العالم إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله إيانا، هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يتوقف في طريقها عائق.
ويا أمتنا:
إن الشرفاء الذين يواجهون المؤامرات والاعتقالات وقضايا التدليس والتلفيق، يعلمون أنهم بثباتهم سوف تزال المؤامرات، وبيقينهم ستمحى الشبهات: ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً ) الأحزاب).
وليس إلى نجاح الدعوات إلا هذا الطريق، فالدعاة الربانيون هم الذين يواجهون المحن ولا يلجأون إلا إلى الله، ولا يحنون جباههم لغيره.
الربانية طريقناللحرية
مَن لا يطلب منا أن يعيش حرًّا: في ماله، في انتقالاته، في تعبيره، في آرائه، في إرادته، في اختياراته، في كل شيء؟.. إن الحرية هي الحياة الحقيقية التي يحياها الإنسان، والطريق إلى الحرية هو الضمان الوحيد للحصول على الحرية والتمتع بها، ولا أجد وصولاً للحرية إلا عن طريقِ الربانية، فمن الرباني يبدأ طريق الحرية، فالرباني هو الذي ينتسب لربه، وهل هناك انتساب أشرف وأكمل وأجمل من الانتساب لله تعالى، وهل انتفع مَن انتسب لغير الله؟ إنَّ كل ما حصلوا عليه من مالٍ أو منصبٍ أو وجاهةٍ أو متاع أو أمن أو غير ذلك، لا يساوي شيئًا بجوار فضل الله تعالى؛ ولذلك كان الانتساب لله تعالى انتسابًا في الحقيقة لصفات الكمال؛ حيث العلم بالله، والتميز الخلقي، والقدوة للناس: ( ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) آل عمران: من الآية 79)، ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ) المائدة: من الآية 63).
وبالتأمل في الآيات نجد أن الرباني هو عالم واعٍ، وعابد طائع، وداعية مربٍّ، يجتهد لربه كما يجتهد في مجتمعه، وقد حددت الآية موضعين يؤدي فيهما الرباني مهمته في وطنه:
أمام قول الإثم:وهو اليوم ممثَّلفي الآلة الإعلامية المضللة التي تُثير الشبهات، وتنشر الشهوات بكل أنواعها المرئية والمسموعة والمقروءة.
وأمام أكل السحت:والممثَّل اليوم فيما نراه من نهبٍ منظم، ولصوصية مقننة، وفساد مشروع، وامتلاك نسبة قليلة لكل ثروات الأوطان، فالربانية هي التي تحررنا.
يقول الإمام البنا: "أخص خصائص دعوتنا أنها ربانية عالمية: أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعًا، أن يتعرف الناس إلى ربهم، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانيةً كريمةً تسمو بأنفسهم عن جمود المادةالصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها، نحن - الإخوان المسلمين- لنهتف من كل قلوبنا: "الله غايتنا".
وأما أنها عالمية فلأنها موجهة إلى الناس كافةً؛ لأن الناس في حكمها إخوة، فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان،ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بني الإنسان".
ويا أبناء الدعوة الربانية:
فمن الإيجابية اليوم، أن يكون أبناء الدعوة الربانية على فهمٍ عميق، بأن خيرَ مواجهة للمحن هي العمل المتواصل، والتمسك بمنهج الإصلاح والتغيير، ولا تهاون في النهوض والارتقاء بأمتنا وبمصرنا.
فاعتزوا بمصريتكم: فالمصرية لها في دعوتنا الربانية مكانهاوحقها في الكفاح والنضال، وقد علمتنا أننا مصريون بهذه البقعة الكريمة التي نبتنافيها ونشأنا عليها، يقول الإمام البنا عن بلدنا مصر: "وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع، وكيف يقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأنناحين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام".
واعتزوا بعالمية هذه الدعوة الربانية: يقول الإمام البنا: "أما العالمية أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمي وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح، والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة، وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلابد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفًا، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم هذاالبناء الإنساني، وليس علينا أن يتم البناء، فلكل أجل كتاب".
وأحسنوا التعامل مع السنن الربانية: ( ولن تجد لسنة الله تحويلاً ) فاطر: من الآية 43)، فهي سنن ماضية، واقعة على البشر جميعًا، فالرباني يفهمها ويحسن التعامل معها ويوظفها لنفسه ولأمته، ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد: من الآية 11).
ويكفينا قوله تعالى: ( فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (44)) الزخرف)، ( فتوكل على الله إنك على الحق المبين (79)) النمل).
فالربانية هي السر في بقاء هذه الدعوة رغم الأعاصير الهادرة، بل إن السرَّ في الامتداد العالمي يبدأ من الربانية كذلك، ولو علم أعداؤها ذلك لوفروا جهودهم الضائعة، وأموالهم المهدرة، لسبب واحد أنها ربانية: ( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ) الأنفال: من الآية 36).
ما أحوج دعوتنا إلى كل رجلٍّ رباني، يترسم خطى المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، كما ترسمها الإمام البنا، بدعوة الناس للسير إلى ربهم، ليستمدوامن جمال الاتصال قوةً روحيةً، يواجهون بها المشكلات والمصائب والأزمات, فأساس أهدافهذه الدعوة الربانية، تذكير الناس بالصلة التي تربطهم بالله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله لرب العالمين..
والله أكبر ولله الحمد.