22/12/2010
خواطر مع خسوف القمر بين أمس واليوم : نبيل شبيب
لا يصحّ الأخذ بمقولة إنّ المعجزات هي الطريق الأوحد إلى الإيمان، فالقرآن الكريم يؤكّد في سورة الإسراء (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)، ويورد كثير من العلماء الأجلاء ما يوردون بصدد الإعجاز القرآني، لا سيّما تحت عناوين ما أثبته العلم الحديث وتوافق مع ما ورد في القرآن الكريم، ولكن لا يزعمون أنّ القرآن أورد "نصوصا علمية"، فمنزلة القرآن الكريم أعلى شأنا وأشمل مضمونا، كما لا يزعمون أنّ هذا "يشهد" على صحّة القرآن الكريم، فليس هو في حاجة إلى "شهادات" من أي طرف مهما بلغ شأوه من العلم والعقل، إنّما يمكن أن يندرج مثلا في إطار قول سيدنا إبراهيم لربه: (بلى ولكن ليطمئنّ قلبي).
لقد شاع بين كثير من المسلمين تناقل أخبار وأحداث بصورة توهم برؤيتها أدلّة على كون القرآن الكريم هو كلام الله عزّ وجلّ، وبالتالي على صحّة الإسلام نفسه، وهذا ما يكشف عن أمرين، أوّلهما درجة من شعور بالنقص أو الضعف أو اضطراب الإيمان بما يدفع للبحث عن "أدلّة" بأي طريق لمواجهة المستكبرين بها بعيدا عن أسلوب التحدّي القرآني (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا..) كما في سورة الإسراء، والأمر الثاني هو اضطراب فهم ما تعنيه المعجزات والكرامات وما شابه ذلك في نطاق الدين الإسلامي.
الإيمان بين الهداية والعلم والمعجزات
ورد في تعريف الإعجاز معنى التحدي مع توافر شروط معيّنة تجعل عدم الاستجابة للتحدّي ناشئا عن العجز، وفي تعريف المعجزة أنّها أمر "خارق للعادة"، أي ما اعتاد الناس عليه عند وقوع المعجزة، والاعتياد مرتبط مباشرة بالدرجة التي وصل إليها العلم البشري بالقوانين التي أراد الله تعالى أن يسري مفعولها فيما خلق وعلى من خلق، وبهذا المعنى يمكن أن يبدو أمر من الأمور في حقبة زمنية معيّنة، كأنّه معجزة في نظر قوم لا يعلمون بخلفية ما يستند إليه من قوانين كونية، ولا يبدو كذلك عند قوم آخرين عالمين بها، في الحقبة نفسها، أو أن يبدو الأمر معجزة في فترة من الزمن على حسب ما بلغه العلم البشري آنذاك، ثم لا يبدو معجزة في حقبة تالية عبر ارتفاع مستوى العلم البشري واكتشاف المزيد من القوانين الكونية التي كانت في حكم المجهول من قبل.
ليس الأمر الحاسم بين أهل الإيمان وأهل الكفر إذن كامنا في "الإكثار" من رصد ما نسمّيه معجزات، ماضية أو معاصرة، بل هو أمر الهداية أوّلا، والمفروض أن ينطوي ذلك على "قلّة" المعجزات وليس كثرتها، فكلما تقدّم العلم تزداد معرفة من يتابعه أنّ كثيرا ممّا بدا للناس "خارقا للعادة" تسري عليه القوانين الكونية وليس "خارقا للعادة"، أي هو جزء من إرادة الله تعالى خالق الكون وما يسري عليه وفيه من قوانين، ولهذا لا يأتي تعزيز الهداية الأولى للإيمان بتعداد المزيد من المعجزات بل يأتي عبر العلم بمزيد من القوانين الكونية، "المذهلة" بحدّ ذاتها، الدافعة للإيمان بخالق الأكوان (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء)، كما ورد في سورة فاطر، بغض النظر عن فهم مصدر علم "العلماء" هنا، هل هو الوحي الرباني أم العقل الذي جعله الله تعالى وسيلة الإنسان لمزيد من العلم إلى يوم القيامة. لهذا –وسواه- يتكرّر التوجيه القرآني إلى الاستزادة من العلم واستكشاف ما أودعه الله في الأرض وفي الكون وفي الإنسان نفسه.
مع خسوف القمر
من الأمثلة على بيان تبدّل النظرة إلى حدث كوني أو أمر من الأمور، من مستوى "معجزة خارقة للعادة" إلى "أمر معتاد مفهوم يفسّره العلم" ما نعرفه عن الخسوف والكسوف.
أثناء كتابة هذه السطور يوم 21/12/2010م، يبدأ فصل الشتاء رسميا، نهاره أقصر نهار وليله أطول ليل في السنة، وهذا ما يساهم في تمكين فريق من الناس في مواقع معيّنة من الكرة الأرضية مثل مدينة بريمن شمال ألمانيا أن يراقبوا خسوف القمر الذي بدأ في الساعة السابعة و32 صباحا -بالتوقيت المحلي لهذا اليوم- أي قبل شروق الشمس بأكثر من ساعة، واكتمل الخسوف في الساعة 8 و40 دقيقة، ولم يكن باستطاعة أهل المدينة أن يراقبوه سوى 4 دقائق بسبب غياب القمر عن مجال الرؤية.
ويعني خسوف القمر –بكثير من التبسيط لخلفيّته الفلكية- أن كوكبنا الأرضي يحجب نور الشمس عنه، إذ يكون بين موقعي الشمس والقمر الفلكيين على خط مستقيم افتراضي بينهما، فلا يضيء القمر لعدم وصول أشعة الشمس إليه وانعكاسها على سطحه، جزئيا ثم كليا، قبل أن تؤدّي حركة الأجرام الثلاثة إلى رؤية ضياء القمر، أي نور الشمس المنعكس على سطحه، تدريجيا من جديد، إلاّ في حالة غيابه عن مجال الرؤية كما كان صباح اليوم لمتابعي الخسوف في مدينة بريمن شمال ألمانيا.
رغم أن عدد مرّات كسوف الشمس يزيد على عدد مرّات خسوف القمر خلال فترة زمنية معيّنة، فإمكانية رؤية الخسوف أكبر، لقابلية مراقبته عند وقوعه من مواقع أرضية عديدة من الجزء الليلي المظلم من الأرض، على النقيض من قابلية رؤية كسوف الشمس.
على أن نسبة وقوع الخسوف الكامل للقمر تعادل نصف نسبة وقوع الخسوف الجزئي عادة، ولكن يقول علماء الفلك إنّ عدد مرات الخسوف الكلي خلال القرن الميلادي 21 سيبلغ 85 مرة مقابل 57 حالة خسوف جزئي، ويعلّلون ارتفاع نسبة رؤية الخسوف الكلي على هذا النحو، بالتفاوت الكبير للمسافة الفاصلة بين الأرض والقمر، ففي القرن الميلادي الحالي يكون القمر عند اكتماله بدرا، أقرب إلى الأرض بعدد مرّات يزيد على ما كان في قرن سابق، وهذا ما يجعل قطر محور الظلّ الأرضي الحاجب لأشعة الشمس عند الخسوف يزيد أيضا فيساهم في رفع عدد حالات الخسوف.
آية ربّانية وفق قوانين ربانية
واضح مما سبق أنّ الحسابات الفلكية بلغت درجة عالية من الدقّة لحركة الأجرام السماوية ومداراتها ومواقعها، ولهذا يمكن مسبقا تحديد مواعيد الخسوف وفترة كل خسوف كامل على حدة، ومن ذلك مرّات الخسوف الأطول من سواها، وكانت يوم 16/7/2000م بطول ساعة و48 دقيقة وثانية واحدة، وستكون التالية يوم 15/6/2011م بطول ساعة و40 دقيقة و53 ثانية، تليها حالات خسوف كامل أعوام 2018 و2029 و2047 و2076م والأخيرة من بين حالات الخسوف الأطول من سواها خلال القرن الميلادي الحادي والعشرين يوم 28/6/2094م بطول ساعة واحدة و41 دقيقة و16 ثانية.
تعود هذه الدقة في الحسابات الفلكية إلى حقيقة أنّها تمثل "رصد" قوانين كونية فلكية ثابتة، أمكن مع اكتشافها بناءُ النتائج العلمية المترتبة عليها، وكان لا بدّ لكاتب هذه السطور وهو يتابع حالة خسوف القمر –هذا اليوم- أن يتذكّر الحديث الذي ورد في البخاري ومسلم عن ابن عباس وفيه: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله(.
لقد بدا كسوف الشمس -أو خسوف القمر- للصحابة في حينه وكّانّه "معجزة"، فبيّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الأمر لا يعدو إلا أن يكون من آيات الله الدالّة على قدرته، بمعنى الخاضعة للقوانين الكونية كما أرادها جلّ وعلا، إنّما لم يكن البشر آنذاك على معرفة بها، فبدا الحدث الكوني خارقا لما اعتادوا عليه، أي لا يجد تفسيرا وفق ما بلغه علمهم من القوانين الكونية، حتى إذا تطوّر علم الفلك، لم يعد أحد في وضع يدفع إلى الظنّ بخرقها في حدث من قبيل الكسوف أو الخسوف.
الوحي والعقل
لا بدّ للمشتغلين في "الإعجاز" عن علم، وكذلك للعامّة المستغرقين في تناقل ما يرونه معجزة من المعجزات دون تمحيص ولا علم يقيني، أن يميّزوا كما ميّز الحديث ما بين المعجزة وبين آية من آيات الله الدالّة على القدرة الربانية، عبر نواميس الكون وقوانينه.
ولا بدّ من كثير من التردّد بدلا من التسرّع في وصف أمر ما بأنّه معجزة، لمجرّد خرقه لِما اعتدنا عليه، ما دام من الأمور التي يمكن أن يكشف العلم عن أسراره المجهولة لدينا حتى الآن.
على أنّ ما سبق يستدعي المراجعة "وبعض التواضع إن أمكن" من جانب أولئك المستكبرين على تصديق ما لا يستطيعون تفسيره علميا –حتى الآن- من أمور وأحداث ثبتت صحّتها عبر نقلها الموثّق من عهد النبوة، والأَوْلى بهم أن يسألوا هم أنفسهم عن مدى ما وصلوا إليه من العلم (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) كما ورد في سورة الإسراء، فكما اكتشف العقل البشري سرعة الضوء حديثا نسبيا، فتبدّلت النظريات والفرضيات عن الأجرام السماوية ومواقعها ومداراتها، واكتشف من الطاقات الكامنة في الجسم البشري ما لم يكن معلوما من قبل، كذلك يمكن أن يكتشف غدا ما هو مجهول اليوم، فتتبدّل النظرة إلى كثير من الأمور التي تبدو الآن –بسبب الجهل- خارقة للعادة، لا يمكن تصديقها، بل يجد من يقول بها للاستهزاء والسخرية!..
أمّا المؤمن، فلا يفقد استقراره واطمئنانه، ولا يضيّق على نفسه، ولا ينحبس في حدود ما بلغه العلم مهما تطوّر وتشعّب، بل ينطلق من تكامل ما ثبت يقينا عبر مصدر الوحي الرباني مع ما يثبت بدرجة عالية من اليقين عبر مصدر العقل البشري، وهو من نعم الله تعالى على الإنسان.. كنعمة الوحي .