مرة أخرى يشهد العالم تراجعاً كبيراً في أسعار النفط أثار مخاوف المصدرين والمستوردين على حد سواء، ويستدعي من المسؤولين في المصارف العربية التوقف لتلمس آثاره في أداء هذه المصارف ومستقبلها.
لا بد من التنويه بداية بأن الدروس المستقاة من ظروف مماثلة حصلت قبلاً، خصوصاً قبل الأزمة العالمية لعام 2008 وأثناءها وبعدها، حين تهاوى النفط من 147 إلى 38 دولاراً للبرميل قبل ان يعاود الارتفاع، تظهر أن التحركات السعرية للنفط تخضع لعوامل كثيرة ليس العرض والطلب إلا أحدها.
فالمضاربات وتحركات سعر الدولار وأوضاع بدائل النفط وتحول المستثمرين عن سوق العملات إلى أسواق السلع ومنها النفط، إضافة إلى التخوف من التطورات العسكرية والأمنية وضعف اقتصادات الدول الصناعية الكبرى أو وقوتها، كلها تؤدي إلى تحريك سعر النفط إلى مستويات غير مبررة في ضوء وجود ما يكفي من المعروض النفطي في الأسواق.
واليوم يُعزى انخفاض أسعار النفط الخام إلى أسباب، لعل أهمها:
- الانكماش الاقتصادي في كل من أوروبا والصين واليابان، وهي أسواق استهلاكية ضخمة للنفط الخام، فتقديرات صندوق النقد الدولي لمعدل النمو الاقتصادي العالمي المتوقع لعام 2015 تبلغ فقط 3.6 في المئة في مقابل 3.2 في المئة لعام 2014، ما يعني ان زيادة الطلب على النفط ستكون ضئيلة وفي حدود 1.1 مليون برميل يومياً، ما أحدث مضاربة كبيرة على الانخفاض، ومنافسة شديدة بين كبار البائعين.
- خلافاً لتوقعات تأثر الإنتاج النفطي بالحروب الدائرة في الشرق الأوسط، ارتفع إنتاج النفط الليبي الشهر الماضي إلى أكثر من 800 ألف برميل يومياً، بعدما انحدر إلى 240 ألف برميل يومياً، كما ارتفع إنتاج النفط العراقي إلى 3.5 مليون برميل يومياً.
- ارتفاع حجم الإنتاج العالمي، خصوصاً من خارج «أوبك»، وعلى وجه التحديد من كندا والولايات المتحدة والبرازيل، وهو إنتاج من نفط الرمال الزيتية والنفط الصخري ونفط المياه العميقة. وفي مقابل زيادة متوقعة في الطلب 1.1 مليون برميل يومياً في 2015، تزيد الدول غير الأعضاء في «أوبك» إنتاجها بـ 1.4 مليون برميل يومياً، ما يرفع الإنتاج العالمي إلى 92.3 مليون برميل يومياً.
- تحقيق الإنتاج الأميركي من النفط الخام أكبر رقم قياسي له منذ 1985، إذ بلغ هذا الإنتاج نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي 8.97 مليون برميل يومياً إضافة إلى ثلاثة ملايين برميل يومياً من سوائل الغاز الطبيعي، بسبب تزايد إنتاج النفط والغاز الصخري الذي بلغ خمسة ملايين برميل.
واختارت السعودية، أكبر منتجي «أوبك»، الإبقاء على سقف الإنتاج الحالي من دون تغيير، إدراكاً منها ان انخفاض الأسعار هو من تغيرات الأجل القصير، خصوصاً ان إنتاج «أوبك» لا يمثل سوى 40 في المئة من الإنتاج العالمي وبالتالي أي خفض من جانب «أوبك» سيعوض عنه المنتجون من خارجها.
ويمكن القول ان الدول العربية لن تكون مهددة بأخطار كبيرة من جراء انخفاض أسعار النفط، بل العكس هو الصحيح في حالة الدول المستوردة للنفط حيث تستفيد استفادة كبيرة من انخفاض فاتورة النفط في التخفيف من أعباء الإنفاق وموازنة دعم الطاقة. أما في حالة الدول المصدرة، خصوصاً دول مجلس التعاون والجزائر، فتتوافر فوائض مالية كبيرة يمكن استخدامها لسد العجز المالي.
وبغض النظر عن أوضاع سوق النفط، لا تزال دول المجلس في حاجة إلى مواصلة جهودها في تنويع مصادر الدخل وزيادة الإنتاجية وترشيد النفقات، خصوصاً أذا علمنا ان نسبة مساهمة الإيرادات غير النفطية في إعداد الموازنة العامة لبعض دول الخليج لا تتجاوز (خمسة في المئة). ويمكن اعتماد سياسة مالية تعمل لزيادة تنويع مصادر الإيرادات المالية للدولة، وتوجيه السياسة المالية لزيادة الإنفاق الاستثماري ووضع سياسة مالية واقتصادية تأخذ موضوع أخطار تقلبات أسعار النفط في الاعتبار عند إعداد الموازنات، مع وضع سياسات خاصة للتحوط من شأنها معالجة اختلالات الموازنة (العجز والفائض).
ومثلما حدث في عدد من دول المجلس، يبرز أيضاً خيار تقليص دعم أسعار الطاقة، وتقليل خسائر هدر الطاقة التي تُكلف دول الخليج مجتمعة 50 بليون دولار سنوياً، وذلك بتطبيق إجراءات ترشيد الطاقة وسن القوانين لإيقاف هدر الكهرباء.
وفي ما يخص المصارف الخليجية والعربية، تكفي الإشارة إلى أن وكالة التصنيف الائتماني العالمية «فيتش» حافظت على تصنيفها المستقر للمصارف الخليجية، مدفوعة بدرجة كبيرة من إمكانية دعم حكومات دول التعاون لأنظمتها المصرفية ومواصلة الإنفاق الحكومي على المشاريع الرئيسة عام 2015. فالمصارف الخليجية والعربية عموماً استفادت من أزمة 2008 حينما عمدت إلى تعزيز رؤوس أموالها وزيادة مخصصات الديون المتعثرة، وركزت تمويلاتها واستثماراتها في أسواقها المحلية. ولأن هذه الأسواق ستواصل النمو بفضل مواصلة الإنفاق الحكومي في البلدان المصدرة والمستوردة للنفط على حد سواء، ستتمكن المصارف العاملة في هذه الدول من مواصلة تحقيق الأرباح، لكن نسبة نمو هذه الأرباح قد يتأثر خلال 2015.
بعد نشوب الأزمة العالمية عام 2008 دعونا إلى تأسيس جهاز لتوقع الأزمات الاقتصادية، فالعالم تعامل مع الانخفاض الراهن في أسعار النفط وكأنه تفاجأ به، وظهرت ردود فعل عنيفة من أطراف إقليمية ودولية عديدة، في حين ان التراجع لم يكن مستبعداً نظراً إلى الدورات الاقتصادية المتعاقبة للاقتصاد العالمي، وإن لم تكن التوقعات بمقدار التراجع الذي حدث، ولعل هذا يعود إلى ان جزءاً أساسياً من الانخفاض سببه المضاربات وعوامل موقتة سرعان ما تزول ليعاود السعر الاستقرار عند مستويات أكثر توازناً وفق العرض والطلب الحقيقيين.