إن الشهيد فَرِحَ عند ربه لما يلقاه من نعم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:169 ،170، 171) فالدنيا كلها لا تساوي لحظة من رضوان الله على الشهيد ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُّقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:154) وهذه هي سنة الحياة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة:من 155 إلى 157).
 

 

في حي النهضة بمدينة السلام شرق القاهرة ولد الشهيد مسعد السيد محمد قطب عام 1960م، وألحقه والده بالتعليم حتى تخرج في كلية التجارة جامعة القاهرة وعمل منذ عام 1988م بنقابة المهندسين، كما حصل على ليسانس دار العلوم عام 2001م، وسجل بالدراسات العليا عام 2003م.


مع الزوجة

انتقل للحياة في إمبابة بالجيزة، وتزوج عام 1991م غير أنه لم يرزق بأولاد فاعتبر كل أبناء الحي أولاده، تقول زوجته: اثنا عشر عامًا كلها ود ورحمة وسكن، بدأتها عندما تقدم لخطبتي وأشاد الجميع به، فاستخرت عليه، ودائمًا أراه في الرؤية أجمل من الحقيقة، ونجلس معًا يطعم كل منا الآخر من أطاييب رزق الله في أماكن جميلة، فتزوجنا بفضل الله عام 1991م وكان عقدنا يوم الأربعاء والبناء يوم الخميس.. وعندما جلسنا لتناول العشاء بعد العقد لم يكن يسمح لي أن أمد يدي للطعام بل يطعمني هو ويَعِدُني أن هذا سيكون حالي معه دائمًا, وقد كان صادق الوعد.


ورغم حبنا الكبير للأطفال لم نُرزق بهم, فعرضت على زوجي الزواج كثيرًا، ولكنه أبى بشدة، وأخبرني أنه يكتفي بي، ورغم ظروفنا المادية لم يبخل عليّ بشيء، وألَحَّ عليّ في إجراء عملية جراحية مكلِّفة، رغم أن نسبة نجاحها كانت ضئيلة جدًا, وبفضل الله كان كل منا يكتفي بالآخر ويشكر الله عليه، فقد كان نعم الزوج، وكنت أشعر أنني طفلته.. فكان لا يخرج إلا معي.. ويد كل منا في يد الآخر كعروسين جديدين, كان يحب أن يصلي الوتر قبل النوم.. فإذا ألححت عليه لينام ينام إلى جواري؛ حتى أغفوَ ثم يقوم إلى صلاته, كان- رحمه الله- لا يحب النوم على الأرض في حين كنت أفضله أنا.. فإذا وجدني غافيةً على الأرض نام إلى جواري، وآثرني على نفسه, ماذا أقول عنه؟؟


لقد بلغ من رقته معي أنه إذا ذهب إلى أحد أصدقائه وذاق طعامًا أو فاكهةً لابد أن يأتيني بجزء منه, وإذا حضر إليَّ أخواتي أو صديقاتي يُعدُّ لهم الطعام والشراب.. بل إنه لم يكن يأنف إذا رآني مُرهَقة أن يغسل الأطباق.. أو يُعد الطعام.. أو يذهب إلى السوق.. أو حتى يجمع الغسيل من على الأحبال ويطبقه.


كان- رحمه الله- كريمًا مع أهلي, فمنذ الأسبوع الأول من زواجنا وأخي الأصغر يعيش معنا، لم يتذمَّر يومًا منه أو يُسمعه كلمةً لا يحبها, حقًا لقد كان خيرَ الناس لأهله أشهد بها أمام الله.


لقد كان "مسعد" يحب دائمًا أن يفاجئني.. فمثلاً يعلم أني أحب طعامًا ما فيتصل بي، ويقول لا تعدي العشاء فسأعد لك مفاجأةً.. طرحت أختي ذات مرة أن نشتري غسالة (فول أتوماتيك) فلم يرحب بالفكرة، ولم أدر إلا وهو داخل عليَّ بها ذات يوم, كذلك موضوع الدراسة كان فكرةً عابرةً على لساني ونسيتها، وفي يوم وجدته قد ذهب وأعد الأوراق، وطلب مني الخروج معه وإذا به يأخذني لأُنهي الإجراءات وظل يستحثني على مواصلة الدراسة, وعندما شعرت أنها مضيعة للوقت راح يجدد نيتي ويذكرني بحديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- "اطلبوا العلم ولو في الصين", ومن المفارقات المضحكة أنه في بداية زواجنا قال لي: "اذهبي حيث شئت... المهم أنني عندما أعود إلى المنزل أجدك بانتظاري".


ولكني عندما شُغلت بالدراسة، وصرت أعود إلى المنزل في مواعيد مختلفة صرت أجده هو بانتظاري فاتحًا ذراعيه، مُرحبًا ومُعدًا الطعام.. يواسني من إرهاقي.. ويسألني عن حالي, وكذلك كان هناك يومٌ أقوم فيه بتحفيظ القرآن للنساء الأميَّات في المسجد.. فأعود متأخرةً لأجده لم يذق أي طعام حتَّى أعودَ ونأكل معًا... وبفضل الله أولاً ثم زوجي حصلت على مجموع 83% في الصف الثاني الثانوي.


مع الإخوان

 

التحق مسعد قطب بجماعة الإخوان المسلمين في وقت مبكر من حياته، حيث تعرف عليهم في بداية حياته الجامعية، وأصبح فيما بعد أحد دعاتها المشهورين، المشهود له بالخلق القويم.


في خضم المحن


اعتقل مسعد قطب أكثر من مرة، سواء قبل زواجه أو بعدها، غير أن المرة التي اعتقلها بعد زواجه كانت المرة الأخيرة له حيث خرج من مبنى أمن الدولة بجابر بن حيان إلى مثواه الأخير.


تتحدث زوجته لتصف لنا اعتقاله والهمجية التي يعيش فيها ضباط أمن الدولة واستعلائهم على الناس، فتقول:


اعتاد زوجي الصلاة في المسجد، فكان إذا لم يحضر الشيخ يذكر حديثًا عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ويعلق عليه في دقائق معدودة بعد كل صلاة, وفي إحدى المرات، وهو يلقي كلمته دخل عليه أحد رجال أمن الدولة، وسأله عن بياناته, كما كان هناك أحد مرتادي المسجد الذي كان دائم الاختلاف معه حول تفسير بعض الآيات أو التعليق على أحاديث المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وقبل اعتقاله بأيام كان زوجي وصديقان له يزوران جارًا لنا مريضًا، ويقرأون له بعض آيات من القرآن، ويدعون له بالشفاء فدخل عليهم على حين غرة ابن الرجل الذي كان يخالف زوجي آراءه، وثار عليهم، وقال لهم: ماذا تفعلون مع هذا المريض، ونهرهم قائلاً: إن هذه الحلقات لا تتم إلا في المسجد، وبعد هذه الواقعة اعتقل أمن الدولة الرجلين اللَّذَين كانا بصحبة زوجي يعودان المريض, وقام بتعذيبهما بشدة ليُرشدا عن زوجي، ثم أطلقوا سراحهما.. وبعد صلاة التراويح يوم الجمعة 6 رمضان عاد زوجي مُنهكًا، حتى إنه لم يستطع تعليق الستائر كما رجوته, وتوجهنا من فورنا إلى الفراش وظل يقول لي: "سامحيني أنا مقصر في حقك"، وكأنه كان يستشعر ما سيحدث...!!


ففي تمام الثانية والنصف مساءً فوجئنا بطرقاتهم على الباب.. فقام زوجي ليفتح لهم ولم أنهض أنا من فراشي، وعندما دخلوا سألوه هل أنت وحدك؟ فأجابهم: زوجتي بالداخل, فراحوا يأمرونني بارتداء ملابسي والخروج من الغرفة، ثم انطلقوا يفتشون الشقة لما يزيد على الساعة.


بعد أن ارتديت ملابسي وخرجت بدأو يبحثون في كل شبر وورقة بالبيت، والذي كان مليئًا بالكتب في المكتبة وتحت الأسِرَّة والدواليب، سواءٌ كتب عامة أو دراسية.. فزوجي رغم حصوله على بكالوريوس التجارة جامعة القاهرة وعمله منذ عام 1988م بنقابة المهندسين.. إلا أنه كان شغوفًا بالعلم، فحصل على ليسانس دار العلوم عام 2001م، وسجل هذا العام بالدراسات العليا, كذلك أنا رغم حصولي على شهادة الدبلوم إلا أنني أدرس بالثانوية العامة حاليًا, كل هذا أرهقهم بشدة، وجعلوا يسخرون من زوجي وكتبه, ويسألونه عن كتب القدس؟ ولماذا يهتم بها؟


فيجيبهم بأنها قضية المسلمين، ويجب أن ينشغل بها الجميع, وعندما وجدوا ورقةً مكتوبًا بها دعاء السحر قالوا له: (هل أنت مسحور أم مشعوذ) وراحوا يقلبون البيت؛ بحثًا عن أدوات السحر والشعوذة، ثم اقتحموا الغرفة الصغيرة التي ينام بها ابن أختي (أبو السعود)، وهو طالب بالصف الخامس الابتدائي، ويعيش معنا لأذاكر له؛ فأنا ليس لديَّ أبناءٌ، وأختي لديها مشاغل كثيرة..


وبعد اقتحامهم الغرفة سألونا لماذا يحيا معنا..؟ وأسئلةً كثيرةً سخيفةً..؟ وراحوا يفتشون أدواته المدرسية ورقةً ورقةً؛ حتي وجدوا مصحفًا مكتوبًا عليه اسم الولد الصغير (أبو السعود) فصاحوا بـ"مسعد": "هل تحفظه القرآن"؟؟ فقلت لهم: "أنا أحفظه". فسألونا بغضب.. "أنت أم زوجتك تحفظونه"؟؟ فأجاب "مسعد" في هدوء: "من كان منا لديه وقت يحفظه".


بعدها وجدوا كشكولاً لي مكتوبًا اسم كتاب "الدعوة ضرورة بشرية وفريضة شرعية" فسألوه عنه فأجبت أنا أنني سمعت اسم هذا الكتاب من الدِّش وكتبته؛ حتى أشتريه، وأن الكشكول يخصني أنا", فأمرني "مسعد" بالصمت؛ خوفًا عليَّ من إيذائهم, ثم ملئوا حقيبتين كبيرتين كتبًا وشرائط, وأمروا زوجي أن يرتدي ملابسه، ويخرج معهم، ولكنه لم يكن لديه ملابس جاهزة.. فقال: إنه سيذهب معهم (بالترينج) واستأذنهم في الوضوء، ثم رحل معهم.. وهو على السلم نظر إليّ نظرةً لن أنساها، وقال: (السلام عليكم يا بطَّة).. فأجبت (وعليكم السلام ورحمة الله.. استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.. استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك).


بعدها مباشرةً نزلت جارتي تواسيني وتساعدني في ترتيب المنزل، ولكنني أجلت ذلك، واتجهت إلى الصلاة والدعاء، وأيقظت الولد الصغير ليتناول السحور, وعندما علم بما حدث قال: (هم اليهود جاءوا عندنا يا خالتي)!! ولم يكن في نيتي أن أخبر أحدًا من أهله أو أهلي، ولكن جارتي نصحتني وألحَّت عليّ أن أخبرهم؛ حتى يتمكنوا من مساعدته والوصول إلى مكانه, فانتظرت لما بعد صلاة الفجر واتصلت بأخي لأخبره, فأسرع بالمجيء إليّ، وانشغلت أنا بترتيب المنزل...

وعند الظهر اتصل أخو "مسعد" ليدعوه لزيارة أبيه المريض بالقلب فأخبره أخي بما حدث, وبعدها أخبرنا النقابة؛ حتى لا يسجلوه غيابًا في العمل، فوكلت له النقابة محاميًا.. ولكن هذا المحامي كان غائبًا يوم السبت ومرض فجأةً يوم الأحد فلم يبدأ تحركاته سوى يوم الاثنين.


الرحلة الأخيرة


لقد خرج مسعد قطب إلى رحلته الأخيرة إلى أمن الدولة حيث لم يمر عليه سوى ثلاثة أيام على اعتقاله حتى فاضت روحه إلى بارئها على يدي أنذال أمن الدولة خاصة الضابط حسن عبد الحميد –والذي انتقم الله منه فيما بعد حيث فصل وسجن في عدة قضايا.


تقول زوجته:

يوم الاثنين أخبرنا المحامي أن زوجي بـ(جابر بن حيان)، ويمكننا توصيل ملابس وطعام له، فبدأت بإعداد هذه الأشياء.. وفي نفس الوقت اتصل ضابط من أمن الدولة بصديق زوجي، وقال له: تعالَ استلم "مسعد", فذهب يومي الاثنين والثلاثاء ولم يعره أحدٌ أدنى اهتمام، فقلت له: لا تذهب ثانيةً فلوا أرادوا خروجه لأخرجوه، كما أنه ليس صغيرًا ليذهب أحد لاستلامه, ويوم الأربعاء الساعة الواحدة مساءً فوجئت بمن يطرق عليَّ الباب فسألت (من؟) فقال: (أيوه)..! فلم أفتح. فنادى على جارنا في الدور الأول، وقال له: (لم تفتح)..


فقال لي جارنا: (أنا فلان) فقلت له: (وماذا تريد)؟ دون أن أفتح؛ لأنهم رجال وزوجي ليس موجودًا, فجاءت جارتي من الدور الأعلى، ففتَحت لهم فدخل رجلان من أمن الدولة، وراحوا يسألوني عن عائلتي وعائلته فردًا فردًا، وعناوينهم وأرقام هواتفهم؛ حتى علموا أن له أخًا يُدعى "رجب" يسكن بـ(إمبابة) فأمروني بارتداء ملابسي؛ لأنزل معهم، وأرشدهم إلى بيته، فأصرت جارتي على المجئ معنا، وبالفعل نزلت معهم، وبعد أن كنا اثنين فقط صاروا ثمانية عندما وصلنا إلى آخر الشارع، واستوقفوا سيارة (ميكروباص)، وركبناها جميعًا إلى هناك، فصعدوا هم إليه وأمروني بالبقاء في السيارة، ومن مكاني سمعت صراخ زوجته ودعاءها عليهم, وبعدها أوصلوني لمنزلي، وأخذوا شقيقه ومضوا إلى مقر أمن الدولة بالدقي, وبعد ساعتين فوجئت بزوجته تتصل بي وتقول: "مسعد" مات... وتغلق السماعة!!.


خرج الشهيد "مسعد" من مستشفى أم المصريين يوم الخميس في العاشرة صباحًا.. فهل تمكنت من رؤيته قبل خروجه؟


توالت الاتصالات.. وعلم الجميع بما حدث.. وقدمنا بلاغًا للنيابة لإعادة فحص الجثة قبل ذهابنا للمشرحة, وفي المستشفى فوجئت بما يزيد على ثلاثة آلاف من الجيران والأهل والإخوة نساءً ورجالاً من كل الأعمار ينتظرون خروجه، وأمام كل هؤلاء صدر تقرير الطبيب الشرعي بأن الوفاة كانت نتاجًا لسكتة قلبية، فهدد المحامي ضابط أمن الدولة بأنه سيأتي بطبيب من الخارج فتم تغيير سبب الوفاة في لحظتها بهبوط حاد في الدورة الدموية, وأصررْت على رؤية زوجي قبل خروجه فأخذوني أنا وأخاه ووالده إلى باب المشرحة، ثم أخرجوه من الباب الخلفي حيث تجمهر الناس فلحقنا بهم هناك، وأصر الجميع على أن أراه، فكشفوا وجهه ليراه الجميع، وقد بدت آثار التعذيب الشديد عليه فرأسه مهشم تمامًا ومعوج، وعيناه تقريبًا غير موجودتين، وأذنه مقطوعة، ورأسه مفتوح من قمته مرورًا بالعنق إلى الصدر.


وبالرغم من هذا.. ومن سمرة لون زوجي.. إلا أنه كان مُنيرًا وضَّاء الوجه، ليس له أي رائحة منفِّرة، بالرغم من مرورة ثلاثة أيام على استشهاده، لين الجلد والأطراف, فقبلته ودعوت له، وإن كنت أريد الاختلاء به لأودعه حق الوداع وأهنئه بالحور العين، وأوصيه بانتظاري والشفاعة ليّ.


وراح الجميع يحتسبون.. وكادوا يبطشون برجال أمن الدولة المحيطين بنا.. ولكن الله سلم, وبعدها خرج للصلاة عليه في المسجد المقابل للمستشفى وأم المصلين الأستاذ/ سيد نزيلي، وعلي الرغم من أنها كانت صلاة الظهر وفي يوم عمل امتلأ المسجد والشوارع من حوله بالمصلين الذين بلغ عددهم عدة آلاف، ثم انطلقت الجنازة حاملةً النعش دون غطاء، وأصروا على السير به لمسافة كبيرة، وقد كانوا ينوون السير حتى المقابر وهم يكبرون ويدعون على جهاز أمن الدولة وكل من شارك في ظلم مسلم أو إراقة دمه, وأصر رجال الأمن أن يأخذوا الجثمان في سيارةٍ تابعةٍ لهم، ولكن الإخوة رفضوا بشدة.


وكان مقررًا أن يقام العزاء يوم الجمعة بمسجد خالد بن الوليد في الكيت كات، ولكنهم أخذوا والده وأخاه الكبير، وضغطوا عليهما؛ ليقام العزاء بمنزلهم في النهضة، وألا يقام بالجيزة إطلاقًا، وأخبروه أنهم سيتكفلون بكافة النفقات, وبالفعل هذا ما حدث رغم معارضة الإخوة الشديدة لأن ينفقوا هم على العزاء, ولكنهم كانوا يحاولون إرضاءَنا بأي طريقة, ومن حكمة الله أن يقيموه على نفقاتهم ليحضر إليه المرشد العام وآلافٌ من الإخوة؛ ولينطلق الدعاء عليهم أمام سمعهم وبصرهم؛ حتى قال أحدهم للإخوة "حرام عليكم كفاكم دعاءً علينا"...!!


فلقد شيَّع الإخوان المسلمون بالجيزة بعد ظهر الخميس 6/11/2003م جثمان الشهيد مسعد قطب، وردد المشيِّعون الهتافات ضد جهاز أمن الدولة المسئول عن استشهاد الشهيد "مسعد قطب"، ومنها: (مسعد مسعد يا شهيد... موتك خلى قلوبنا حديد)، (حسبنا الله ونعم الوكيل).


وقد أُقيم عزاء الشهيد "مسعد قطب" مساء الجمعة بعد صلاة التراويح بمدينة السلام شمال شرق القاهرة؛ حيث حضره عدد من قيادات ورموز الإخوان المسلمين منهم المهندس "خيرت الشاطر" والدكتور "محمود عزت" عضوا مكتب الإرشاد، والأستاذ "أحمد سيف الإسلام حسن البنا" أمين عام نقابة المحامين المصرية، والأستاذ "سيد نزيلي" أحد قيادات الإخوان المسلمين، والدكتور "عصام العريان" أمين عام مساعد نقابة أطباء مصر، والأستاذ "عزب مصطفى" عضو مجلس الشعب عن الجيزة.


قالوا عن الشهيد


وفى كلمته للمعزين أكد الأستاذ "محمد إبراهيم" أن المحكمة الربانية أمام الله تعالى يوم القيامة لن يكون فيها تزويرٌ لتقارير أو أقوال، وأشار الداعية إلى أنه يستشعر الآن، وكأن الشهيد "مسعد" قد وقف أمام الله تعالى يطلب منه أن يأخذ له حقه ممن ظلمه وقتله".


وفي كلمته أكد الأستاذ "عزب مصطفى" عضو مجلس الشعب، أن مصير قتلة الدعاة هو الهلاك لقوله تعالى ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ* وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ﴾ (إبراهيم: من 13 إلى 16).


وأشار إلى أن طريق الدعوة مليء بالصعاب والأشواك والآلام، ولكنه أيضًا مليء بالآمال، مطالبًا الإخوان بالصبر، وأن يكونوا من أبناء الآخرة لا أبناء الدنيا؛ لأن كل أم تنادي على أبنائها.


وطالب الدكتور "عصام العريان" أمين عام مساعد نقابة الأطباء في كلمته النظامَ أن يدخر شباب الإخوان لحرب قادمة مع عدو يتربص بنا وينتهك حرماتنا، وألا يبخلوا عليهم بالجهاد في سبيل الله ليحققوا أمنيتهم الأسمى بالموت في سبيل الله بدلاً من أن يموتوا تحت سياط القتلة والجلادين في مصر، وأضاف "العريان" أن شباب الإخوان يريدون أن تُراق دمائهم في سبيل الله عز وجل لتحرير بلادنا ومقدساتنا وأوطاننا ورد الأعداء عن بلادنا، وعن كل من يعيش على ظهر هذه الأرض بار أو فاجر".


وشدد "العريان" على أن مصير من لطخ يده بدم الشهيد جهنم؛ لأن الله توعد من قتل المؤمنين قائلاً: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 93)، مؤكدًا أننا نفرح بمصير الأخ الشهيد إلى الجنة إن شاء الله، ونستعد نحن للقاء الله لا نغير ولا نبدل، فهتافنا الدائم: "الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا".وناشد "العريان" الحكام بأن ينتهوا عن سياساتهم الظالمة تجاه شعوبهم قبل أن يتخذها الأعداء تكئة للتدخل كما فعلوا بالعراق وينكشف المستور، مؤكدًا أن الإخوان يمدون أيديهم للجميع ويلاقون مقابل ذلك السياط من النظام، ولا يملكوا إلا أن يقولوا "حسبنا الله ونعم الوكيل".


فشهيدنا إن شاء الله في الجنة، ولكننا نشفق على من قتله، وندعو الله له بالهداية فليس بيننا وبين أنظمتنا خصومة في الدنيا، ولكننا ندخر أنفسنا لحرب أعدائنا.


وقال الدكتور "سناء أبو زيد" -من قيادات إخوان الجيزة- في كلمته: إن ما يحدث من تجاوزات وقتل للدعاة لن يثنيهم عن مبادئهم، فهؤلاء باعوا دنياهم بآخرتهم بينما باع القتلة دينهم بدنيا غيرهم غير المضمونة، واستشهد بقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾


(البروج:10)، وقوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾ (الأحزاب: 58)، وقال "لقد قضى الشهيد مسعد حياته في سبيل دينه ودعوته ثم لقي ربه شهيدًا، وهو صائم في شهر رمضان المبارك بينما يقضي قتلته حياتهم وهم يحاربون الدعوة ويقتلون الإخوان في شهر مبارك.. فشتان ما بينهما".


قال الأستاذ/ السيد النزيلي -أحد قيادات الإخوان المسلمين-: " إن هذه الجريمة مستنكرة، وتتجاوز كل الأعراف الإنسانية والأخلاقية والدينية، وتتجاوز الخطوط الحمراء ولا تستقيم شرعًا ولا قانونًا، والأمر يحتاج إلى وقفة، فلن نقبل أبدًا بإراقة الدماء ولن نقبل بهذه الوسائل الإجرامية، وسوف نتصدى لها ونفضح المجرمين الذين قاموا بها ونحن ننتظر وقفةً من المسئولين.