بقلم - المعتقل: محمود عباس

بسم الله الرحمن الرحيم

اخي الحبيب:  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخط إليك كلماتي هذه علها تعبر عما يجيش في صدري من شوق حار إليك.. شوق يزداد كلما ازدادت حيرتي في توصيف تلك الرابطة التي تجمعني وتربطني بك.

فساعة تصف نفسها لي بأنها رابطة الحنو من أب لابنه، متناسية ذلك الفارق العمري القليل بيننا.. غير أني كثيرا ما شعرت تجاهك بما يشعره الأب تجاه ابنه..

ثم ما يلبث أن يدفع ذلك الإحساس إحساسُ التبجيل من التلميذ ناحية أستاذه.. أو لربما أم يكون احساسي مجموع ما سبق.. غير أنه ولا شك أكبر وأشد من أن يكون مجرد إحساس الأخ تجاه أخيه..

أخي الحبيب

لكم أشتاق إليك .. ولكم طاف بي الحزن حينما أرى وجوه الأهل ينتظرونني ولا أكحل عيني برؤياك ..

غير أن هذا الحزن ما يلبث أن يتطاير سريعا حينما يلهمني الله برحمته ولطفه أن غيابك عني إنما يسرني..

فلأن تغيب عني ويحفظك الله من كل مكروه وسوء أحب إلى نفسي وأطيب من أن يجري عليك قضاء أود لو أدفعه عنك ، فأفتديك بكل ما أملك من حرية ووقت وراحة، أبذله سعيدا راضيا مسرورا ، غير شاعر في لحظة من اللحظات – والله شهيد على ذلك – بأني أتفضل عليك، بل ذلك أقل ما يجود به المرء تجاه من يحب.

أخي الحبيب:

إن شوقي إليك ليس هو الدافع الوحيد الذي أفضى بي إلى أن أخط هذه الكلمات.. بل أود أن أحيطك علما ببعض أفضال الله تعالى على اخيك الفقير الضعيف العاجز الذي لا يملك من أمر نفسه شيئا…

ولعلمي أيضا أن ما سوف أسوقه إليك سيجد مكانه إلى قلبك فيكون باعثا على مزيد من الحمد والشكر والرضا بتقدير الله تعالى.

أخي الحبيب:

إن من لطف الله تعالى أن ساق إلى عبده الفقير – محمود – جرعة من البلاء وسط نهر من الرحمة والرأفة.. وكأنه تعالى لا يود أن يطلعني على سوءة نفسي .. قدر أن أشهد فيضا أو فيوضا من رحمته ولطفه وعطفه ومودته ورعايته وعنايته وحسن تدبيره..

أخي الحبيب:

لا تحسبن السجن قيدا كاسرا.. بل هو خلاف ذلك تماما !!

خلاف ما ظننته أنا ، وما تظنه أنت وحتى خلاف ما يظنه سجاني.. فلو علم سجاني قدر الخير والنعمة والرحمة التي كان سببا في أن يسوقها الله إليّ لراجع نفسه آلاف المرات قبل أن يزج بي إلى ذلك السجن!!

إن رحمة الله تعالى تحوطنا في كل حركة وسكنه.. في النوم واليقظة.. في الصباح والمساء .. في كل غمضة عين وانتباهتها..

ولو أني وغيري من العباد اجتهدنا طوال عمرنا أن نخط لأنفسنا أقدارنا مغلفة بهذا القدر من الرحمة ما بلغنا عُشر  معشار ما كتب الله تعالى لنا.

إننا نمرح ونلهو ونلعب ونذكر ربنا وننشد ونأكل ونشرب بقدر يفوق ما كنا نعيشه قبل أن يجري علينا قضاء الله تعالى بالحبس..

إن أجمل إحساس يعيشه الإنسان أن يوقن تمام اليقين أن ربه تعالى في عليائه يدبر له، ويرعاه، ويحوطه بعنايته، ورحمته..

أخي:

إننا في محبسنا لا نفتر عن الدعاء لكم، ولكل من اختار الله له أن يظل في ميدان الجهاد خارج السجن، أن يحفظكم الله من كل مكروه وسوء، وأن يعمي عنكم أعين الظالمين وأن يكف عنكم بطشهم وأذاهم..

غير أني خصصتك بدعوة تحبها وتتمناها .. لن أعلمك بها حتى تظل بظهر الغيب.. عسى الله أن يستجيب لها، فكل من جاورناه في الحبس صغيرا كان أم كبيرا ليدعو الله لكم بالثبات والنصر والتمكين.. كما نسأله أن يلحقنا بكم في ميدان الجهاد – بعد أن يمسح عنا ذنوبنا – على خير إن شاء الله.

أخي الحبيب:

إني لأرجو أن تحمل سلامي لكل أحبابنا، وأن تبلغهم أننا والحمد لله في أحسن حال.. نتقلب في رحمات الله صباح مساء..

وإني في كل لحظة تمر عليً أشعر بجميل ما اختصني الله تعالى من نعمة..

أني أجد أُنسا كبيرا ونعيما لا يدانيه نعيم في أن أخط إليك معبرا عن جميل ما قدره الله تعالى لي في هذه الأيام.

فلقد أصابني الخوف فأمنني الله تعالى من خوف.. وضيق علينا الظالمون في بعض الأوقات في دخول الأكل فأراد سبحانه بفضله أن يُطعمنا من جوع.. ساعتها أجرى الله تعالى على قلوبنا وألسنتنا – وكنا ساعتها لم نعلم بعد كيف سيكون مصيرنا – أنه سبحانه أطعمنا من جوع وسوف يؤمننا من خوف، فكان لها مفعول السحر في القلوب الضعيفة..

وما كان منه سبحانه إلا أن ساق لنا في أول أيام حبسنا وقدّر لإمامنا أن يقرأ قوله تعالى: {إِنَّا لِلَّهِ} [البقرة: 156]

فسرت هذه الآية ، وبهذا الوقف الموفّق من قلوبنا مسرى الماء عندما يخالط الأرض العطشى فيحييها بإذن الله تعالى.

أخي الحبيب:

إن أجمل ما أختم به كلماتي إليك قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى: 28].

فكما نشر الله رحمته فأصابتنا في كل خطوة خطوناها وفي كل قيد قيدونا به، فأزال الله آثاره، فلم يبق لها أثر على الأيدي فضلا عن أن تغادر أثرا في القلوب..

أخي:

إن سجاننا يعلم تماما أنه إلى زوال وأنه يمكر مكرا {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] وأن {وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]

فمكرهم إلى بوار.. وعاقبة تدبيرهم – بإذن الله – ستكون تدميرهم..

وإنا في محبسنا هذا نوقن بذلك حق اليقين ونعتقده تمام الاعتقاد {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] .. {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51]..

فما بيننا وبين نصر الله إلى أن نوقن تمام اليقين أن النجاة في تمام التذلل لله والتوجه إليه والاعتصام والتمسك به..

{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَر} [القمر: 44 – 46]

إلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى..

سبحانك اللهم وبحمدك . أشهدك أن لا إله إلا أنت . أستغفرك وأتوب إليك