في يوم واحد، تختصر مصر الانقلاب قصة العنف المتفشي تحت حكم نظام حوّل البلاد إلى ساحة استباحة للدماء. في بني سويف، تصفية مواطن تحت غطاء "مكافحة المخدرات" بالسيناريو المكرر الذي لا يقنع أحداً: "تبادل إطلاق نار" و"عنصر إجرامي شديد الخطورة".

 

وفي البراجيل بالجيزة، طفلة في الصف السادس الابتدائي تسقط شهيدة رصاصة طائشة في شرفة منزلها بينما كانت تشاهد زفة عرس. حادثتان تكشفان وجهي العملة ذاتها: نظام فشل في توفير الأمن الحقيقي للمواطنين، وحوّل القتل إلى سياسة ممنهجة سواء بيد أجهزته أو بإهماله لانتشار السلاح بين المواطنين.

 

وزارة الداخلية التي تتشدق بـ"ضبط طن من المخدرات" و"21 قطعة سلاح ناري" لا تستطيع منع رصاصة طائشة من قتل طفلة بريئة في قلب العاصمة. النظام الذي يدعي "مكافحة الجريمة" هو ذاته الذي يترك السلاح ينتشر في الأفراح والمناسبات دون رادع حقيقي. هذا التناقض الصارخ يكشف حقيقة مرة: السلطة تستخدم القوة المفرطة ضد من تريد، وتتساهل في حماية الأبرياء من عنف انفلت لأنها أصلاً لا تملك استراتيجية أمنية حقيقية.

 

التصفيات الأمنية: سيناريو متكرر وشهود غائبون

 

البيان الأمني الذي أصدرته وزارة داخلية الانقلاب حول مقتل المواطن في بني سويف يحمل كل علامات التصفية الميدانية: "تبادل إطلاق نار"، "عنصر جنائي شديد الخطورة"، "سبق الحكم عليه"، ثم النتيجة الحتمية: القتل. لا شهود محايدون، لا تحقيقات مستقلة، لا كاميرات مراقبة، لا روايات بديلة. فقط سردية أمنية أحادية نسمعها كلما أرادت الأجهزة التخلص من شخص ما.

 

السيناريو المكرر يثير الشكوك العميقة: كيف ينتهي كل "اشتباك" بمقتل المستهدف دون إصابات في صفوف القوات الأمنية؟ أين محاضر الاشتباك الموثقة؟ أين التقارير الطبية المستقلة التي تحدد زوايا إطلاق النار؟ لماذا لا تُنشر تفاصيل دقيقة عن الواقعة بما في ذلك أسماء الضباط المشاركين وتوقيتات الأحداث؟

 

الأخطر من ذلك هو استخدام "سوابق" المستهدف كمبرر لقتله خارج إطار القانون. حتى لو كان الشخص مداناً بجرائم سابقة، فهذا لا يمنح الأجهزة الأمنية حق إعدامه ميدانياً. القانون يفترض البراءة حتى تثبت الإدانة في محكمة عادلة، والعقوبة يقررها القضاء لا الضابط الذي يمسك بالزناد.

 

الزعم بضبط "طن من المخدرات" بقيمة 75 مليون جنيه يطرح سؤالاً محورياً: إذا كانت الأجهزة الأمنية بهذه الكفاءة في ضبط شبكات المخدرات، فلماذا تتفاقم ظاهرة الإدمان في مصر؟ لماذا يصل المخدر إلى المدارس والجامعات؟ الحقيقة أن البيانات الأمنية "الإنجازية" تُصنع للاستهلاك الإعلامي، بينما الواقع يقول إن تجارة المخدرات مستمرة وتتمدد تحت سمع وبصر السلطات، بل ربما بتواطؤ بعضها.

 

رصاصة طائشة تقتل البراءة: الثمن الباهظ لغياب الأمن الحقيقي

 

رقية، الطفلة التي كانت تقف في شرفة منزلها تراقب زفة عرس، لم تكن تعلم أن فضولها البريء سيكلفها حياتها. رصاصة طائشة أطلقها أحد المحتفلين اخترقت جسدها الصغير وحولت فرحها إلى مأساة أبدية لأسرتها.

 

هذه الواقعة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل نظام عجز عن ضبط انتشار السلاح غير المرخص. إطلاق الأعيرة النارية في الأفراح والمناسبات أصبح ظاهرة متفشية رغم القوانين التي تجرّمها، لأن التطبيق الفعلي غائب، والردع الحقيقي مفقود.

 

أكثر من 150 شخصاً في حفل الزفاف، بينهم كبار سن، شهدوا جريمة القتل هذه. ومع ذلك، فرّ العريس من موقع الحادث، وغادرت أسرة المتهم المنطقة بالكامل، في مشهد يكشف غياب هيبة القانون. المجرم يهرب، والعائلة تختفي، والضحية طفلة بريئة تدفن في صمت، بينما النظام يواصل حديثه عن "ضبط الأمن" و"الاستقرار".

 

الأم التي روت تفاصيل اللحظات الأخيرة مع ابنتها تختصر مأساة آلاف الأسر المصرية التي فقدت أبناءها بسبب العنف المنفلت. رقية كانت متفوقة في دراستها، محبوبة من أسرتها، تتطلع لمستقبل لم يُقدّر لها أن تعيشه. حياتها انتهت بسبب رصاصة لم تكن موجهة إليها، لكنها نتيجة حتمية لثقافة السلاح التي تركها النظام تستشري دون رادع.

 

السلطة تقتل بيديها وتتساهل مع القتلة

 

التناقض الصارخ بين الحادثتين يكشف النفاق الأمني للنظام. في بني سويف، تُطلق الأجهزة الأمنية النار بسخاء لـ"تصفية" من تريد تحت غطاء مكافحة المخدرات. في البراجيل، تعجز هذه الأجهزة عن منع انتشار السلاح أو محاسبة من يطلقه عشوائياً في مناسبات عامة.

 

السلطة التي تزعم ضبط 21 قطعة سلاح ناري في عملية واحدة، لا تستطيع منع آلاف القطع المنتشرة في الشوارع والأفراح. السلطة التي تتحدث عن "بؤر إجرامية شديدة الخطورة"، تترك بؤر العنف الحقيقية تنمو في كل حي وقرية دون تدخل فعال.

 

المشكلة ليست في عدم وجود قوانين، بل في غياب الإرادة السياسية لتطبيقها بعدالة. القوة المفرطة تُستخدم ضد المعارضين السياسيين والمستهدفين أمنياً، بينما يُترك العنف المجتمعي يتفاقم دون معالجة جذرية.

 

والد رقية يؤكد أنه لا يعرف المتهم، وأن كاميرات المراقبة كشفت فرار العريس من موقع الجريمة. لكن السؤال: هل ستُتابع القضية بجدية؟ هل سيُحاسب المتهم فعلاً؟ أم ستُطوى الواقعة كغيرها من آلاف الوقائع المشابهة التي تنتهي بـ"صلح عائلي" أو "دية" تُدفع للأسرة مقابل التنازل؟

 

نظام يقتل بيده تحت غطاء "القانون"، ويترك المجرمين الحقيقيين يقتلون الأبرياء دون رادع، هو نظام فاقد للشرعية والمصداقية. المواطن المصري بات محاصراً بين عنف السلطة وعنف المجتمع، وكلاهما نتيجة مباشرة لسياسات نظام فشل في توفير الأمن الحقيقي واستبدله بالقمع والفوضى.