يلقي لدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، الضوء على سنة "التدرج" كواحدة من السنن الإلهية التي يغفل عنها المتعجلون، مؤكداً أنها قانون كوني وشرعي في آن واحد. فمن الناحية الكونية، خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وجعل الكائنات تنمو عبر مراحل، رغم قدرته على خلقها بكلمة "كن". أما شرعياً، فقد تدرج الإسلام في التشريع، بادئاً بترسيخ العقيدة قبل فرض الفرائض وتحريم المحرمات، كما أوضحت السيدة عائشة في حديثها عن تدرج تحريم الخمر والزنا لضمان استجابة النفوس.
ويدعو العلامة دعاة الإصلاح اليوم لمراعاة هذه السنة، مستشهداً بحكمة الخليفة عمر بن عبد العزيز في رده على حماسة ابنه للإسراع في التغيير؛ حيث أوضح له أن حمل الناس على الحق دفعة واحدة قد يؤدي إلى تركه دفعة واحدة، مما يسبب الفتنة، مفضلاً التدرج كما تدرج القرآن في تحريم الخمر.
ومن السنن المهمة التي يغفل عنها المتحمسون والمتعجلون سنتان مهمتان هـما: سنة التدرج، وسنة الأجل المسمى.
التدرج.. قانون كوني وتشريع رباني
فأما التدرج فهو سنة كونية، وسنة شرعية أيضا. ولهذا خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، وكان قادرا أن يقول: كوني فتكون، ولكنه خلقها في أيام ستة من أيام الله تعالى، أي في ستة أطوار أو أزمنة يعلمها الله، فليست هـي أيامنا هـذه إذ هـي قبل خلق الشمس والأرض وما يتبعهما من ليل أو نهار. وكذلك نرى خلق الإنسان والحيوان والنبات، كلها تتدرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها.
فهذا من الناحية الكونية، وأما من الناحية الشرعية، فقد بدأ الإسلام بالدعوة إلى التوحيد وتثبيت العقيدة السليمة، ثم كان التشريع شيئا فشيئا. فقد فرضت الفرائض وحرمت المحرمات بالتدريج، كما هـو ثابت في فرض الصلاة والصيام والزكاة، وتحريم الخمر وغيرها، ولهذا افترق القرآن المكي عن المدني. وفي هـذا المعنى تقول عائشة رضي الله عنها ، واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن: " إنما أنزل أول ما أنزل من القرآن سور فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر ولا تزنوا، لقالوا: لا ندع الخمر ولا الزنى أبدا ".
دعوة لاستلهام التدرج في الإصلاح المعاصر
ومن هـنا كان على الذين يدعون إلى استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة الإسلام في الأرض، أن يراعوا سنة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف، آخذين في الاعتبار سمو الهدف، ومبلغ الإمكانات، وكثرة المعوقات. ويحضرني هـنا مثل من سيرة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين المهديين المقتدى بهم، فقد أراد عمر أن يعود بالحياة إلى هـدي الخلفاء الأربعة وذلك بعد أن يتمكن ويمسك الخيوط في يديه، ولكن كان ابنه الشاب الغيور عبد الملك من الأتقياء المتحمسين، ينكر على أبيه عدم إسراعه في إزالة كل بقايا الانحراف والمظالم والتعفية على آثارها، ورد الأمور إلى سنن الراشدين.
حكمة عمر بن عبد العزيز.. درس في السياسة الشرعية
فقال له يوما: مالك يا أبت لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فكان جواب الأب الفقيه المؤمن: لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة.

