لم يكن مقتل الشاب إسلام إبراهيم جمعة عبدالعال في قرية النسيمية بمركز المنصورة مجرد جريمة غدر بين أصدقاء، بل تحول إلى مرآة قاسية تكشف عمق العطب في منظومة الدولة التي تركت شابًا مختفيًا لست سنوات كاملة دون أن تتمكن من الوصول إلى مصيره أو جثمانه، بينما كانت أسرته تجوب الأقسام والنيابات دون جدوى.

 

فجرائم القتل تقع في كل المجتمعات، لكن استمرار اختفاء شاب لسنوات بهذا الشكل، وانكشاف الحقيقة بالصدفة بعد خلاف بين الجناة في محافظة أخرى، يضع علامات استفهام ثقيلة على كفاءة أجهزة البحث الجنائي، وعلى حقيقة اهتمام الدولة بحياة مواطنيها من خارج دوائر النفوذ والوساطة.

 

«خرج ولم يعد».. وأسرة تُترك وحيدة في مواجهة الغياب

 

ليلة عيد الأضحى عام 2019 خرج إسلام من منزله بعد اتصال من أصدقائه، ثم اختفى تمامًا، لتبدأ أسرته رحلة شاقة بين قسم شرطة مركز المنصورة والنيابة بحثًا عن خيط واحد يفسّر الغياب. ظلت الأم لسنوات تحمل صورته، وتطرق الأبواب وتسأل في المستشفيات والمشارح والقرى المجاورة، بينما قيدت القضية «تغيّب» وانتهى دور الدولة عمليًا عند هذا السطر البارد في دفتر المحاضر..

 

لم تُبنَ خريطة جادة لتحركاته الأخيرة، ولم يُفكَّك محيطه الاجتماعي من أصدقاء ومعارف، ولم تُعامل الواقعة باعتبارها احتمال جريمة خطيرة، بل كأنها مجرد شاب «هرب» أو «سافر» كما يُقال للأهالي عادة لتهدئتهم وإغلاق الملفات المزعجة. تركت الأسرة وحدها في مواجهة الغياب، بينما المنظومة الأمنية مشغولة أكثر بتأمين النظام لا تأمين الناس.

 

جثة تحت الماء وعيون الدولة في اتجاه آخر

 

ثلاثة من أصدقاء إسلام استدرجوه، طعنوه حتى الموت، قيدوا جسده بحبال، لفّوه داخل سجادة وربطوا به حجرًا ثقيلًا وألقوه في مصرف مائي على أطراف القرية، لتظل الجثة تحت الماء لست سنوات كاملة، قبل أن يبقى منها رفات وعظام قليلة. هذا المشهد الصادم لا يدين فقط قتلة تجرّدوا من الإنسانية، بل يفضح واقعًا أكثر قسوة: جسد مواطن مصري مقيّد ومربوط بحجر، على حافة مصرف في قرية معروفة، ولم تستطع دولة كاملة بأجهزتها وأدواتها أن تقترب منه أو تكتشف وجوده. أي منظومة بحث جنائي تلك التي لا تعود لمراجعة أماكن الترع والمصارف والبراري المحيطة بمسرح تغيب شاب لفترة طويلة؟ وأي عقل أمني يعتبر ملفًا بهذا الشكل «مجرد محضر تغيّب» لا يستحق إعادة الفحص الدوري ولا مراجعة التحريات مع تغيّر الزمن والظروف؟

 

انكشاف الحقيقة بالصدفة: عندما تحل الخلافات مكان التحريات

 

لم تنكشف الجريمة بسبب مجهود منظم للأمن أو تطور في أدوات البحث، بل بفعل خلاف بين اثنين من الجناة أثناء وجودهما في محافظة أخرى للعمل، دفع أحدهما تحت الخوف والتهديد إلى التوجه لقسم شرطة هناك والاعتراف بما حدث قبل ست سنوات، والإرشاد عن مكان التخلص من الجثة. هذه التفاصيل وحدها كافية لإدانة منطق «إدارة الأمن» الراهن: الحقيقة لا تظهر نتيجة عمل احترافي ممنهج، بل بـ«ضربة حظ» أو نوبة تأنيب ضمير أو صراع بين مجرمين. لو لم يتشاجر المتهمان، ولو ظل الخلاف مكتومًا، لكان ملف إسلام مفتوحًا على الرف، وأمه تواصل الانتظار حتى الموت، في دولة تُنفق المليارات على التسليح والمباني الجديدة، لكنها تعجز عن بناء منظومة تحقيق حقيقية تحترم قيمة الإنسان وحق أسرته في المعرفة والعدالة.

 

صلاة الغائب في القرية.. وغياب الحاضر في مؤسسات الدولة

 

حين أدى أهالي قرية النسيمية صلاة الغائب على رفات إسلام بعد ست سنوات من الانتظار، لم تكن الصلاة مجرد وداع لشاب مظلوم، بل كانت أيضًا بمثابة اتهام صامت لسلطة غائبة إلا عن جباية الرسوم وفواتير الكهرباء والضرائب. القرية التي تحزن وتقف خلف الأسرة تمارس ما تبقى من تضامن اجتماعي، بينما مؤسسات الدولة لا تظهر إلا في بيانات جافة عن «ضبط المتهمين» و«تجديد الحبس»، وكأنها بريئة من كل ما سبق اللحظة الأخيرة. العدالة الحقيقية لا تبدأ عند الاعتراف وانتشال الرفات، بل تبدأ عندما تُسأل الدولة: لماذا تركتم هذه الأسرة تحترق بالانتظار كل هذه السنوات؟ ولماذا لم تتحركوا بجدية إلا بعد أن تشاجر القتلة واعترف واحد منهم خوفًا على نفسه؟

 

ختاما فقضية إسلام جمعة ليست مجرد قصة مأساوية تصلح لعناوين الصحف، بل ملف اتهام سياسي وأمني واجتماعي في آن واحد. هي شهادة على منظومة لا ترى المواطن العادي إلا رقمًا هامشيًا، وعلى أجهزة أمن تُحسن ضبط الهتاف والبوست السياسي، لكنها تفشل في أبسط واجباتها: حماية أرواح الناس وكشف مصير المفقودين في وقت معقول.