لم يعد الحديث عن نزاهة الانتخابات في مصر سوى ترف نظري، في ظل منظومة يرأسها قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي ويديرها أعوانه بقبضة أمنية تتجاوز الدستور والقانون. إلغاء نتائج المرحلة الأولى في 19 لجنة فرعية بسبع محافظات كشف عجز السلطة عن إدارة أقل استحقاق ديمقراطي، وأزاح الستار عن صراع جهات قضائية تآكلت شرعيتها في ظل سيطرة الأجهزة التنفيذية. الحرب المعلنة بين نادي القضاة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة لم تكن إلا انعكاسًا لانهيار الحياد القضائي، مع محاولة يائسة من نظام السيسي لتزييف صورة المشاركة الشعبية ورمي التهم على "أجنحة الأسرة القضائية".

 

صراع أجنحة القضاء.. أزمة شرعية لا خلاف إداري

 

إلغاء الانتخابات لم يكن نتاج مخالفات عابرة بل نتيجة منهجية حكم تُحمل القضاء واجبات غير دستورية وتغطي على تجاوزات السلطة التنفيذية. في بيان نادي القضاة الذي أتى في توقيت حساس، حاول القضاة التبرؤ من الإشراف الميداني، مؤكدين التزامهم بالدستور، وشاكرين للهيئتين القضائيتين الأخرى جهودهما. لكن ما بدا "دبلوماسية لغوية" تحول سريعًا لغضب في أوساط النيابة الإدارية وقضايا الدولة، اللتين اعتبرتا البيان محاولة رخيصة لإلقاء المسؤولية عليهما وتحويلهما إلى كبش فداء لمخالفات انتخابية منظمة.

 

تسارع ردود الأفعال، خاصة بيان النادي البحري للنيابة الإدارية بالإسكندرية، كشف حالة توتر غير مسبوقة بين جهات يُفترض أنها تتضامن في حماية النظام القضائي. البيان وصف موقف القضاة بـ"النرجسية"، مُلمحًا إلى أن التخلي عن المشاركة يُمثل انتهازية وترفُعًا عن مهمة وطنية، مع تحميل الهيئة الوطنية للانتخابات مسؤولية مباشرة عن أزمة عدم تسليم محاضر الفرز. مصدر

 

حكومة الانقلاب: زيف المشاركة، انهيار الثقة

 

قرارات الهيئة الوطنية للانتخابات، وتوجيهات السيسي نفسه، لم تكن إلا محاولات لشرعنة العملية الانتخابية وإقناع الخارج والداخل باستمرارية "النظام الديمقراطي"؛ بينما الواقع أن نسبة التصويت الحقيقية متدنية جدًا، وسط مشاهد اصطناع الحشود وشراء الأصوات بكرتونة غذاء أو تعليمات الأمن المحلي. شهادة نائب رئيس هيئة قضايا الدولة توضح عمق الفجوة بين المعلن والواقع: في إحدى لجان الوراق، حضر 102 من أصل 8000 ناخب، بينما كانت "الحشود" خارج اللجنة تُستخدم لتصوير مشهد ديمقراطي زائف. كل ذلك برعاية النظام الذي قنن التلاعب بدلًا من معالجة أسبابه، مستغلاً غياب مندوبين المرشحين كذريعة لعدم تسليم المحاضر رسميًا. مصدر

 

تواطؤ القضاء مع السلطة.. انهيار مؤسساتي ممنهج

 

وراء النقاشات بين جهات القضاء، تكمن أزمة أخلاقية وسياسية: القضاء في عهد السيسي تم تفكيكه وتحويله إلى أداة تنفيذية، بلا قدرة على الرقابة أو مساءلة السلطة. العلاقة بين مؤسسات القضاء، كما يُسوقها رئيس هيئة قضايا الدولة، محكومة بالمجلس الأعلى للجهات القضائية الذي يخضع لرئيس الجمهورية، ما يحول كل مؤسسة إلى "ذراع وظيفي" يخدم السلطة التنفيذية. تصريحات مسؤولي القضاء تصر على ضرورة تبرئة الذات خوفًا من ضياع "الهيبة القضائية"، متجاهلين دورهم في تكريس فقدان الثقة المجتمعية بالعملية السياسية.

 

خلل التوازن بين مؤسسات الدولة يتعمق بأفعال السيسي وحكومته الساعية لتحميل القضاء تشوهات السلطة، وإسكات كل صوت معارض بدعوى الحفاظ على "النظام العام". الأزمة الأخيرة ليست خلافًا إدارياً، بل شهادة قاطعة على انهيار الدولة القانونية وتحلف القضاء مع سلطة القمع والفساد. حينما تصبح السلطة القضائية عاجزة عن حماية نزاهة الانتخابات أو حتى تنظيمها بشكل يحفظ السمعة، يتعمق الانهيار وتنسف شرعية أي برلمان جديد.

 

شباب غائب، جيل محبط.. مسؤولية السيسي عن صناعة اللاشرعية

 

تشير تصريحات مسؤولي القضاء وقضايا الدولة، إلى انعدام الثقة لدى الشباب الجامعي والنخب المثقفة، الذين باتوا يرفضون المشاركة في مهزلة سياسية باتت نتائجها محسومة سلفًا. الإحباط لم يكن نتاج سياسات انتخابية، بل نتيجة منظومة تربوية وإعلامية فاشلة، صنعت "جيلًا لا يهتم بالمشاركة السياسية"، وفق تعبير نائب رئيس هيئة قضايا الدولة. يظل السيسي مسؤولاً عن تسطيح المشاركة وضرب روح المواطنة، إذ حول الانتخابات إلى مسرحية شبه بوليسية تزداد فيها مظاهر الفساد والانتهازية، وسط صورة إعلامية مزيفة تُغطي الفشل الهيكلي وانهيار مؤسسات الدولة.

 

وأخيرا انكشفت أزمة المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية عن زيف منظومة السيسي وحكومته، وأظهرت انهيار الثقة بين مؤسسات القضاء التي كان يفترض بها أن تحمي الإرادة الشعبية. السلطة التنفيذية وبإدارة السيسي المباشرة، مسؤولة عن التلاعب، انهيار النزاهة، وتكريس القمع الهيكلي، لتظل مصر أسيرة حكم غير شرعي يعيش على أنقاض القضاء وشرعية الصندوق الانتخابي المنهار.