رغم إصدار الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي حزمة قرارات تحفيزية وتنظيمية مساء السبت، فإن احتجاجات عمال مياه القاهرة تصاعدت في اليوم التالي، الأحد 16 نوفمبر، وشملت أكثر من 30 موقعًا في العاصمة، في مشهد نادر من التمرد العمالي المنظم في مواجهة ما وصفه العمال بـ"التحايل المفضوح" على المطالب الحقيقية.

 

القرارات، التي رُوّج لها باعتبارها استجابة للأزمة، فشلت في وقف الغليان، بل زادت من حدة الغضب، خصوصًا مع تجاهلها لثلاثة مطالب رئيسية: صرف العلاوات المتأخرة، وتثبيت المؤقتين، وإقالة نائب رئيس الشركة علي عماشة، لتتواصل الهتافات والمظاهرات، بالتزامن مع حضور أمني لافت في عدة مواقع دون قمع، في انتظار ما ستسفر عنه المواجهة.

 

"تحايل رسمي" لا يُرضي أحدًا: قرارات شكلية لتسكين الأزمة

 

تضمنت قرارات الشركة القابضة 13 بندًا وُصفت بأنها "حزمة تحفيزية"، منها:

 

- مراجعة الفروق الضريبية.

 

- تسوية المؤهلات للعاملين أثناء الخدمة.

 

- تطبيق الحد الأدنى للأجور.

 

- دراسة زيادات بدل الوجبة والمياه.

 

- إعفاء المحصلين من البصمة عند الانصراف.

 

لكن العمال وصفوها بـ"حزمة ذر الرماد في العيون"، وأكدوا أن أي قرار لا يتضمن صرف العلاوات المتأخرة وتثبيت العمالة المؤقتة هو التفاف لا أكثر، مشيرين إلى أن الإدارة تراوغ منذ 2016، وبعض العاملين حصلوا بالفعل على أحكام قضائية واجبة النفاذ لم تُنفذ حتى الآن.

 

إصرار على التصعيد: من المحصلين إلى المحطات

 

التحركات العمالية شهدت تطورًا نوعيًا يوم الأحد، إذ توسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل 6 محطات مياه رئيسية، بعدما كانت التظاهرات مقتصرة على ثلاث فقط حتى السبت.

 

شارك المحصلون بقوة في الإضراب، وأكدوا استمرار الامتناع عن التحصيل لليوم الخامس على التوالي، ما أدى إلى انهيار إيرادات التحصيل بنسبة تقارب 80%، وانضم إليهم مشرفو التحصيل الذين أجبرتهم الإدارة على النزول سابقًا لتغطية العجز.

 

في الوقت نفسه، هتف العمال في مقار الشركة وفروعها بـ"مش هنمشي.. عماشة يمشي"، و"يا وزير الإسكان حقوقنا ضايعة من زمان"، في رفض واضح لأي محاولات للتهدئة غير المصحوبة بإجراءات فعلية.


"الأمن الوطني" يستمع ولا يتدخل: شلل في عشرات المواقع والخوف من التوسع

 

أكدت مصادر ميدانية أن ضباطًا من الأمن الوطني زاروا مواقع مثل شبكات الزيتون ومصر الجديدة والحي العاشر، لكنهم لم يمنعوا الاحتجاجات، بل استمعوا لمطالب العمال وسط استمرار الهتافات، ما يشير إلى حذر أمني واضح في التعامل مع تحرك عمالي واسع ومنظم بشكل غير معتاد.

 

في المقابل، يواصل العاملون تعطيل العمل في شبكات المياه، المحطات، فروع العملاء، المخازن، والإدارة العامة، وسط شلل واسع في منظومة التحصيل والصيانة والتشغيل داخل القاهرة الكبرى.

 

مطلب الإقالة: "عماشة" عنوان الأزمة

 

يتمسك المحتجون بمطلب رئيسي غير قابل للتفاوض: إقالة علي عماشة، نائب رئيس الشركة للشؤون المالية والإدارية، بسبب ما يعتبرونه مسؤوليته المباشرة عن تجميد المستحقات، وإفشال أي تسوية عادلة منذ سنوات.

 

ورغم وعود القائم بأعمال رئيس القابضة أحمد جابر أثناء لقاءه بالعمال الخميس الماضي، والتي شملت النظر في هذا المطلب، إلا أن القرار لم يصدر، مما فاقم مشاعر الغدر والخداع لدى العاملين.

 

دروس من الماضي: انتفاضات مياه الشرب لا تتوقف

 

هذه ليست أول موجة غضب في شركات المياه:

 

في يوليو الماضي، نفذ عمال مياه الإسكندرية اعتصامات ومظاهرات.

 

في مارس، احتج محصلو القليوبية على تدني أجورهم وغياب العقود.

 

واليوم، يتكرر المشهد لكن بمستوى أعلى من التنظيم والإصرار.

 

ورغم الحراك المتكرر، تصر حكومة الانقلاب على تجاهل الأصوات العمالية، والتعامل مع الأزمات بالمسكنات أو التدخل الأمني، دون أي إرادة حقيقية لمعالجة جذور الظلم الوظيفي والتمييز في الأجور داخل القطاع.

 

دولة تتجاهل العامل.. ثم تتساءل عن الإنتاج؟

 

في الوقت الذي تطلب فيه الدولة من عمالها "الانضباط والإنتاج"، تصر على التمييز بينهم: فعمال الشركة القابضة يتقاضون أجورًا تفوق نظراءهم في الفروع بـ4 آلاف جنيه، في الوقت الذي يتساوى فيه رواتب من خدموا 30 عامًا مع حديثي التعيين، وسط تجاهل تام لأي عدالة وظيفية.

 

وفي ظل تجاهل الدولة لمطالب العاملين، وتحويل أبسط الحقوق إلى معارك قضائية، تبدو الاحتجاجات مرشحة للتصعيد أكثر فأكثر، ما لم تتوقف السلطة عن سياسة "الإنهاك والتطفيش" وتبدأ فعليًا في الاستجابة لمطالب الناس لا الالتفاف عليها.