في تصعيد مأساوي جديد للصراع الدائر في السودان، اهتزت مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، على وقع هجوم دموي استهدف تجمعاً للعزاء، مخلفاً وراءه عشرات القتلى والجرحى، في مشهد يعكس الانزلاق الكامل للبلاد نحو حرب مفتوحة لا تفرق بين مدني وعسكري.
هذا الهجوم، الذي أدانته الأمم المتحدة، جاء بالتزامن مع إعلان مجلس الأمن والدفاع السوداني حالة التعبئة العامة والاستنفار الشامل بهدف القضاء على قوات الدعم السريع، في قرار يرسم ملامح مرحلة جديدة من المواجهة العسكرية الشاملة.
وبينما يدوي صوت المدافع في كردفان، تحاول الحكومة في بورتسودان إرسال رسائل متناقضة، تجمع بين لغة الحرب الصريحة والحديث عن العودة إلى الخرطوم "الآمنة" وتشكيل لجان إنسانية، مما يطرح تساؤلات عميقة حول استراتيجية الدولة وقدرتها على إدارة أزمة هي الأعنف في تاريخ السودان الحديث.
مجزرة تهز كردفان
أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في تقرير صادم صدر يوم الأربعاء، بمقتل ما لا يقل عن 40 شخصاً وإصابة آخرين في هجوم وحشي استهدف مواطنين أبرياء أثناء تأديتهم واجب العزاء في مدينة الأبيض.
ورغم أن المكتب الأممي لم يحدد بشكل قاطع الجهة التي تقف وراء الهجوم، إلا أن أصابع الاتهام غير الرسمية تشير إلى أطراف الصراع المشتعل في المنطقة، حيث تشهد مدن كردفان، ذات الأهمية الاستراتيجية، معارك ضارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
وقد حذر التقرير الأممي من أن "الوضع الأمني في منطقة كردفان مستمر في التدهور"، وهو ما يؤكد أن المدنيين أصبحوا الوقود الرئيسي لهذه الحرب، يدفعون بأرواحهم ثمن صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل.
وتأتي هذه الحادثة لتضاف إلى سلسلة طويلة من الانتهاكات وجرائم الحرب التي وثقتها منظمات حقوقية منذ بدء النزاع، وتؤكد فشل طرفي الصراع في الالتزام بأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بحماية المدنيين.
البرهان يعلن الاستنفار الأقصى
رداً على التطورات الميدانية المتسارعة، عقد مجلس الأمن والدفاع السوداني اجتماعاً طارئاً يوم الثلاثاء برئاسة الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان.
وتمخض الاجتماع عن قرار هو الأكثر حسماً منذ بدء الأزمة، حيث أعلن المجلس التعبئة العامة والاستنفار للقضاء على ما وصفه بـ"ميليشيات الدعم السريع".
هذا الإعلان يمثل تحولاً استراتيجياً في خطاب الدولة، من الحديث عن "تمرد" محدود إلى إعلان حرب شاملة تهدف إلى الاجتثاث الكامل للخصم.
وقد أكد وزير الدفاع السوداني، حسن كبرون، هذا التوجه في تصريحاته التي أعلن فيها أن الجيش سيواصل استعداداته لمواصلة القتال، معتبراً ذلك "حقاً وطنياً مشروعاً لحماية الوطن واستعادة الاستقرار".
وفي مفارقة تكشف عن تعقيدات المشهد، شدد الوزير في الوقت نفسه على ترحيب المجلس بكل جهود ومبادرات السلام، وهو ما يعكس ازدواجية في الموقف الرسمي، بين الرغبة في الحسم العسكري والإبقاء على نافذة مفتوحة أمام الحلول السياسية المحتملة.
عودة إلى خرطوم "آمنة" وسط تساؤلات
في خطوة رمزية تهدف إلى إظهار سيطرة الدولة واستعادة زمام المبادرة، قرر مجلس الأمن والدفاع عودة الحكومة الانتقالية فوراً من مقرها المؤقت في مدينة بورتسودان إلى العاصمة الخرطوم.
وبرر المجلس هذا القرار بأن الخرطوم أصبحت "آمنة بالكامل" عقب استكمال عمليات التمشيط وعودة الاستقرار إلى معظم أحيائها ومؤسساتها الحكومية.
وشدد المجلس على أن هذه العودة تمثل بداية لمرحلة جديدة من إعادة الإعمار واستعادة الحياة الطبيعية.
إلا أن هذا الإعلان يثير تساؤلات جدية حول مدى واقعيته، فالتقارير الميدانية تشير إلى أن أجزاء واسعة من العاصمة لا تزال مناطق اشتباكات أو تحت سيطرة الدعم السريع، كما أن البنية التحتية مدمرة والخدمات الأساسية منهارة.
ويرى مراقبون أن هذه الخطوة قد تكون محاولة من الحكومة لرفع الروح المعنوية لقواتها وأنصارها، وتوجيه رسالة للمجتمع الدولي بأنها الطرف المسيطر على الأرض، حتى وإن كان ذلك بشكل جزئي.
مناورات دبلوماسية ولجان إنسانية
لم يخلُ اجتماع مجلس الأمن والدفاع من لفتات دبلوماسية وإنسانية، حيث قرر المجلس تشكيل لجنة وطنية متخصصة بالشأن الإنساني لتنسيق الجهود مع المنظمات المحلية والدولية، وضمان وصول المساعدات إلى المتضررين في مناطق النزاع.
كما عبر المجلس عن شكره للولايات المتحدة ومستشار الرئيس الأمريكي للشؤون العربية والأفريقية، مسعد بولس، على مساعيه ومقترحاته الرامية لدعم الحلول السلمية.
وتأتي هذه التحركات بالتزامن مع مشاورات أجرتها الحكومة مع شركائها في حركات دارفور المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا، بشأن الموقف من مقترح هدنة إنسانية تطرحه الولايات المتحدة.
هذا التزامن بين إعلان التعبئة العامة والحديث عن الهدن والحلول السلمية يعكس حالة التخبط والمناورة التي تميز أداء السلطة في تعاملها مع الأزمة، حيث تحاول الموازنة بين ضغوط الداخل المطالبة بالحسم وضغوط الخارج الداعية للتهدئة.
وقد شارك في الاجتماع الحاسم كل من رئيس الوزراء كامل إدريس، وأعضاء المجلس السيادي بشقيه المدني والعسكري، ورئيس هيئة الأركان، ومديرو الأجهزة الاستخباراتية، وعدد من الوزراء، مما يمنح قراراته ثقلاً سياسياً وأمنياً كبيراً في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان.

