تتصاعد شكاوى أصحاب المخابز في مختلف المحافظات المصرية مع اشتداد أزمة ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، وعلى رأسها الردة (النخالة) والوقود والكهرباء، مما دفع بعضهم إلى خفض أوزان الرغيف المدعم في محاولة لتقليل الخسائر.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن ضبط المنظومة وتحسين كفاءة الدعم، يرى أصحاب المخابز أن القرارات الحكومية الأخيرة زادت من معاناتهم، وأن الخسائر اليومية تهدد بإغلاق عدد كبير من المخابز الصغيرة والمتوسطة التي لم تعد قادرة على الاستمرار.
ارتفاع تكاليف التشغيل والوقود يلتهم أرباح المخابز
أكد عدد من أصحاب المخابز أن ارتفاع أسعار الوقود خلال الشهور الماضية أدى إلى زيادة كبيرة في تكلفة تشغيل الأفران، خاصة في المناطق التي تعتمد على السولار بشكل أساسي.
يقول أحمد عبد الحميد، صاحب مخبز في محافظة القليوبية: "الفرن الذي كان يستهلك 30 لتر سولار يومياً أصبح الآن يكلف ضعف السعر تقريباً، في حين لم يتم تعديل التكلفة التي نحصل عليها من الدولة مقابل إنتاج الرغيف، مما جعلنا نعمل بخسارة مستمرة."
ويضيف أن الارتفاع المتكرر في أسعار الكهرباء أيضاً زاد من العبء على المخابز الآلية التي تعمل بنظام الكهرباء والغاز، مشيراً إلى أن فاتورة الكهرباء تضاعفت تقريباً منذ بداية العام، دون أن يقابل ذلك أي دعم إضافي.
أزمة الردة.. الموردون يرفعون الأسعار والدولة صامتة
تُعد الردة أحد المكونات الأساسية في صناعة الخبز، سواء في عمليات العجن أو في الاستخدام التجاري، كما تمثل مورداً رئيسياً لأصحاب المخابز عند بيعها للمطاحن أو تجار الأعلاف. ومع ارتفاع سعر الردة بنسبة تجاوزت 60% خلال العام الجاري، خسر أصحاب المخابز أحد أهم مصادر تغطية التكاليف.
يقول عبد الفتاح الدسوقي، عضو شعبة المخابز باتحاد الغرف التجارية: "كانت الردة تساعد المخابز على تعويض فارق التكلفة بين السعر الرسمي وسعر السوق، لكن مع ارتفاع أسعارها وفقدان السيطرة على توزيعها، أصبحت عبئاً إضافياً بدلاً من أن تكون مصدر دخل."
ويشير إلى أن السوق يشهد مضاربات حادة من بعض التجار الذين يحتكرون الردة ويبيعونها بأسعار مضاعفة، في ظل غياب الرقابة الحقيقية من وزارة التموين.
خفض أوزان الرغيف كحل اضطراري لتعويض الخسائر
أمام هذه الضغوط، لجأ بعض أصحاب المخابز إلى خفض الوزن الفعلي للرغيف المدعم، ليصل في بعض المناطق إلى أقل من 85 جراماً بدلاً من 90 جراماً، في محاولة لتقليل الفاقد.
يقول محمد سرور، صاحب مخبز في محافظة المنوفية: "نحن لا نهدف إلى الغش أو تقليل حق المواطن، ولكن لا يمكن أن نتحمل الخسائر اليومية. ننتج آلاف الأرغفة في اليوم وكل رغيف يحمل خسارة بسيطة، لكنها في النهاية تقتل المشروع."
ويضيف أن عدداً من المخابز في القرى الصغيرة أغلقت أبوابها فعلاً، وأن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى تراجع المعروض من الرغيف المدعم، وهو ما سيخلق أزمة جديدة في الأسواق الشعبية.
الحكومة ترد بتشديد الرقابة وتهديد بالعقوبات
في المقابل، أكدت وزارة التموين والتجارة الداخلية أنها لن تسمح بأي تلاعب في منظومة الخبز المدعم، مشيرة إلى أن مفتشي التموين ينفذون حملات يومية لرصد المخابز المخالفة.
وقال مصدر مسؤول في الوزارة إن أي مخبز يثبت تقليله لوزن الرغيف أو التلاعب في المكونات سيتعرض للغلق وسحب الحصة التموينية فوراً.
غير أن العديد من أصحاب المخابز يردون بأن الحل لا يكون في العقوبات، بل في مراجعة التكلفة الفعلية للإنتاج بما يتناسب مع الأسعار الحالية.
خبراء اقتصاد يطالبون بإعادة النظر في تسعير الرغيف
يرى الدكتور وائل النحاس، الخبير الاقتصادي، أن استمرار الحكومة في تثبيت سعر الرغيف المدعم عند 5 قروش منذ عقود لم يعد منطقياً في ظل موجات التضخم العالمية وارتفاع أسعار الطاقة.
"لا يمكن أن نحافظ على سعر رمزي لسلعة أساسية بينما تتضاعف تكاليف الإنتاج. المطلوب ليس رفع السعر مباشرة، بل دعم المخابز بشكل مباشر وتوفير الوقود بأسعار تفضيلية لها، حتى لا تنهار المنظومة كلها."
وأضاف أن إصلاح منظومة الدعم يجب أن يكون تدريجياً ومدروساً، بحيث لا يتحمل المواطن عبء الإصلاح وحده، ولا يُترك صاحب المخبز ليواجه السوق بمفرده.
بين مطرقة الحكومة وسندان الخسائر
في ظل غياب حلول عملية، يجد أصحاب المخابز أنفسهم بين مطرقة الحكومة التي تفرض رقابة صارمة، وسندان السوق الذي لا يرحم.
يقول طارق عبد السلام، صاحب مخبز في الشرقية: "نحن نعمل 12 ساعة يومياً لنخرج رغيفاً يليق بالمواطن، لكننا نخسر كل يوم. إن لم تتحرك الدولة لتحديث منظومة التسعير، فستختفي المخابز الصغيرة تباعاً."
خاتما تظهر أزمة المخابز الأخيرة خللاً متراكماً في سياسات الدعم الحكومي التي لم تواكب التطورات الاقتصادية، ما جعل الرغيف المدعم يتحول من رمز للعدالة الاجتماعية إلى عبء على المنتج والمستهلك معاً. وبينما تؤكد الحكومة تمسكها بسعر الخبز، فإن الواقع الميداني يشير إلى أن استمرار تجاهل مشكلات أصحاب المخابز سيقود إلى أزمة خبز جديدة لا تُحمد عقباها.

