في خطوة تعكس استمرار اعتماد الحكومة على الاقتراض كخيار وحيد لمواجهة التزاماتها المالية، أعلن البنك المركزي المصري عن اقتراض 600 مليون يورو عبر بيع أذون خزانة لأجل عام، بهدف سداد ديون مستحقة بقيمة 642.8 مليون يورو، بمتوسط عائد بلغ 3.5%، وفقًا لما نقلته وكالة "رويترز".

هذه الخطوة، رغم ما قد تبدو عليه من إدارة مالية مرحلية، تطرح تساؤلات عميقة حول سياسة الاقتراض المتكررة، ومدى قدرة الاقتصاد المصري على الخروج من هذه الحلقة المفرغة التي تقوم على الاقتراض لسداد الديون السابقة دون تحقيق إنتاج حقيقي أو زيادة في الإيرادات المستدامة.
 

الاقتراض لسداد الديون.. سياسة تُعمّق الأزمة
لم تعد سياسة الحكومة في الاقتراض محصورة في تمويل مشروعات تنموية أو تحسين الخدمات، بل أصبحت موجهة في الأساس نحو سداد التزامات ديون سابقة.
فبدلاً من البحث عن حلول هيكلية لزيادة الإنتاج والصادرات وتحسين بيئة الاستثمار، تستمر الحكومة في الاعتماد على القروض قصيرة الأجل وأذون الخزانة كوسيلة للبقاء المالي على المدى القصير.

هذه السياسة تؤدي عمليًا إلى تراكم الدين العام الداخلي والخارجي، وتزيد من أعباء خدمة الدين، إذ ترتفع مدفوعات الفوائد عامًا بعد عام، ما يستنزف الجزء الأكبر من الموازنة العامة على حساب التعليم والصحة والبنية الأساسية.
 

أرقام مقلقة.. خدمة الدين تلتهم الموازنة
تُظهر بيانات وزارة المالية أن نفقات خدمة الدين العام باتت تمثل أكثر من نصف الإنفاق الحكومي في السنوات الأخيرة.
ومع استمرار الاقتراض الخارجي، تتزايد مخاطر سعر الصرف، خاصة مع تراجع موارد النقد الأجنبي، وارتفاع تكلفة تمويل الديون المقومة باليورو والدولار.

وإذا كانت الحكومة قد بررت هذا الاقتراض بأنه لسداد التزامات مستحقة قريبًا، فإن ذلك يعكس في جوهره عجزًا هيكليًا في إدارة الموارد، وغياب خطة واضحة لإعادة هيكلة الدين العام أو تقليص الاعتماد على التمويل بالدين.
 

غياب الإصلاحات الحقيقية وتفاقم الاعتماد على القروض
منذ سنوات، تتحدث الحكومة عن "الإصلاح الاقتصادي" و"تحسين بيئة الاستثمار"، لكن الواقع يظهر أن الاقتصاد المصري ما زال قائمًا على القروض والمنح، لا على الإنتاج والتصدير.
فبدلاً من تشجيع الاستثمار الصناعي والزراعي والتكنولوجي، أو الحد من الاستيراد غير الضروري، يجري التركيز على مشروعات ضخمة غير منتجة من الناحية الاقتصادية المباشرة، تمول أغلبها عبر الديون الخارجية.

هذا النهج يجعل الاقتصاد عرضة لأي تغيرات في أسعار الفائدة العالمية أو تراجع في الثقة الدولية بالقدرة على السداد، وهو ما يهدد بتفاقم أزمة الدين خلال السنوات المقبلة.
 

من يدفع الثمن؟ المواطن أولًا
في النهاية، يدفع المواطن المصري ثمن هذه السياسات. فاستمرار الاقتراض يعني زيادة الضرائب غير المباشرة، وارتفاع الأسعار نتيجة التضخم المستورد، فضلًا عن تراجع الإنفاق على الخدمات الأساسية.

بينما تستفيد الحكومة مؤقتًا من هذه القروض لتجنب التعثر، تتحمل الأجيال القادمة عبء السداد، في ظل غياب رؤية اقتصادية تضع حدًا لهذه الدوامة.
ويبدو أن الدين أصبح وسيلة إدارة لا أداة إنقاذ، ما ينذر بمزيد من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية في المدى القريب والمتوسط.
 

الحاجة إلى استراتيجية بديلة
إن استمرار الحكومة في سياسة الاقتراض لسداد القروض يعكس أزمة أعمق من مجرد عجز مالي مؤقت.
إنها أزمة في الرؤية الاقتصادية والإدارة المالية، تتطلب تغييرًا جذريًا في النهج، قائمًا على تحفيز الإنتاج المحلي، وتنمية الصادرات، وتقليص الاعتماد على التمويل الخارجي.

فمن دون هذه الإصلاحات الجذرية، سيظل الاقتصاد المصري يدور في حلقة الديون والعجز والتضخم، فيما يبقى المواطن هو الخاسر الأكبر في معركة البقاء المالي التي لا نهاية لها.