كشف عدد من القضاة والقاضيات الجدد، المعينين في أغسطس الماضي بمجلس الدولة والنيابة العامة وهيئتي النيابة الإدارية وقضايا الدولة، عن فرض الأكاديمية العسكرية المصرية رسومًا إلزامية عليهم للتدريب قبل التعيين، بلغت 112 ألف جنيه للذكور و120 ألفًا للإناث.
وأكد القضاة أن قرارات تعيينهم لم تصدر إلا بعد سداد هذه الرسوم، التي تُفرض لأول مرة هذا العام، ما أثار جدلًا واسعًا حول استقلال القضاء وتكافؤ الفرص داخل مؤسسات الدولة.
قرار رئاسي وتحول هيكلي في منظومة التعيين
تعود بداية القصة إلى خطاب دوري أصدره أمين عام مجلس الوزراء، اللواء أسامة سعد، في أبريل 2023، تضمّن توجيهات رئاسية تُلزم الراغبين في التعيين بأي وظيفة حكومية بالحصول على دورة تأهيلية داخل الكلية الحربية لمدة ستة أشهر، باعتبارها شرطًا أساسيًا للتعيين. وجرى تعميم القرار على الوزارات والهيئات المختلفة، بما فيها الجهات القضائية، ليصبح التدريب العسكري أحد المسوغات الإلزامية للتعيين في الجهاز الإداري للدولة.
منذ يونيو 2024، أُلحق القضاة الجدد بهذه الدورات إلى جانب المعلمين وأئمة الأوقاف والدبلوماسيين والموظفين المدنيين، في ما اعتبره مراقبون «عسكرةً للتوظيف المدني»، وتحويل الأكاديمية العسكرية إلى بوابة إلزامية للالتحاق بأي وظيفة حكومية، بما في ذلك القضاء الذي يُفترض استقلاله التام عن السلطة التنفيذية والعسكرية.
رسوم إلزامية وسخرية من التظلمات: "ادفعي الأول وبعدين اشتكي"
وفق شهادات، فإن الموظفين المختصين بتحصيل الرسوم في الجهات القضائية أكدوا للمرشحين أن «عدم الدفع يعني عدم التعيين». وأوضحت إحدى المندوبات المساعدات بمجلس الدولة أنها حاولت التظلم من القرار، غير أن الرد جاء صريحًا: «ادفعي الأول وبعدين اشتكي».
وبحسب تصريحات رسمية من رئيس نادي قضاة مصر، المستشار أبو الحسين قايد، فإن المبالغ التي جُمعت من القضاة الجدد جاءت «مقابل الإقامة والتدريب داخل الأكاديمية الحربية والمقار التابعة لها»، مشيرًا إلى أن الجهات القضائية تولت تحصيلها لصالح الأكاديمية.
اعتراضات قضائية وتحفظات دستورية
عدد من نواب رؤساء الهيئات القضائية عبّروا عن رفضهم لهذه الإجراءات، معتبرين أنها تمثل عمليًا نقلًا لسلطة التعيين من الهيئات القضائية إلى الأكاديمية العسكرية.
المستشار أحمد عبد الرحمن، النائب الأول الأسبق لرئيس محكمة النقض، وصف الخطوة بأنها «قيد كبير أمام الفقراء»، فيما اعتبر ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، أن فرض الرسوم يمثل «تسليعًا للوظيفة القضائية» وانتهاكًا صارخًا لاستقلال القضاء.
وقال نائب لرئيس مجلس الدولة إن تدريب القضاة على الجري والطوابير العسكرية وركوب الدراجات «لا يفيد القاضي في أداء مهامه القضائية»، داعيًا إلى استبدال تلك الدورات ببرامج تدريبية متخصصة داخل مراكز الدراسات القضائية، تُعنى بإدارة الجلسات والأخلاقيات القضائية والاطلاع على السوابق القانونية.
تآكل استقلال السلطة القضائية
يؤكد الخبراء أن التطور الجديد يعكس تآكل استقلال القضاء المصري، إذ أصبحت الأكاديمية العسكرية طرفًا مباشرًا في مسار التعيين، وهو ما يخالف نصوص الدستور التي تقصر سلطة التعيين على الهيئات القضائية والرئاسة. كما يخالف المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء، والتي تنص على أن «الكفاءة والنزاهة هما المعياران الوحيدان للاختيار».
ويرى ناصر أمين أن اشتراط سداد رسوم للتعيين يفتح الباب أمام التمييز الطبقي داخل الجهاز القضائي، ويقصي أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة، الذين قد لا يتمكنون من تحمّل هذه الكلفة الباهظة، مضيفًا أن ما يحدث يمثل «انحرافًا دستوريًا وتنظيميًا يضرب مبدأ تكافؤ الفرص في مقتل».

