في الوقت الذي خصصت فيه الحكومة المغربية ميزانية ضخمة لقطاعي الصحة والتعليم، في محاولة لامتصاص الغضب الشعبي المتصاعد، تعود حركة GenZ212 إلى الشوارع مجددًا، مؤكدة أن المشكلة ليست في الأرقام على الورق، بل في غياب العدالة في توزيع الموارد، واستمرار تجاهل أولويات المواطن لصالح مشاريع استعراضية مرتبطة بتنظيم البطولات الرياضية.
وبينما يتحدث القصر عن “دولة اجتماعية”، يرى المحتجون أن السياسات الحكومية لا تزال تراهن على الصورة الخارجية للمغرب أكثر من رفاهية شعبه.
 

احتجاجات جيل Z: صوت الغضب يعود إلى الشوارع
عاد آلاف الشباب المغاربة، السبت الماضي، إلى الساحات العامة في عدد من المدن الكبرى، من بينها الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة وتطوان، استجابة لدعوة حركة GenZ212، التي تمثل الجيل الجديد الغاضب من الفساد واللامساواة.
ورفع المتظاهرون شعارات تعكس إحباطًا عميقًا من سياسات الدولة، من قبيل: “الملاعب هنا، ولكن أين المستشفيات؟”، في إشارة إلى المفارقة بين الإنفاق الضخم على البنية التحتية الرياضية وبين تدهور الخدمات الصحية والتعليمية.

الاحتجاجات، التي استمرت نحو أسبوعين قبل أن تتوقف مؤقتًا، شهدت مقتل ثلاثة أشخاص واعتقال المئات، بحسب منظمات حقوقية محلية. ورغم تعليقها مؤقتًا، فإن استئنافها يشير إلى أن الأزمة الاجتماعية أعمق من أن تُحل بقرارات مالية أو وعود حكومية.
 

15 مليار دولار لتلميع الصورة أم لإصلاح القطاعات الحيوية؟
أعلن الديوان الملكي المغربي عن تخصيص 140 مليار درهم (نحو 15 مليار دولار) في ميزانية 2026 لقطاعي الصحة والتعليم، بزيادة 16% مقارنة بالعام السابق. ووفق البيان الرسمي، تتضمن الخطة “إحداث أكثر من 27 ألف منصب مالي جديد” وتوسيع شبكة المستشفيات وبناء مراكز جامعية استشفائية جديدة.

لكن في المقابل، يرى مراقبون أن هذه الزيادات لا تمثل تحولًا حقيقيًا في السياسات العامة، بل تأتي كرد فعل مباشر على موجة الاحتجاجات الأخيرة، ومحاولة لإعادة ضبط الصورة العامة قبيل استحقاقات رياضية كبرى، مثل كأس الأمم الإفريقية وكأس العالم 2030.

فبينما تُصرف المليارات على تشييد أو تجديد تسعة ملاعب رئيسية، تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن المغرب لا يملك سوى 4 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، أي أقل بخمس مرات من المعدل الموصى به عالميًا.
 

الصحة: بين الوعود الملكية وواقع العجز الطبي
يقول البيان الرسمي إن الحكومة ستعمل على “تحسين العرض الصحي” و”تأهيل وتحديث 90 مستشفى”، لكن هذه الأرقام تصطدم بواقع مرير يعاني فيه المواطنون من نقص الكوادر الطبية، وضعف التجهيزات، وطول فترات الانتظار في المستشفيات العمومية.

في مناطق الجنوب والجبال، تضطر النساء الحوامل لقطع عشرات الكيلومترات للوصول إلى أقرب مركز صحي. وفي المدن الكبرى، تشهد المستشفيات الجامعية اكتظاظًا غير مسبوق، فيما يلجأ العديد من الأطباء إلى القطاع الخاص أو إلى الهجرة نحو أوروبا والخليج بحثًا عن ظروف أفضل.

يرى المحتجون أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من تحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي وتوفير التجهيزات الأساسية قبل الحديث عن افتتاح مراكز جديدة، معتبرين أن ما يجري هو “تجميل إعلامي” لا أكثر.
 

التعليم: خارطة طريق بطيئة في سباق الزمن
أما في قطاع التعليم، فتتحدث الحكومة عن “تسريع تنزيل خارطة الطريق لإصلاح المنظومة التربوية” عبر تعميم التعليم الأولي وتحسين جودة التعليم ودعم التمدرس.
لكن الميدان التربوي يعكس صورة أخرى: مدارس مكتظة، نقص في المعلمين، ومناهج قديمة لا تواكب سوق العمل.

ويؤكد أساتذة متعاقدون أن الزيادات الموعودة لا تشملهم، وأن إصلاح المنظومة يظل شعارًا دون مضمون حقيقي، في ظل تهميش مطالبهم المتعلقة بالأجور والاستقرار الوظيفي.
من جهتهم، يرى ناشطو GenZ212 أن التعليم في المغرب بات وسيلة لإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية، وليس لتقليصها، مشيرين إلى أن التلميذ في الريف لا يملك نفس فرص الطالب في المدن الكبرى، حيث المدارس الخاصة والفرص المتاحة.
 

بين الملاعب والمستشفيات: أولويات مغلوطة
في الوقت الذي يتفاخر فيه المسؤولون المغاربة بقدرة البلاد على تنظيم بطولات كبرى واستضافة كأس العالم 2030 بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، يرى المحتجون أن هذه المشاريع لا تعكس أولويات المواطن البسيط، الذي يعاني من ضعف الخدمات الصحية وارتفاع تكاليف التعليم.

يبني المغرب ثلاثة ملاعب جديدة ويرمم أو يوسع ستة أخرى، وهو ما يعتبره الشباب “ترفًا سياسيًا” في بلد لا تتجاوز فيه أجور الأطباء والممرضين 20% من رواتب نظرائهم في أوروبا.
وبينما تُضخ الأموال في الإسمنت والعشب الصناعي، يبقى الاستثمار في الإنسان مؤجلًا إلى إشعار آخر.
 

الدولة الاجتماعية على الورق فقط؟
يشير الديوان الملكي إلى “مواصلة توطيد أسس الدولة الاجتماعية” عبر برامج الدعم المباشر وتوسيع الحماية الاجتماعية، لكن التقارير الاقتصادية تؤكد أن هذه البرامج لم تحقق العدالة المنشودة.

فبينما تتلقى بعض الأسر مساعدات شهرية تتراوح بين 50 و100 درهم لكل طفل، فإن تكاليف المعيشة تضاعفت، والقدرة الشرائية تتراجع بشكل مستمر.
ويؤكد خبراء أن السياسات الاجتماعية الحالية تعتمد على “مسكنات مؤقتة”، دون معالجة جذرية لمشكلات البطالة وغياب العدالة في توزيع الثروة.
 

جيل لا يصدق الوعود
يبدو أن جيل الشباب المغربي، الذي يمثل أكثر من ثلث السكان، لم يعد يثق بالخطابات الرسمية أو الأرقام الحكومية. فمع كل إعلان عن زيادات أو مشاريع، يسأل المحتجون: أين نتائج السنوات الماضية؟
حركة GenZ212 باتت اليوم صوتًا وطنيًا يطالب بالكرامة والمساواة، أكثر من كونها حركة مطلبية محدودة.

ورغم محاولات الدولة استيعاب الغضب، فإن جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية أعمق بكثير من أن تُحل بقرارات فوقية أو بيانات ملكية.

وأخيرا يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستنجح الحكومة المغربية في تحويل ميزانية 2026 إلى نقطة تحول حقيقية نحو إصلاح الصحة والتعليم، أم ستكون مجرد أداة تهدئة مؤقتة لحراك اجتماعي يتجدد كل عام؟
حتى الآن، يبدو أن الشارع لا يشتري الوعود، وأن ما يريده جيل Z هو دولة تضع الإنسان قبل الملعب، والمستشفى قبل المونديال.