في مشهد بات مألوفًا في خطاب قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي عاد مرة أخرى خلال الندوة التثقيفية للقوات المسلحة بربط أزمات مصر الحالية بثورة يناير 2011، واصفًا تلك الأحداث بأنها "شكل من أشكال الحرب" على الدولة، ومؤكدًا أن البلاد "نجت بفضل الله" من مصير مشابه لما واجهته دول أخرى. لكن حديث السيسي الذي حمّل الثورة مسؤولية الخراب والفوضى، أثار موجة جديدة من الجدل، إذ اعتبره مراقبون استمرارًا لنهج تبريري يتجاهل إخفاقات السلطة في إدارة الدولة على مدى أكثر من عقد.
السيسي تحدث عن كلفة الأحداث بين 2011 و2014، زاعمًا أنها بلغت نحو 450 مليار دولار، إلى جانب مئة مليار جنيه أنفقت على مواجهة الإرهاب. غير أن هذه الأرقام الضخمة أثارت تساؤلات عديدة حول دقتها ومصدرها، خصوصًا في ظل غياب أي تقارير رسمية أو دراسات اقتصادية مستقلة تؤكدها. ويرى اقتصاديون أن الخطاب لم يكن سوى محاولة لتحويل الأنظار عن الأزمات الراهنة التي يعيشها المواطن المصري، من تضخم غير مسبوق وارتفاع أسعار الوقود والسلع، إلى عجز الدولة عن ضبط الدين العام الذي تجاوز 10 تريليونات جنيه.
في الوقت الذي تحدث فيه السيسي عن "الأشرار" الذين تسببوا في أزمات البلاد، تجاهل الإشارة إلى السياسات الحكومية التي فاقمت معاناة المصريين، سواء عبر موجات الاقتراض المتواصلة أو الإنفاق المفرط على مشروعات ضخمة غير إنتاجية. فبدلًا من مناقشة أسباب الانهيار الحقيقي في بنية الاقتصاد، كرر الرئيس سردية "المؤامرة" التي يستخدمها النظام منذ سنوات لتبرير فشله في تحقيق وعوده بالإصلاح والتنمية.
كما لفت السيسي إلى الانتقادات التي وُجهت لموقف مصر من الحرب على غزة، مدافعًا عن سياسة الحياد التي انتهجها، قائلاً: «نحط مستقبل 120 مليون على المحك؟». لكن هذا الطرح، الذي يقدّم "الاستقرار" على حساب الموقف الإنساني والسياسي، اعتبره محللون استمرارًا لسياسة خارجية تتجنب أي تكلفة سياسية أو اقتصادية، حتى لو كان الثمن فقدان الدور الإقليمي التاريخي لمصر في قضايا المنطقة.
وفي جانب آخر من كلمته، تحدث السيسي عن ما سماه "حرب تغيير الواقع الاقتصادي"، مؤكدًا أن المصريين استوعبوا الإجراءات القاسية وأنهم يتحملون الأعباء "بقلوبهم". إلا أن الواقع على الأرض يكشف عكس ذلك؛ فالشهور الأخيرة شهدت تصاعدًا في الغضب الشعبي نتيجة الزيادات المتتالية في أسعار الوقود والسلع، وتراجع الأجور الحقيقية، واتساع رقعة الفقر. وبينما تطالب الحكومة المواطنين بالصبر على إجراءات "الإصلاح"، يزداد شعور المصريين بأنهم يدفعون وحدهم فاتورة سياسات فاشلة اتخذت دون مشاركتهم أو مراعاة لمعاناتهم اليومية.
ويرى مراقبون أن حديث السيسي عن "عمل حساب للرأي العام" يتناقض مع طبيعة النظام الذي أغلق المجال العام، وقيد الإعلام، وجرّم أي شكل من أشكال المعارضة أو النقد. فكيف يمكن الحديث عن احترام الرأي العام في ظل غياب الشفافية والمحاسبة؟ وكيف يُطالب الشعب بالتحمل بينما تُنفق المليارات على القصور والعواصم الإدارية ومشروعات تجميل المدن التي لا تمس حياة المواطن البسيط؟
تصريحات السيسي الأخيرة أعادت إلى الأذهان خطابًا سياسياً يحمّل الماضي مسؤولية الحاضر، دون أن يقدّم حلولًا حقيقية للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تتفاقم يومًا بعد يوم. فبدلًا من أن يناقش أسباب فشل سياساته الاقتصادية، يفضّل الرئيس اللجوء إلى تبريرات "المؤامرة" و"الأشرار"، في محاولة لإقناع المصريين بأن معاناتهم قدر لا مفر منه.
وفي النهاية، يبدو أن السلطة ماضية في نهجها القائم على تبرير الإخفاق وإلقاء اللوم على التاريخ والثورات، بينما تغيب أي رؤية حقيقية لمستقبل اقتصاد ينهار، وشعب يزداد فقرًا، ودولة فقدت الثقة في وعود قيادتها. تصريحات السيسي عن "الحرب" ليست سوى استمرار لحرب أخرى — حرب ضد الوعي والمساءلة، يخوضها النظام لتثبيت شرعيته، حتى لو كان الثمن تدمير ما تبقى من ثقة المصريين في دولتهم.