في قلب غرب السودان، حيث كانت مدينة الفاشر ذات يومٍ مركزًا نابضًا بالحياة والتجارة، يقف اليوم عشرات الآلاف من السكان على حافة الهلاك، بعد أن تحولت المدينة إلى سجن كبير يلتهم أبناءه جوعًا وقذائف.

منذ أكثر من عام، تحاصرها قوات الدعم السريع المدعومة إماراتيًا، مانعة عنها الغذاء والدواء وكل سبل الحياة، بينما يقف العالم متفرجًا أمام مأساة إنسانية تُكتب فصولها بالدم والجوع.

 

أصوات من داخل الجحيم

يقول أحد الصحفيين العالقين في المدينة، بصوتٍ خافتٍ بالكاد يُسمع عبر الهاتف:

“لم أعد أستطيع الحركة من شدة الجوع... خرجت أبحث عن طعام فلم أجد شيئًا، حتى المتاجر أُفرغت رفوفها بالكامل. أُصبت بالملاريا من ضعف الجسد، والناس هنا ينتظرون الموت.”

هذه الكلمات الموجعة ليست حالة فردية، بل صدى لآلاف القصص التي لا تجد من يسمعها. معظم سكان المدينة اليوم نساء وأطفال، ينامون على بطون خاوية ويستيقظون على دوي القذائف. بعد أن توقّف آخر مطبخ جماعي كان يوزع وجبات مجانية، أصبحت الفاشر بلا طعام، بلا أمل، وبلا حياة.

 

حصار يقطع النفس وسوق سوداء للموت

تؤكد شهادات متعددة أن قوات الدعم السريع أحكمت الطوق حول المدينة، فأنشأت سواتر ترابية حول مداخلها، لمنع دخول أي مواد غذائية أو خروج السكان.
يقول أحد التجار المحليين:

“كانوا في البداية يسمحون بدخول بعض الطعام مقابل مبالغ طائلة، أما الآن فلا شيء يدخل... لا ذرة ولا دُخن ولا دواء. حتى لو عرضنا ذهبًا، الرفض هو الجواب.”

هذا الحصار الممنهج حول المدينة إلى مقبرة بطيئة، حيث يموت الناس جوعًا قبل أن تصيبهم القذائف. لا كهرباء، لا ماء نظيف، ولا أدوية. المدينة تعيش على أنفاسها الأخيرة، بينما تصنع الحرب سوقًا سوداء للموت.

 

كارثة إنسانية على مرأى الأمم المتحدة

بحسب برنامج الأغذية العالمي، فإن واحدًا من كل أربعة أشخاص في الفاشر يواجه خطر الجوع الشديد، فيما يضطر البعض لأكل علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
المديرة التنفيذية للبرنامج وصفت الوضع بأنه “غير مقبول”، مشيرة إلى أن المساعدات جاهزة قرب المدينة لكنها تُمنع من الدخول بسبب القتال والحصار.

“الناس يأكلون علف البهائم... هذا لا يمكن أن يحدث في القرن الواحد والعشرين”، تقول المسؤولة الأممية بحزنٍ واضح.

 

توقّف آخر مطبخ.. وانطفأت نيران الحياة

يقول محيي الدين شوقار، أحد مؤسسي آخر مطبخ جماعي في الفاشر:

“لقد توقفنا تمامًا. لم يبقَ لدينا ما نطبخ به ولا ما نوزعه. الأسعار خيالية، والتمويل توقف. الناس الآن يبحثون في الأرض عن أي شيء يؤكل.”

بإغلاق هذا المطبخ، انطفأت آخر نيران الأمل في المدينة، وتحولت الأزقة إلى طوابير من الجوعى يترقبون الموت بصمتٍ وعيونٍ غائرة.

 

وعود زائفة ومحاولات فاشلة

في مطلع أكتوبر، أعلن المبعوث الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسعد بولس أن الدعم السريع وافق على السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى المدينة.
لكن بعد أيامٍ فقط من هذا الإعلان، تجدّدت المعارك بشكل أعنف، وانهارت كل الوعود.
تقول تنسيقية لجان مقاومة الفاشر في بيانها الأخير:

“المدينة تموت. لا طعام، لا دواء، لا صوت يسمع صراخنا. العالم صامت ونحن نُباد في وضح النهار.”

 

دور إماراتي مشبوه في إطالة الحرب

تتحدث تقارير استخباراتية وحقوقية عن دعم إماراتي مباشر لقوات الدعم السريع، من خلال إمدادها بالسلاح والذخيرة عبر طائرات شحن تهبط في شرق تشاد، تحت غطاء “مساعدات إنسانية”.
هذا الدعم، الذي بات سرًّا مكشوفًا، ساهم في إطالة أمد الحرب وتعميق المأساة، خصوصًا في الفاشر التي أصبحت رمزًا للجوع المدعوم خارجيًا.

ويؤكد خبراء أن استمرار تدفق هذا الدعم جعل قوات الدعم السريع أكثر قدرة على فرض الحصار، بينما يُترك المدنيون ليموتوا بصمتٍ في ظل صمت دولي مطبق.

 

إسقاط جوي للجيش... ولكن للجنود فقط

في محاولة يائسة لكسر الحصار، نفذ الجيش السوداني قبل أسبوعين عملية إسقاط جوي عبر طائرات “أنتونوف”، ألقت ذخائر ومواد غذائية على مواقعه داخل المدينة.
لكن المدنيين لم يحصلوا على شيء. يقول أحد السكان:

“شاهدنا الطائرات تُسقط الصناديق داخل مقر الفرقة السادسة فقط. لو خصصوا نصفها لنا لكنا أحياء الآن.”

https://www.instagram.com/reel/DPtmwjUDTIc