منذ سنوات، خرجت العملات الورقية الصغيرة من حياة المصريين بهدوء يشبه الموت السريري. فالجنيه والنصف جنيه أصبحا بلا قيمة فعلية، ورفض التجار وسائقي المواصلات قبولها أصبح مشهدًا يوميًا، رغم أن القانون يُلزم الجميع بقبول العملة الرسمية للدولة. لكن ما جدوى قانون لا يجد من يطبقه؟

الحكومة، ممثلة في البنك المركزي، تصر على أن “العملة سارية”، لكنها في الوقت نفسه توقفت تدريجيًا عن طباعتها، واستبدلتها بعملات معدنية أو بلاستيكية كما حدث مع فئتي 10 و20 جنيهًا. التناقض الفج بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية يخلق حالة من الفوضى وفقدان الثقة، ويدفع المواطن إلى التسليم بأن الفئات الصغيرة انتهت فعليًا، وأن التضخم أكل ما تبقى من قيمتها.

 

شبح الـ500 جنيه: حين تتحول الشائعات إلى مؤشر اقتصادي

على الجانب الآخر من المشهد، تعود كل فترة شائعة “الورقة الجديدة” من فئة 500 جنيه لتشعل مواقع التواصل الاجتماعي. تنتشر الصور، وتُنسَب أحيانًا للعاصمة الإدارية الجديدة، قبل أن يسارع البنك المركزي إلى النفي. غير أن تكرار الشائعة بحد ذاته يعكس حقيقة أعمق من مجرد تداول غير دقيق للمعلومات: فالمجتمع بات مستعدًا لتصديقها لأنه يرى بأم عينه انهيار القوة الشرائية للجنيه، ولأن فكرة إصدار فئة أكبر لم تعد مستبعدة في ظل موجات الغلاء المتلاحقة.

إصدار فئة كهذه لن يكون – في حال حدوثه – مجرد إجراء فني، بل اعتراف ضمني بأن العملة فقدت نصف قيمتها على الأقل. إنها ليست شائعة قدر ما هي انعكاس لشعور عام بالعجز أمام التضخم، وإدراك شعبي بأن الدولة فقدت السيطرة على إدارة السوق والأسعار.

 

أزمة “الفكة”... عرض لمرض أعمق

في الوقت الذي تشتعل فيه شائعات الـ500 جنيه، يعاني الشارع المصري من أزمة موازية في الاتجاه المعاكس: نقص العملات المعدنية الصغيرة. فمع كل زيادة في أسعار الخدمات – كرفع تذاكر المترو أو المواصلات – تتفاقم معاناة المواطنين في الحصول على “الفكة”، لتتحول أبسط المعاملات اليومية إلى معركة تفاوض بين البائع والمستهلك.

كثيرون يتنازلون عن فروق بسيطة في الأسعار، أو يُجبرون على قبول سلع بديلة بدل النقود، في بلد تتآكل فيه القدرة الشرائية للطبقة المتوسطة ويُرهق الفقراء في تفاصيل يومهم. وحتى حين تعترف الجهات الرسمية بالأزمة، فإنها تكتفي بضخ كميات جديدة من العملات المعدنية، كمن يضع لاصقًا على جرح غائر دون علاج السبب الحقيقي: التضخم الهيكلي الناتج عن السياسات المالية التوسعية وسوء إدارة الموارد.

 

حكومة الإنكار... ومواطن يدفع الثمن

ما يجري ليس مجرد خلل في إدارة “الفكة” أو تأخر في طباعة فئة جديدة، بل هو انعكاس مباشر لأزمة ثقة بين الدولة ومواطنيها. فالحكومة التي ترفض الاعتراف بتراجع الجنيه، وتكتفي بطمأنة شكلية عبر بيانات منمقة، هي ذاتها التي تموّل عجز الموازنة بطباعة المزيد من النقود، دون غطاء إنتاجي حقيقي.

إنها دائرة مغلقة من الفشل الاقتصادي: تضخم متصاعد، عملة متدهورة، وقرارات متناقضة، يدفع المواطن ثمنها من مدخراته وقوت يومه. ومع استمرار الإنكار الرسمي، تتآكل الثقة في النظام النقدي برمته، ويتحول الجنيه – رمز السيادة الاقتصادية – إلى عنوان لفشل الدولة في حماية أبسط مقومات حياة مواطنيها.

ختاما فإن أزمة الجنيه اليوم ليست رقمًا في نشرات البورصة، بل مقياس لمدى صدق الدولة مع نفسها. ما لم تتوقف الحكومة عن دفن رأسها في الرمال وتواجه جذور الانهيار بسياسات إنتاجية حقيقية، فستظل كل “فكة” أزمة، وكل شائعة عن ورقة جديدة نبوءةً بتدهور قادم.