إلقاءُ دعوةٍ في الهواء لا يُصلِح نظاماً يتداعى، عندما يخرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي في طوكيو ليُشيد بـ“النموذج الياباني” ويدعو اليابانيين للدراسة والعمل التعليمي في مصر، فهو يضع العربة أمام الحصان: يستورد لامعة الصورة بدل أن يُصلح بنية التعلّم التي تهترئ تحت أقدام الملايين من التلاميذ والمعلمين.
نعم، عقدت القاهرة تفاهمات مع شركات يابانية لتدريب معلّمي الرياضيات وتطوير المناهج وإدخال تعليم الموسيقى في 100 مدرسة، وتفاخر الحكومة بوجود نحو 69 مدرسة مصرية تطبّق “النموذج الياباني” وبالشراكة مع جامعة مصر-اليابان للعلوم والتكنولوجيا، لكن الحقيقة الصلبة أن النظام لا يُصلحه مساحيق تجميل أو مدارس نموذجية قليلة؛ بل تمويل كافٍ، كثافة فصول إنسانية، معلم مُحفَّز ومؤهَّل، ومحاسبة على نتائج قابلة للقياس. وإلا فإن دعوة مدبولي لن تبدو إلاّ كحيلة علاقات عامة وسط عجزٍ مُزمن عن معالجة الجذور.
 

مؤشرات التعلّم: اليابان في الصدارة ومصر خارج الصورة
في المقارنات الدولية الجادة، لا مكان للانطباعات. اليابان تشارك بانتظام في اختبارات “بيزا” (PISA) لسن 15 عاماً، وسجّلت في دورة 2022 نحو 536 نقطة في الرياضيات، و516 في القراءة، و547 في العلوم،أعلى بكثير من متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

هذه أرقام تعكس منظومة متماسكة من المناهج، تدريب المعلمين، وثقافة مدرسية تعطي الأولوية للمهارات.
أمّا مصر، فلم تشارك أصلاً في بيزا 2022، وهي مسجّلة للمشاركة في دورة 2025؛ ما يعني أن الحكومة لا تمتلك بعدُ مرآة مقارنة عالمية منتظمة لقياس جودة تعلّم طلاب المرحلة قبل الجامعية.
كيف ندعو الآخرين للتعلّم لدينا بينما لم نضع بعدُ قدمنا على مقياس الجودة الأوسع انتشاراً؟ .
 

مقدار أموال  الصرف على التعليم
المال لغة الأولويات،  ووفق البنك الدولي ومنظمات حقوقية، ظلّ الإنفاق الحكومي على التعليم في مصر يدور حول 2% من الناتج المحلي في السنوات الأخيرة، بل قُدِّر في موازنة 2024/2025 بنحو 1.7% فقط، أي أقل بكثير من المستهدفات الدستورية ومن مستويات دول عديدة في المنطقة والعالم.
هذا العجز المالي يترجم مباشرةً إلى فصول مزدحمة، أبنية متقادمة، ومعلمين مثقلين بأعباء لا تتيح لهم تطوير الممارسة الصفّية أو مواكبة التكنولوجيا.

 في المقابل، اليابان مع فروق هائلة في الدخل والقوة الاقتصادية تحافظ على إنفاق عام مستقر وتخطيط طويل المدى مرتبط بقياس المخرجات، وهو ما تُظهره نتائج بيزا بوضوح.
لا تكفي مذكّرات تفاهم مع شركات أجنبية لتعويض فجوة تمويل هيكلية.
 

ماذا تقول اختبارات بديلة اشتركت فيها مصر؟
صحيح أن مصر لا تشارك في “بيزا” حتى الآن، لكنها شاركت في PIRLS 2021 لقياس القراءة في الصف الرابع، وأظهرت تحسّناً ملحوظاً مقارنةً بعام 2016 (زيادة تقارب 48 نقطة وفق تحليلات البنك الدولي) إنجاز يُحسَب لجهود بذلت في الصفوف الأولى، لكن هذا التحسن يُخفي واقعاً مركّباً، فمستويات الرياضيات والعلوم في مراحل أعلى وفق TIMSS ما زالت متواضعة مقارنةً بالمستويات العالمية والآسيوية المتقدمة

في المقابل تحافظ اليابان على أداءٍ رائد في هذه الدراسات أيضاً.
الترجمة العملية: تقدّمٌ بدائي في أساسيات القراءة لا يواكبه إصلاح شامل للمناهج، التدريب، وأساليب التقويم عبر المراحل الدراسية.
لذا، حتى المؤشرات الإيجابية المتفرقة تحتاج إلى سياسة عامة متسقة تُغذّيها الموارد وتربطها بمساءلة على المستوى المدرسي والإقليمي.

وأخيرا لن تُصلِحنا صورةٌ نلتقطها مع شركاء يابانيين بقدر ما يُصلِحنا شجاعة مواجهة الحقيقة: المنظومة التعليمية في مصر بحاجةٍ إلى إعادة تأسيس لا إلى تلميع، كما أن المؤشرات الدولية واضحة: اليابان تقيس نفسها باستمرار وتُحاسب منظومتها على نتائج ملموسة؛ مصر، حتى كتابة هذه السطور، تدخل متأخرة إلى “بيزا” وتُبقي إنفاق التعليم عند مستويات لا تليق ببلدٍ يطمح للنهضة.

إن كانت الحكومة جادّة، فلتجعل دعوة مدبولي بدايةً لمحاسبةٍ ذاتية: ربط التمويل بنتائج قابلة للقياس، تخفيف الكثافات ببرنامج بناءٍ وتمويل مستدام، مسارات مهنية للمعلمين تُكافئ الأداء، ومشاركة مجتمعية شفافة حول جودة المدارس.
عندها فقط يصبح للتعاون مع اليابان معنى: لا كعكّازٍ نتّكئ عليه لإخفاء العرج، بل كشراكةٍ بين منظومتين تُجيدان النظر في المرآة ذاتها—مرآة الأرقام والنتائج، لا مرآة الخطابات.