يشهد قطاع التمريض في مصر حاليًا هزة قوية تتجلى معالمها في أزمة طلاب امتياز كلية التمريض بجامعة دمنهور، إذ تضرر ما يقارب 1,250 طالبًا وطالبة من انقطاع صرف مكافأة الامتياز المستحقة لهم منذ 5 أشهر متواصلة، وسط حالة من الغضب والإحباط، خاصة أن الكلية صرفت لهم سابقًا 2,000 جنيه فقط شهريًا بدلًا من القيمة المقررة رسميًا وهي 2,500جنيه، في تجاوز واضح لقرارات وزارية وتشريعية صدرت بتواريخ حديثة، ووسط مخاوف متزايدة من توقف الصرف نهائيًا مستقبلاً.

 

خلفية التشريع

قبل عامين بدأت حكومة الانقلاب برئاسة مصطفى مدبولي بزيادة مكافأة الامتياز لمختلف التخصصات الطبية، ففي 8 فبراير2023، صدر قرار رسمي بزيادة مكافآت طلاب الامتياز (التمريض العالي) إلى 2,000جنيه شهريًا، والفنيين إلى 1,000جنيه مع وعد بتطبيق القرار بأثر فوري على الدفعة الحالية استجابةً لتوجيهات قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي الصادرة في فبراير2022.

وبحلول مايو 2025 أقر البرلمان مكافأة امتياز بقيمة 2,500 جنيه شهريًا، سارية على جميع طلاب سنة الامتياز في كليات القطاع الصحي ابتداءً من دفعة 2024/2025، مع إمكانية الزيادة بقرار لاحق من رئيس حكومة الانقلاب.

لكنّ طلاب دمنهور رغم تلك التشريعات لم يحصلوا سوى على 2,000  جنيه فقط لشهور محدودة، ثم توقف الصرف كليًا منذ خمسة أشهر، ما يعني فقدان آلاف الجنيهات المستحقة لكل منهم في فترة تشهد تضخمًا غير مسبوق وارتفاع تكاليف المعيشة بمعادلات تجاوزت 40% سنويًا لبعض السلع والخدمات.

 

تفاصيل معاناة الطلاب

يخوض طلاب كلية التمريض بجامعة دمنهور سنة امتيازهم عبر التدريب العملي المكثف في مشافي حكومية لمدة 12شهرًا، وهي السنة التي تتطلب تفرغًا شبه تام وسط ضغوط مالية واجتماعية.

فالأغلبية الساحقة من هؤلاء الطلاب، وخاصة المغتربين، يعتمدون على المكافأة الحكومية في تدبير الإقامة والتنقل والغذاء، ناهيك عن المصاريف الأساسية الأخرى.

ومع استمرار انقطاع المكافأة لأكثر من 5 أشهر، اضطر كثير منهم للبحث عن عمل جزئي أو اللجوء لسلف أو الاقتراض، مما أثر بشكل مباشر على جودة تدريبهم وتركيزهم الدراسي، وخلق مناخ يهدد مستقبلهم المهني وحياتهم الاجتماعية.

 

التسيب الحكومي

هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها، بل سبق لطلاب امتياز التمريض بجامعات أسيوط وأسوان وبني سويف شكواهم العام الماضي من انقطاع المكافآت لأشهر طويلة بدعوى "عدم توفر بند مالي" لدى الجامعات أو تأخير اعتماد الميزانيات من وزارة المالية.

وهو نمط متكرر يعكس أحد أبرز أوجه انهيار الإدارة الحكومية في مصر ويضعف ثقة الشباب في الدولة ووعودها.

التصريحات الرسمية المتناقضة تقلب حقوق الطلاب إلى مجرد "مطالبات" موسمية يتداولها النواب والوزارات بلا حلول واقعية.

ويرى مراقبون أن ما كشفته أزمة دمنهور ليس إلا جزءًا من تهميش أوسع لقطاع التمريض الحكومي، بالتزامن مع عجز سنوي يتجاوز 20,000 ممرضة عن الاحتياجات الفعلية للمستشفيات بحسب نقابة التمريض وخبراء القطاع الصحي، وهذا ما يفاقم الضغوط على الموجودين ويجعل الظروف غير جاذبة للأجيال الجديدة.

 

غضب وحلول مؤجلة

تضجّ الساحة بتصريحات غاضبة، فقد تقدم نواب من البرلمان، بينهم محمد عبدالله زين الدين، بطلبات إحاطة رسمية لرئيس حكومة الانقلاب ووزير التعليم العالي للوقوف على أسباب تعطيل صرف المكافآت وتحميل الدولة مسؤولية التأخير وخرق اللوائح التي تمنع تطبيق قرارات بأثر رجعي حال تحقق ضرر مباشر للطلاب.

في المقابل، بررت بعض المؤسسات الحكومية هذا التأخير بأسباب تتعلق بـ"إجراءات تدبير الميزانية" أو "غياب بند مالي واضح"، في تكرار غير مبرر لما حصل في سنوات سابقة.

أما نقابة التمريض، على لسان النقيب كوثر محمود، فقد دعت الحكومة للالتزام السريع والتام بتطبيق قرارات زيادة المكافآت، وأكدت أن التمريض يمثل أكثر من 70% من القوة العاملة الصحية في مصر، وأن تجاهل حقوقهم ينذر بانهيار فعلي لمنظومة الصحة العامة.

 

الأبعاد الاقتصادية للمأساة

  • ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية تجاوزت 35% خلال العام الأخير بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يجعل مبلغ المكافأة -إذا صُرفت- أصلاً غير كافٍ للحد الأدنى من المعيشة لطلاب الامتياز في المدن الجامعية.
  • عدم صرف مكافأة الـ2,500 جنيه لما يقارب 1,250طالبًا خلال خمسة أشهر يعني حرمان ما يزيد على 15,625,000 جنيه من الدخول الشرعية لهؤلاء الشباب، الأمر الذي يزعزع الأمن الاقتصادي والاجتماعي لفئة حيوية تحتاجها الدولة في مواجهة العجز الصحي المتصاعد.
  • بالمقابل، تدعي حكومة الانقلاب أن الموازنة العامة لا تحتمل أي زيادات رغم أن مكافآت موظفين آخرين في قطاعات سيادية زادت بنسب فاقت 40% خلال نفس الفترة، ما يظهر التناقض الفاقع ويغذي مشاعر "التمييز الممنهج" داخل المجتمع الوظيفي.

 

انعكاسات الأزمة

أضرت الأزمة بثقة الطلاب في المؤسسات، فأصبح الحديث عن الهجرة أو العمل خارج مصر خيارًا واقعيًا للكثيرين وهو ما أكدته النقيب كوثر محمود عندما قارنت بآلاف الممرضين الفلبينيين الذين يُعتبرون مصدرًا قوميًّا في دولهم بسبب حسن رعاية الدولة لهم.

ومع استمرار الهجرة، تزداد فجوة العجز الصحي الداخلي.

أما الجامعات فتواجه موجات جديدة من الإحباط الجماعي، وتنامي مشاعر الغبن بين الطلاب القادمين، الأمر الذي يهدد بتراجع الإقبال على دراسة التمريض أو توجه الطلاب للأعمال غير الرسمية، ويزيد من خطورة تردي جودة الخدمات الصحية.

 

دولة في مأزق.. وأجيال تدفع الفاتورة

تكشف أزمة طلاب امتياز تمريض دمنهور عن أزمة أعمق في بنية الدولة المصرية، فالقوانين توضع ولا تنفذ، وقيادات سياسية تُطلق وعودًا تبقى في فضاء التغطيات الإعلامية، وإدارات جامعية عاجزة عن حماية أبسط حقوق الطلاب، وكل ذلك وسط أزمة اقتصادية خانقة.

إنها شهادة جديدة على فشل الإدارة وهشاشة التخطيط الحكومي، في ظل حُكم بات عاجزًا حتى عن الوفاء بتعهداته للكوادر الأهم في حياتنا جميعًا وهي كوادر التمريض.