في وقتٍ تتفاقم فيه أزمات الاقتصاد المصري، ويعاني المواطن من غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائية، تفاجئ الحكومة الشعب بإعلان إحلال وتجديد وصيانة 13,225 مسجدًا بتكلفة تتجاوز 23 مليار و229 مليون جنيه.

مشروع بهذا الحجم، في ظرف اقتصادي شديد الصعوبة، لا يمكن النظر إليه بمعزل عن أولويات الإنفاق العام وسياسات النظام بقيادة عبد الفتاح السيسي، التي تُتهم بإهدار موارد الدولة في مشروعات استعراضية بينما يتزايد الفقر وتتصاعد الديون.
 

أولويات معكوسة… حين تُقدّم الحجارة على الإنسان

من المفترض أن تعكس ميزانية الدولة حاجات المواطن الملحّة، لكن ما يحدث هو العكس تمامًا. ملايين المصريين يعيشون تحت خط الفقر، وأحياء كاملة تفتقر للبنية الصحية والتعليمية، بينما تُضَخ عشرات المليارات في مشروعات دينية ضخمة.

أين المدارس التي تُعالج التكدس الكارثي للفصول؟

أين المستشفيات التي توقف معاناة المرضى على أبوابها؟

أين برامج الدعم الغذائي التي تحمي الفقراء من الجوع؟

إن بناء أو تجديد المساجد قد يكون مهمًا، لكن في بلد يعيش أزمة ديون وفقر، يصبح من العبث إعطاءه أولوية على حساب حياة الناس وكرامتهم.
 

الديون تحاصر… والمليارات تتبخر

بلغ الدين الخارجي لمصر أرقامًا غير مسبوقة، وتلتهم أقساطه وفوائده جزءًا ضخمًا من الميزانية. في ظل ذلك، إنفاق 23 مليار جنيه على مشروع غير إنتاجي اقتصاديًا يطرح سؤالاً بديهيًا:

كيف يمكن لدولة غارقة في الديون أن تبرّر هدر مليارات في مشاريع لا تدر دخلًا ولا تحل أزمة اقتصادية؟

المساجد لا تخلق فرص عمل دائمة ولا تصدّر منتجات، هي في أفضل الأحوال منشآت خدمية دينية، لكنها لا تحرك عجلة الاقتصاد ولا تخفّض عجز الموازنة.
 

فساد إداري وغياب الشفافية

غياب الشفافية هو سمة متكررة في مشاريع السيسي وحكومته. لا توجد تفاصيل دقيقة للرأي العام عن كيفية توزيع هذه المليارات:

  • ما هي تكلفة كل مسجد بالتحديد؟
  • ما هي الشركات المنفذة، وهل رُوعي فيها التنافس النزيه؟
  • كم نسبة الإهدار أو الفساد في عقود المقاولات والمشتريات؟

في بيئة سياسية تفتقر للمحاسبة والرقابة الشعبية، تتحول المشاريع العملاقة إلى فرصة ذهبية للمحسوبية والفساد الإداري.
 

المظهرية الدينية كأداة سياسية

السيسي يدرك أهمية الرمزية الدينية في مخاطبة الرأي العام، خصوصًا في مجتمع متدين بطبيعته. الإنفاق المبالغ فيه على المساجد يقدّم صورة زائفة عن "رعاية الدولة للدين"، بينما الواقع أن هذه المشروعات تُستخدم كأداة تجميلية لتغطية فشل السياسات الاقتصادية.

بناء مسجد فخم في العاصمة الإدارية لا يعوض مواطنًا في الصعيد عن غياب مستشفى مجهز أو مدرسة بلا تكدس. هذه هي المعضلة الأخلاقية والسياسية في توجيه الإنفاق العام.
 

المجتمع بين الغضب والاستسلام

ردود الفعل الشعبية تراوحت بين الغضب على مواقع التواصل الاجتماعي والسخرية المرّة، إذ يرى كثيرون أن النظام يتعامل مع الدولة كأنها ملكية خاصة، يحدد أولوياتها بما يخدم صورته السياسية، لا بما يلبي احتياجات المجتمع. آخرون عبّروا عن استسلامهم، معتبرين أن صوت المواطن لا قيمة له في نظام مغلق.
 

ماذا كان يمكن أن تفعل 23 مليار جنيه؟

لإدراك حجم الهدر، يمكننا تخيل بدائل:

  • إنشاء 230 مستشفى متوسط التجهيز بمتوسط 100 مليون جنيه للمستشفى.
  • بناء أو تجديد 4,600 مدرسة بتكلفة 5 ملايين جنيه لكل منها، مما يقلل تكدس الفصول.
  • تمويل برنامج دعم غذائي سنوي لملايين الأسر الفقيرة.

هذه المشروعات كانت ستخلق وظائف، وتحسّن حياة الناس مباشرة، وتدعم النمو الاقتصادي على المدى الطويل.

وأخيرا فإن إحلال وتجديد 13,225 مسجدًا بقيمة 23 مليار جنيه في هذا التوقيت هو نموذج صارخ على سوء ترتيب الأولويات، وغياب الحس بالمسؤولية الاقتصادية والاجتماعية.

ما لم يتغير نمط الإنفاق ويُوجَّه نحو دعم المواطن ومشاريع التنمية الحقيقية، فإن مصر ستظل عالقة في نفق الديون والغلاء، بينما يكتفي النظام بإنارة الجدران بالمظاهر الدينية.