في حادثة صادمة أثارت موجة من الحزن والاستنكار بين العاملين في القطاع الصحي والمجتمع العام بمصر، توفيت الدكتورة سلمى حبيش ــ طبيبة امتياز من مدينة المحلة الكبرى ــ أثناء وجودها في مستشفى القصر العيني بعد أن أنهت «وردتين» متتاليتين دون أن تتناول طعامًا، ثم تعرضت لهبوط حاد في الدورة الدموية فارقت على إثره الحياة. الحادثة تُعد مثالاً صارخًا على ظاهرة إرهاق الأطقم الطبية التي تكاد تكون يومية في مستشفياتنا، وتطرح تساؤلات ملحّة حول مسؤولية الإدارة الصحية عن حماية الكادر الطبي وعن أولويات إنفاقها وقيودها المؤسسية.
ما نعرفه عن واقعة وفاة سلمى حبيش
وفقا لما نشرته أسرٌ محلية ووسائل إعلام محلية، كانت الطبيبة الشابة تُؤدّي عملها على مدار فترتين متتاليتين (شفتين) داخل القصر العيني دون فترات راحة كافية أو وقت لتناول الطعام، ثم تدهورت حالتها فجأة وتم نقلها إلى العناية المركزة حيث تُوفيت. زملاء وسكان مستشفى أشاروا إلى محاولات إنعاش فاشلة قبل الإعلان عن الوفاة، فيما تصرّ أسرة الراحلة على أن سبب الوفاة «هبوط حاد» ناجمًا عن إرهاق شديد. هذه الروايات اتفقت عليها تقارير محلية متعددة.
لماذا هذا ليس «حادثًا مفردًا»؟ خلفية أعمق عن إرهاق العاملين في الصحة
الإجهاد والدوامات الطويلة لا يؤثران فقط على أداء الطبيب بل يشكّلان خطرًا صحيًا مباشرًا. الدراسات العلمية والهيئات الصحية الدولية تربط بين العمل لساعات طويلة ونوبات هبوط ضغط مفاجئة، واضطرابات نظم القلب، وزيادة مخاطر الحوادث أثناء العبء والعودة للمنزل.
كما أن التعب المزمن يضعف جهاز المناعة ويزيد احتمالات حدوث مضاعفات صحية حادة. لذلك، وفاة مريم أو سلمى لا يمكن أن تُفهم بمعزل عن بيئة العمل الشديدة الضغط التي يعمل فيها الأطباء خاصة في البلدان ذات أنظمة صحية مضغوطة.
أمثلة محلية سابقة: هل هناك «سجل» لحالات شبيهة في مصر؟
هذه الحادثة تأتي في سياق سجل محلي لوفاة أطباء شابّين بسبب الإرهاق أو أثناء تأدية العمل خلال السنوات الماضية.
تقارير صحافية ومنظمات محلية تحدثت من قبل عن عشرات من حالات وفاة أطباء على نحو مرتبط بالممارسات الشاقة: صحيفة ومتابعات حقوقية وثّقت حالات من 2021–2023 لمرضى أو أطباء فارقوا الحياة بعد عمل متواصل أو إصابات مهنية أو عدوى كوفيد-19 أثناء الخدمة.
تقرير إحصائي سابق ذُكر أن نحو 18 طبيبًا توفوا نتيجة الإرهاق خلال عام 2022 في مصر (تعدادات قد تختلف بحسب المنهجية)، كما طُرحت مطالبات بفتح تحقيق شفاف في هذه الحالات.
نماذج دولية: دروس من وفيات أطباء وطاقم تم استنزافهم
الحالات المأساوية المرتبطة بالإرهاق ليست حكراً على مصر. تجارب دولية توثق أمثلة مؤلمة:
- في المملكة المتحدة، حذّر تقرير رسمي من أن إرهاق موظفي الصحة يمثّل «خطرًا كبيرًا» على سلامة المرضى، وسرد حالات وفاة مباشرة وغير مباشرة لعمال صحيين وصل تأثيرها إلى حوادث طرق أثناء العودة من نوبات طويلة. المنهجية البريطانية ربطت الإجهاد بأخطاء طبية قاتلة وحرائق نفسية حقیقة.
- دراسات في الصين وأماكن أخرى وثّقت ما عُرف باسم «overwork death» بين الأطباء نتيجة ساعات عمل شديدة وطويلة ومتطلبات نفسية وجسدية قاسية. المحاضرات العلمية تشير إلى أن الحوادث المفاجئة (انسداد قلبي، فشل جهاز دوري) تحدث أكثر لدى العاملين لساعات مفرطة.
- حالات أخرى في دول غربية أظهرت مآلات مأساوية: ممرضات وطواقم شابة دخلت في حالات تدهور صحي ثم وفاة بعد شفتات متكررة وعدم الاهتمام بالأعراض المبكرة. تقرير عن وفاة ممرضة طُرِح في وسائل إعلام بريطانية مرتبط بتأخر التشخيص أثناء ضغوط العمل.
تلك الأمثلة تؤكد أن الوقائع الطبية لا بد أن تعامل بجدية كقضية صحة عامة وعمل، لا كمآسي فردية.
ما الذي يضغط على الأطباء؟ العوامل المهيكلة في مصر اليوم
- نقص الأفراد مقابل زحمة المرضى: نسبة الأطباء لكل سرير أقل من المعايير، مما يضطر المتاحين للعمل لساعات إضافية.
- نظام التعاقدات والامتياز: أطباء الامتياز وأطباء النوبتجية يتحملون عبئاً هائلاً مقابل رواتب متواضعة، فيُقبلون على ورديتين أو ثلاث متتاليات.
- ثقافة التضحية وعدم وجود حماية وظيفية: الخوف من فقدان الفرصة أو العقاب التأديبي يدفع البعض لعدم المطالبة بالراحة.
- ضعف بنية الرعاية والتجهيزات: نقص أماكن للراحة داخل المستشفيات، وعدم وجود وجبات ميسّرة أو فترات طعام مضمونة.
- غياب آليات محاسبة فعّالة: نادرًا ما تتبع السلطات تحقيقات شفافة تربط بين ظروف العمل والوفيات أو المرض الحاد.
هذه العوامل تُنتج «ماكينة» استنزاف للإنسان قبل أي شيء آخر.
الأثر النفسي والاجتماعي: كلفة على العائلات والمجتمع
وفاة طبيبة شابة هي خسارة مزدوجة: فقدان فرد قادر على إنقاذ الأرواح، وصدمة نفسية للعائلة والزملاء الذين غالبًا ما يتحمّلون عبء أتعاب الجنازات وتوقف المعيل.
كما تؤثر هذه الحوادث على ثقة الشباب في مهنة الطب وتزيد هجرة المواهب إلى الخارج، ما يفاقم أزمة نقص الكوادر.
دعوات وحلول مقترحة (فورية واستراتيجية)
- تطبيق سقوف زمنية صارمة للنوبات، مع مواعيد راحة إلزامية وتطبيقها رقابيًا.
- إلزام وجود مساحات استراحة وطعام مجانية للطواقم في كل مستشفى حكومي.
- فتح تحقيقات مستقلة وفورية في كل حالة وفاة مرتبطة بالعمل، ونشر نتائجها.
- تعزيز أعداد الكوادر عبر تسريع توظيف أطباء وأطقم تمريض، وتعديل جداول التعاقد.
- آليات حماية وظيفية لمن يطلب إجازة مرضية أو يعتذر عن شفت زائد بدون تهديدات وظيفية.
- حملات توعية إدارية لمديري المستشفيات حول مخاطر الإرهاق على السلامة وجودة الرعاية.
من «مأساة فردية» إلى ضرورة إصلاح شامل
وفاة الدكتورة سلمى حبيش ليست رقمًا في إحصائية؛ إنها إنذار صارخ بأن نظام الرعاية الصحية يعامل البشر كآلة إنتاج.
إن لم تتبنّ الدولة وإدارات المستشفيات إصلاحات عاجلة وواقعية، فسنشهد المزيد من حالات الوفاة والإصابات بين من يحموننا. حقوق العاملين في الصحة -الراحة، الغذاء، الحماية- ليست رفاهية، بل شروط للسلامة العامة.