في الأول من أغسطس 2025، خرج اللواء خالد مجاور، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق، بتصريح لافت في إحدى الندوات العسكرية المذاعة قائلاً: "أنا أحارب مين؟ أحارب أمريكا؟!"

تصريحٌ بدا فيه التبرير لتقاعس نظام الانقلاب المصري عن اتخاذ مواقف حقيقية ضد السياسات الأميركية أو الإسرائيلية، التي تتسبب بشكل مباشر في إراقة دماء الفلسطينيين في غزة وتثبيت واقع الاحتلال.

بعد أقل من أسبوع، وتحديدًا في 7 أغسطس، ظهر مجاور مجددًا في مداخلة مع الإعلامي أحمد موسى، مهددًا: "أي اقتراب من حدود مصر سيواجه برد قاسٍ لا يتخيله أحد."

في الظاهر، لا تناقض بين التصريحين، لكن بقراءة متأنية للوقائع، يتضح أن التهديد لم يُوجَّه لا صراحة ولا ضمنًا إلى إسرائيل، رغم قصفها المتكرر لمعبر رفح، واحتلالها لمحور صلاح الدين، وقتلها لجنود مصريين، فإلى من وُجه التهديد إذن؟

رسائل مبطنة.. لمن؟

وفق تحليل سياسيين مصريين وفلسطينيين، ومنهم عز الدين شكري، فإن التهديد ليس موجّهًا لإسرائيل، بل للفلسطينيين أنفسهم، فقد بات واضحًا أن نظام الانقلاب المصري يرسل رسائل مفادها أنه مستعد لاستخدام القوة إذا حاول أهالي غزة الفرار من جحيم القصف إلى سيناء.

وفي تصريح لافت قال الدكتور يحيى حامد، وزير الاستثمار الأسبق، على حسابه في منصة X: "من أهان دماء المصريين في رابعة والنهضة، لن يتورع عن سفك دماء أهل غزة عند أول محاولة لعبور الحدود هربًا من القصف."

قصف رفح واحتلال فيلادلفيا.. أين الرد؟

في مايو 2024، قُتل أربعة جنود مصريين على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في منطقة رفح الحدودية، وقتها اكتفى عبد الفتاح السيسي بتصريح مقتضب قال فيه: "نحن نتابع الحادث ونطلب توضيحًا من الجانب الإسرائيلي."

لم تتخذ الدولة أي إجراء عسكري، ولم تُسحب سفيرها، ولم تتوقف المعونات المتبادلة، بل على العكس، استمر التنسيق الأمني بين الجانبين.

وفي يونيو 2024، أكدت تقارير أمنية أن إسرائيل أكملت احتلالها لمحور صلاح الدين (المعروف بمحور فيلادلفيا)، وهو الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وغزة، بطول 14 كيلومترًا.

احتلال ذلك الشريط يمثل انتهاكًا مباشرًا لاتفاقية كامب ديفيد نفسها، التي يحرص النظام على التذرع بها حين يبرر عدم تدخله، ورغم ذلك، لم يصدر عن الجيش المصري أي تحرك، لا سياسيًا ولا عسكريًا.

معبر رفح.. 4 قذائف بلا رد

بين أكتوبر 2023 وأبريل 2025، تعرض معبر رفح البري، المنفذ الإنساني الرئيسي لغزة، لأربعة ضربات مباشرة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، بحسب تصريحات السيسي نفسه في مؤتمر الشباب الوطني بالقاهرة في يونيو 2025.

"إسرائيل ضربت المعبر 4 مرات وإحنا صبرنا"، قالها السيسي، مضيفًا: "ما بدناش الأمور تتطور."

تصريحات وُصفت بأنها قمة في الخضوع، إذ أنها أقرت بالعدوان دون أي ردٍّ، لا دبلوماسيًا ولا ميدانيًا، بل إن السلطات المصرية شددت من إجراءات منع نزوح الغزيين إلى سيناء، وكأن المشكلة هي في أهل غزة لا في المعتدي.

خالد مجاور.. عقلية أمنية تعكس عقيدة العسكر

خالد مجاور ليس مجرد جنرال سابق، بل يُعد من أبرز العقول الأمنية المقربة من دوائر الحكم، شغل رئاسة جهاز الاستطلاع حتى 2022، وكان له دور في ملفات التنسيق مع الجانب الإسرائيلي، لذا فإن تصريحاته لا تُفهم باعتبارها رأيًا شخصيًا، بل تعكس توجهًا مؤسسيًا لنظام يرى في المقاومة عبئًا، وفي الاحتلال شريكًا ضمنيًا في "الحفاظ على الاستقرار".

وهنا، يتساءل الصحفي عبد الله الشريف في أحد برامجه: "هل وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الجيش المصري يهدد الفلسطينيين بدلًا من أن يحميهم؟"

النهج المستمر.. من رابعة إلى غزة

ليست هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها استخفاف نظام الانقلاب المصري بالدماء، ففي مجزرة رابعة العدوية في 14 أغسطس 2013، قُتل أكثر من 1200 مواطن مصري في يوم واحد، وفقًا لتقارير "هيومن رايتس ووتش"، ومنذ ذلك التاريخ، أصبح الدم أداة سياسية في يد السلطة.

وبالتالي، فإن تهديد الفلسطينيين على حدود غزة ليس استثناءً بل امتدادًا لمنهج أمني يعتبر القوة القاتلة وسيلة لـ"منع الفوضى".

السيسي.. حارس بوابة الاحتلال

الوقائع كلها تؤكد أن ما يُمارسه نظام الانقلاب المصري ليس حيادًا، بل انحيازًا واضحًا ضد القضية الفلسطينية، من التواطؤ في حصار غزة، إلى التنسيق الأمني مع إسرائيل، إلى التهديد المبطن للاجئين، أصبح نظام الانقلاب يُمثّل حارس بوابة الاحتلال من الجهة الجنوبية.

بينما يصرح خالد مجاور بعدم قدرته على محاربة أميركا، ويهدد "من يقترب من الحدود"، لا تُوجه أي طلقة نحو من يقتل الجنود ويقصف المعبر ويحتل الأراضي، وهكذا، تتحول الجغرافيا إلى سجن، وتتحول الحدود من خطوط حماية إلى أسوار منع.

إن التناقض بين تصريحاته ليس سوى انعكاس للتناقض الجوهري في عقيدة نظامٍ يرى في إسرائيل شريكًا، وفي الفلسطينيين خطرًا، وفي الشعب المصري خصمًا.