مع اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل منتصف يونيو 2025، لم تكن مصر طرفًا مباشرًا في النزاع، لكنها تصدّرت قائمة الأكثر تضررًا اقتصاديًا في أفريقيا والشرق الأوسط.
تأثّر اقتصادها عبر قناة السويس، العملة، البورصة، الطاقة، والسياحة—كل ذلك من أثر هذه الحرب المأساوي.
بينما بدأت الدول المتحاربة تشهد تعافياً تدريجياً، ظل الاقتصاد المصري في وضع هش، وسط مؤشرات اقتصادية تقلق المستقبل القريب.
إليك قراءة مفصّلة لأسباب هذا التعثر.
تراجع عوائد قناة السويس: ضربة لصادرات العملة الصعبة
قناة السويس، الشريان الاقتصادي الرئيسي لمصر، تعرّضت لصدمة كبرى بسبب تصاعد الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر. نتج عنها تحويل مسارات الشحن حول رأس الرجاء الصالح، مما أدى إلى تراجع حاد في عائدات القناة—بما بين 40% و50% في بعض الفترات، وهو ما خفض ما يقارب 7 مليار دولار سنويًا من موارد النقد الأجنبي.
منصة "الأهرام ويكلي" أشارت إلى أن تراجع الإبحار البحري وصل إلى ما يفوق 60% في ربع أول العام المالي، بينما توقّع بعض الخبراء استعادة جزئية للعائدات بحلول 2025–26 فقط إذا استقر الوضع الإقليمي .
السياحة في مهب الريح: القطاع الأكثر تضرراً
قطاع السياحة—وهو الركيزة الثانية للاقتصاد المصري—انهار مجددًا بعد أن كان على وشك التعافي من آثار COVID-19. S&P توقعت انخفاضًا بين 10–30% في إيرادات القطاع، مع احتمال خسارة تصل إلى 11% من الاحتياطات النقدية.
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قدر أن آثار الحرب قد تطرح نمو الناتج المحلي الخاضع للضرائب بمقدار 2.6% إلى 3%، مع توقع ارتفاع نسبة البطالة إلى ما بين 8.7% و9.1%.
توقف الغاز الإسرائيلي: أزمة الطاقة المواجهة
أوقفت إسرائيل مؤقتًا تصدير الغاز بعد اندلاع الحرب، مما أوقف شحن اللحوم الحيوية للطاقة لمصر.
الاعتماد المفرط على الغاز الإسرائيلي—إلى جانب انخفاض إنتاج حقل "ظهر"—كشف هشاشة البنية التحتية الطاقوية.
اضطرار القطاع للصناعات الحيوية للعودة إلى الوقود البترولي الأحفوري أثقل كاهل فاتورة الطاقة وأصاب إنتاج الصناعات الكبرى بالإرباك.
الديون تفوق مصادر التعافي
رغم ضخ أكثر من 57 مليار دولار دعم مالي من صندوق النقد الدولي والإمارات وصناديق تنموية أوروبية، فإن خدمة الديون الخارجية التي بلغت نحو 42 مليار دولار عام 2024، فضلاً عن "الديون المخفية"، تخلق ضغوطًا مالية ضخمة.
ملفات هيكلية تراكمية: أزمة عميقة تكبح المساعي
الأزمة لم تكن وليدة الحرب، بل تراكمت عبر سنوات من اختلال البناء الاقتصادي:
- عجز التجارة الخارجية بحدود 31 مليار دولار عام 2022–2023، مع تباطؤ الناتج غير النفطي.
- الاستثمار في البنية التحتية دون تصدير فاعل: مثل مشروعات قناة السويس وغيرها من المشاريع الكبرى التي لم تُترجم إلى دخل مباشر أو صادرات قوية.
- اقتصاد مهيمن عليه من الدولة والجيش، مع امتيازات ضريبية تمنح بعض الكيانات المملوكة للجيش خوفًا من نشوء بيئة غير تنافسية.
الأثر الفوري: بورصة القاهرة تنهار مع تصاعد التوترات
- وصلت بورصة مصر (EGX30) إلى أسوأ أداء خلال العام، مع انخفاض قيمته بنسبة تجاوزت 7% في أولى جلسات التداول بعد التصعيد، ثم تعافى جزئيًا إلى خسائر بنحو 4.6% بنهاية الجلسة .
- إمبراطورية البحر المتوسط المالي تعصف بها رياح النزاع، ما يدل على هشاشة جاذبيتها كوجهة للاستثمار الإقليمي.
- في الوقت نفسه، الجنيه المصري تراجع أمام الدولار—من حوالى 49.8 جنيه إلى 50.6 جنيه في المعاملات المصرفية، ما يعكس خروجًا أجنبيًا ملحوظًا وتراجعًا في الثقة .
مقارنة الإقليم: بورصات الخليج تعاود الانتعاش سريعًا
في حين تعاني بورصة القاهرة من انهيار شبه فوري، شهدت أسواق الأسهم في الخليج انتعاشًا سريعًا، خاصة بعد مساعي التهدئة.
مثلًا، مؤشر قطر ارتفع بنحو 1.9%، دبي 3.4٪، السعودية حافظت تقريبًا على مستوياتها رغم التوترات .
هذا التباين يُعزّى لكون هذه الأسواق تعتمد على تصدير النفط والغاز ولها لمسة مباشرة من زوج السندات العالمية بينما مصر بلا بدائل واضحة في البدء بنفس السرعة.
مربط الفرس: لماذا تحمّل مصر العبء الأكبر؟
أولًا، مصر ثقيلة الاعتماد على قناة السويس التي تشكل مصدرًا حيويًا للعملة الصعبة. أي هزة في الملاحة البحرية تضرب احتياطاتها وسوقها سريعًا.
ثانيًا، حساسية الاقتصاد المصري تجاه الطاقة هي ميزة مزدوجة: فهو غير قادر على التوقف أو الاعتماد على مصادر بديلة فورية.
ثالثًا، التركيز على الديون والاستثمارات قصيرة الأجل يجعل مصر عرضة لتقلبات السوق ضمن منطقة مضطربة سياسياً.
رابعًا، رغم تلقي مصر لشحنات إنقاذ مالي من الإمارات والصندوق، فإن ذلك يُعد مؤقتًا ولا يمكنه تعويض تراجع المصدرات أو الركود في القطاعات الأساسية.
لماذا استعاد الآخرون ولا يستعيد الاقتصاد المصري؟
الدولتين المتحاربتين—بغض النظر عن حجم خسائرها—أُتيحت أمامهما فرص انتعاش سريع، لكن مصر:
- ثمّة اعتماد مفرط على مصادر دخل تراكمت من النزاعات السابقة فقط.
- غياب تنويع اقتصادي حقيقي يجعلها عرضة لكل صدمة.
- ارتفاع التضخم وفقدان العملة المحلية للثقة، وخطط أسعار الوقود الجديدة، أدّت لتداعيات اجتماعية حادة.
خطوة إلى الأمام: لماذا لم يترجم الدعم إلى تحوّل اقتصادي؟
رغم حصولها على:
- قروض وإعانات من الإمارات، وصندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي—إجمالي تجاوز 57 مليار دولار.
- استثمارات هائلة مثل مشروع "رأس الحكمة" بقيمة 35 مليار دولار.
إلا أن الاقتصاد ظل في صدمة، بسبب:
- عدم استثمار هذه الأموال في قطاعات إنتاجية أو تحسين الطاقة أو الزراعة المحلية.
- استمرار العمل بروتين إصلاح بطيء وأحيانًا عكسي في تطبيق السياسات المالية.
- الاعتماد على الأموال الساخنة بدلًا من التوسع في صادرات القيمة المضافة أو الصناعات الثقيلة.
تحليل "الشرق الأوسط الإخباري" أكد أن النجاح الحقيقي يتطلب خفض مديونية الدولة، وتحفيز الصادرات، والابتعاد عن سياسة الاعتماد على الإنفاق المركزي فقط.
الخلاصة: هل التعافي ممكن؟
الاقتصاد المصري، رغم تحيّده عن الحرب، خسر أكثر من كثيرين في المنطقة. فجميع المؤشرات—سياحة، قناة السويس، الطاقة، الدين—تتحكّم بمستقبله.
فحصول بورصة مصر على المركز الأول ضمن الأكثر تضررًا من الحرب، يأتي من هشاشة اقتصادية ناتجة عن اعتماد مفرط على قناة السويس والسياحة والغاز المستورد، دون وجود سياسات طاقة بديلة قوية أو تنويع اقتصادي حقيقي.
في حين يبدو الجيران الخليجيون أسرع في التعافي مدعومين بالاحتياطيات النقدية والدعم النفطي، فإن مصر بحاجة إلى التحول الاستراتيجي سريعًا نحو تنمية مصادر محلية للطاقة، دعم التصنيع والتصدير، وتنويع مخاطرتها الاقتصادية، قبل أن يتحوّل الهزة الإقليمية القادمة إلى كارثة وطنية متكاملة.