في 6من أغسطس 2025، هزّت استقالات جماعية في قسم النساء والتوليد بكلية الطب بجامعة طنطا المجتمع الطبي: استقال 8 طبيبات من أصل 15 طبيبة نائبة. هذه الحادثة لم تكن مجرد تنقل وظيفي، بل تنبيه صارخ لحالة انهيار القيم المهنية والإنسانية في بيئة العمل.
التفاصيل الموثقة:
نشرت الطبيبة رنين جبر بيانًا على فيسبوك عرضت فيه تجربتها خلال 11 شهراً، مع وصف دقيق لحجم الضغط المعيشي والمهني، قائلة: "قالولنا وجودكم مش مرحب بيه... قدموا استقالاتكم وامشوا."
وأوضحت أن النوبات امتدت لـ48 ساعة، وبعضها تجاوز 72 ساعة بدون نوم كافٍ، ويضطررن للنوم على الأرض أو أسرة المرضى بسبب غياب المناخ المناسب.
الطبيبة سارة مطاوع شطبت العنوان برسالة عميقة: "حين يصبح الاستمرار خيانة للنفس.. يكون الانسحاب احترامًا لها."
وقالت باستياء وخيبة: "لا ماجستير، لا تدريب، لا احترام... نُعامل كأننا نواب زبالة."
رد الإدارة الرسمية جاء سريعًا:
حضر عميد كلية الطب اجتماعًا طارئًا مع الطبيبات المستقيلات. وقد جرى التوصل إلى قرارات منها:
تحويل نوبتجزيات العمل من 48 ساعة إلى فترتين مدة كل منها 12 ساعة.
نقل القسم إلى مستشفى تعليمي فرنسي جديد وضخ موارد إضافية.
إطلاق فرص تدريبية، تسريع إجراءات الدراسات العليا وإعادة النظر في بيئة الإقامة.
لكن التساؤل بقي: هل هذه التعديلات ترميمية فقط، أم محاولة لإنقاذ ما تبقى من هيكل منهار؟
جامعة الإسكندرية تستفيق على استقالات 117 طبيباً
في مارس–أبريل 2025، وقع حادث أقل صداه إعلاميًا لكنه لا يقل خطورة:
تقدّم 117 طبيبًا من مستشفيات جامعة الإسكندرية ومعهد البحوث الطبية باستقالاتهم دفعة واحدة.
رأت المصادر أن هذه الإسقاطات تكشف عمق الأزمة، حيث بات "نظام النيابة الجامعية" عبئًا ولوة، لا فرصة لتكوين مهني ومستقر.
رد الجامعة كان أيضًا استباقيًا:
عُقد يوم 26 أبريل جلسة علنية لاستقطاب أطقم من خريجي الامتياز لسد الفجوة. كما أشارت التقارير إلى ضغوط العمل التي يتعرض لها الأطباء المقيمون، بما في ذلك ساعات عمل تفوق 100 ساعة أسبوعيًا، وأجور لا تغطي الجهد المبذول.
خلفية الأزمة: منظومة صحية تنهار
1. أجور ضعيفة مقابل ضغط مرهق
العديد من خريجي الطب الشباب–بل حتى الأوائل–يرفضون التعيين في النيابة أو يسارعون بالاستقالة بمجرد الحصول عليها، رغم افتقارهم لبدائل وظيفية قوية. الرواتب لا تستحق الجهد، ولا تُوازِي تكلفة الحياة والإنهك المالي.
2. بيئة عمل غير لائقة تحطم الكرامات
تهديد دائم من أعلى المستوى، عدم توفر أماكن للنوم أو أخذ استراحة، أو حتى خصوصية للاستحمام أو الصلاة. "من يُفترض أنه يمارس مهنة الرحمة يتعرض للتعبير عن الإهانة ويُمنع من راحة جسدية أو نفسية"
3. غياب فرص النمو والتطوير المهني
رغم الوعود، لم تُفتح الكثير من الشباب النابهين الباب أمام الدراسات العليا أو التخصصات، بل ثُبّطت إرادتهم للدفع عن كليات الطب كصنع للمستقبل.
4. هجرة الكفاءات بلا هوادة
أرقام رسمية تُظهر أن نسبة المتواجدين داخليًا مقارنة بأعضاء نقابة الأطباء أقل من 40%. الكفاءات تسرع الرحيل إلى الخارج، بينما الداخل يعاني من ترهل حقيقي.
توصيات لإنقاذ القطاع الصحي الأكاديمي
رفع الأجور وإعادة هيكلة إمتحان النيابة بشكل يجعلها مسارًا تعليميًا مهنيًا عوضًا أن تكون ورقة اجتماعية تؤدي للخروج.
ضبط ساعات العمل لتكون 12 ساعة فعالة بدلًا من تدريجيات غير إنسانية.
توفير بيئة إقامة حقيقية: غرف خاصة، وسائل راحة، وحماية نفسية ومادية.
إنشاء برامج واضحة للتطوير الأكاديمي تشمل المشاركة في المؤتمرات والدراسات العليا.
آليات استجابة واضحة من الإدارة: آليات تواصل مباشر، لجان للشكاوى، وتعويضات واضحة.
حين تُغتال الأحلام، تكون الكارثة كاملة
طبيبات طنطا و117 طبيبًا بالإسكندرية لا يستقيلون من عمل بل من واقع قاتل:
يهجّرون حلمهم داخل بلدانهم، ويخشون من أن تستمر السياسة التعليمية والوظيفية في سحقهم كشباب متفوق.
قرارهم هو صرخة مكتومة من كرامة مسلوبة، وإرادة محاصرة في نظام لا يقدّر الإنسانية ولا الاستثمار في الكفاءات.
إن التغييرات الطارئة لا تكفي. المطلوب استراتيجية شاملة تعيد بناء ثقافة تقدير الطبيب وحمايته داخل الدولة قبل العزوف التام.